الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قوة الأشياء وقوة الأفكار

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2023 / 5 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


نتحدث عن قوة الأشياء ، للتدليل على قوة الواقع ، وسلطة الأشياء ، في مقابل قوة الأفكار وسلطتها .
تشير الأشياء الى سلطة الاحداث ، والوقائع ، والمؤسسات ، والزمان ، والدهر ، حيث تبدو الأفكار أحيانا وكأنها لا شيء ، وقبض ريح ، أمام قوة الأشياء وثقل الوقائع .
وقد شهد تاريخ الفكر ، صراعا وتنافسا بين القوتين ، داخل النظرية الواحدة نفسها ، مثلما هو الامر في النظرية الماركسية .
فقد إنبرى ماركس في الكثير من كتاباته ، الى نقد الأفكار ، وإظهار مثاليتها ، وتعاليها ، ووهميتها ، وذلك في معرض نقده للفلسفات المثالية ، محاولا ارجاعها الى قاعدتها المادية الإنتاجية ، والى الممارسات والمؤسسات التي تؤطرها وتتحكم فيها .
في " الأيديولوجية الألمانية " ، صب ماركس جام غضبه ، على الفلسفة المثالية التي تعتقد باستقلالية الأفكار وقوتها ، وتتصور ان التغير الفكري الفلسفي ، بديل عن التغير السياسي ، وانّ الثورة الفكرية ، تقوم مقام الثورة الاجتماعية .
وقد تبلورت فكرة إحتقار الفكر والأفكار في الماركسية ، في الاطروحة الحادية عشرة من اطروحات ماركس حول " فيورباخ " " Fiourbake " ، والتي يقول فيها : " لقد اكتفى الفلاسفة بتأويل او تفسير العامل ، في حين يتعين تحويله " ، أي تغييره ، وهي قولة لم تخل من نبرة إحتقارية للفلسفات النظرية ، وللفكر التأملي عامة ، وكأن لها اسوء الأثر على موقف الماركسيين من الأفكار ، مما جعل المفكر الفرنسي " التوسير " " Altosire " يقول ، بان ماركس كان وضعيا في هذه الفترة " positiviste " ..
وهناك فكرة ماركسية أخرى تم افراغها من محتواها السوسيولوجي والفلسفي ، واستعمالها كأداة فكرية للحط من قيمة الأفكار المجردة عن أساسها الاجتماعي ، وهي قولة ماركس الشهيرة : " ليس وعي الناس هو الذي يحدد وعيهم " .
لقد تحولت هذه الفكرة بعد اجتثاثها من سياقها الأصلي ، من فكرة منهجية تؤكد الجذور الاجتماعية للأفكار ، او التحديد السوسيولوجي للوعي ، الى أداة للحط من قيمة الفكر والأفكار والوعي .
وبعد قيام الثورة الروسية ، شاعت أفكار ذات نفحة وضعية قوية ، لكنها مكيفة مع الماركسية ، من قبيل ان جراراً واحدا ، خير من عشرات الأفكار فيما يخص تغيير ذهنية الفلاحين ، او ان كهربة الريف ، احسن من عشرات حملات التوعية .
نعم ، كانت هناك اتجاهات ماركسية تؤكد على " ضرورة الوعي " ، وعلى دور " النضال الأيديولوجي " ، و " البنية الفوقية " كغرامشي مثلا ، لان تحول الماركسية من فكرة ونظرية ، الى مؤسسة تمتلك السلطة ، او تسعى الى امتلاكها ، رفع من معاملها العملي ، والتجييشي والتعبوي . ولم تكن التعبئة والاستقطاب ممكنين ، الاّ بالرفع من قيمة الفعل ، والنضال ، والممارسة على حساب التفكير والتأمل . فالوقت كان وقت تعبئة ونضال ، للحصول على السلطة ، او للحفاظ عليها .
لذلك نفترض ان السبب الأساسي في انزلاق اغلب الاتجاهات الماركسية ، الى الاعلاء من شأن الفعل والممارسة ، على حساب التفكير والتأمل ، هو ضرورة التعبئة الجماهيرية التي إقتضاها تحول الماركسية من نظرية الى مؤسسة ، ومن مشروع فكري ، الى مشروع اجتماعي وسياسي ، ومن طوبى الى دولة .
لكن الطريف في ذلك كله ، انه في الوقت الذي كان الماركسيون منشغلون بالدعوة الى الممارسة ، والحد من شأن التفكير ، كانت الأفكار الماركسية تسري في العقول والنفوس ، سريان النار في الهشيم ، حيث استولت الأفكار الماركسية على العديد من العقول الكبيرة في هذا القرن ، وعلى وجدان الملايين من الناس في العالم ، واسهمت في قلب ، او محاولة قلب الكثير من الأنظمة السياسية والأيديولوجية في الشرق والغرب ، وغزت اذهان ونفوس النخب المثقفة ، والجماهير في العالم الثالث ، ممارسة وتأثيرا بلغ حد الافتتان والسحر .
وقد الحقت الأفكار الماركسية حول أولوية الممارسة والفعل والتغيير ، على المعرفة والتأمل والنظر ، مساسا كبيرا بفكرة فاعلية واهمية الأفكار ، وذلك بسبب الخلط بين التحديد السوسيولوجي ( المادي ) للأفكار التي الحّت عليها الماركسية ، في اطار صراعها ضد الاتجاهات المثالية ، وتحت ضغط متطلبات النضال ، والانخراط في الفعل التاريخي ، والحط من شأن الفكر ومن قيمة الأفكار .
ولا شك ان هذه الموجة تضاءلت الآن ، وتبين انّ من الضروري التمييز بين المستوى الابستيمولوجي ( المعرفي ) الذي يلح على المحددات المادية ( السوسيولوجية ) للأفكار ، وبين القاعدة المعروفة والمتداولة منذ القدم ، حول فعالية الأفكار ، وقوتها ، وسلطتها . فالأفكار كما يقول " كارل بوبر " ، هي اخطر الأشياء وأقواها ، وان كانت أيضا اكثر الأشياء خبثا ومكرا ، لأنها لا تحمل قيمتها في ذاتها ، بل تعكس ، بدرجة او أخرى ، ارادات في التضليل او الاستغلال ، او خدمة الطغيان والاستبداد ، او تغليف الحقد او مقاومة الرغبة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هي صلاحيات رئيس الجمهورية في إيران؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. هيئة الانتخابات الإيرانية تعلن عن جولة إعادة بين بزشكيان وجل




.. الداخلية الإيرانية: تقدم بزشكيان مؤقتا يليه جليلي


.. الداخلية الإيرانية: تقدم بزشكيان على جليلي بعد فرز 19 مليون




.. مقتل عشرات الفلسطينيين وإصابة آخرين في قصف إسرائيلي على مناط