الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسطورةُ التوأم

دلور ميقري

2023 / 5 / 4
الادب والفن


هذه الحكاية، يُقال أنها حصلت في زمنٍ ملكيّ ما، في بغداد أو القاهرة أو اسطنبول. لكنني، كقارئ مُدقق في التاريخ، أعتقدُ أنها أسطورة؛ وبالتالي، من المفترض ألا يهمنا إلا قليلاً الزمانَ والمكان، الخاصين بها.
تقول الحكاية أنّ شقيقين، هما توأمُ في حقيقة الحال ومن عامة الشعب، دخلا في نزاع على الأرض، وذلك عقبَ وفاة والديهما في حادثةِ غرق قاربٍ نهريّ أو ربما بحريّ. الأكبرُ سناً من ذينك التوأم ( بنصف ساعة ـ كما كانت أمهما تتندّرُ في حياتها )، تمكّنَ أخيراً وبطريقة قانونية مشبوهة، من الاستيلاء على كامل الأرض، وما لبثَ أن باعها وانتقلَ إلى المدينة كي يُصبحَ مُرابياً. الشقيقُ الآخر، المنكودُ الحظ، غادرَ بدَوره إلى المدينة ولكن ليعمل كحمّال في مينائها.
ثمة في أعلى رابية في المدينة، كانَ يَجثمُ أضخم مبانيها قاطبةً. إنه قصرُ الملك، الذي ماتَ مؤخراً دونَ أن يُسمّي مَن يخلفه. ذلك أنه وُهِبَ توأماً، كانا قد أضحيا في سنّ الشباب عندما وقعَ فريسة المرض العضال. قبلَ دخوله في طور الإحتضار، اضطر العاهلُ إلى جعل المملكة قسمين متساويين، ليعهد بهما إلى ابنيه، متأملاً أنه بذلك يُرضي كلاهما بقسمته. لكنّ الأكبر سناً منهما ( بنصف ساعة ـ كما تذكر الحولياتُ الملكية! )، رأى نفسه كوليّ العهد الشرعيّ: بمجرد وفاة الملك الأب، وبمعاونة رئيس الحرس، عمدَ إلى خلع شقيقه ومن ثم إلى نفيه لجزيرةٍ صغيرة ومهجورة، تتصل بالمدينة بوساطة قوارب الصيادين.
نعودُ إلى الحمّال الشاب، وكانَ ذات ليلة ربيعية جالساً في مدخل كوخه، وقد انعكسَ على أفكاره بصيصُ شعلة الفنار، القائم كبرج غامض وسط المياه. الكوخُ، كانَ قد بناه بشكل عشوائيّ، مستخدماً ألواحَ سفينة عاثرة الحظ، تحطمت على صخور الشاطئ حينَ حادت لسببٍ من الأسباب عن الطريق المؤدي إلى الميناء. وعلى الأرجح، أنه كان وقتئذٍ يفكّرُ بشقيقه التوأم، الذي ازدهرت أحواله بفضل الربا، فامتلك منزلاً فخماً في أرقى أحياء المدينة. ولعل الحمّال المسكين، عزا غنى شقيقه إلى نصيبه هوَ في قطعة الأرض، المُستولى عليه جوراً وغشاً. إنه كذلك يُلاحق في فكره علاماتِ بؤسه الراهن، وإذا بقاربٍ صغير تلفظه المياهُ عند أقرب نقطة من الشاطئ حَذاء الكوخ. وهلةٌ على أثر مغادرة شبحين للقارب، مزّقت صرخةٌ جوفَ الليل، المهيمنُ بصمته الوقور على المكان المقفر. هبّ الحمّالُ من مكانه، متناولاً عصاه المستخدمة نهاراً في العتالة، فانطلقَ كالبرق باتجاه الصوت، طالما أنه أفصحَ عن نداءٍ أنثويّ للاستغاثة. سرعانَ ما دخلَ في مواجهةٍ مع ثلاثة شبان أشرار، كانوا في سبيلهم لسلب تينك المرأتين، اللتين غادرتا القاربَ للتو. هجمته الجنونية، جعلتهم يتراجعون مذعورين قبل أن يركنوا إلى الفرار باتجاه غابة الحَوْر القريبة، المنتهي دربُها الوحيد على أعتاب القصر الملكيّ.
" هذه وصيفتي. أما أنا، فشقيقة الملك! "، قالتها ببساطة إحدى المرأتين. كان الحمّالُ قد قادهما إلى كوخه كي يستريحا قليلاً، وهناك في نور المشعل الواهن بهرَهُ فداحةُ حُسْن من عرّفت نفسها بالأميرة. وكانت هذه مطمئنة إليه، بحيث واصلت حديثها لتخبره أنها كانت في زيارة سرية لشقيقها الآخر، المحجوز في الجزيرة. أعجبَ الحمّالُ أيضاً بجسارتها، بالأخص عندما رفضت بأدب عرضَهُ أن تكون بحمايته حتى وصولها للقصر. غبّ مغادرتها مع وصيفتها، طفقَ في حيرةٍ من أمره: " أكنتُ أحلم، أم أنني التقيتُ حقاً بأجمل نساء المملكة وأرفعهن مقاماً؟ ". عليه كانَ أن يبقى محتاراً في تالي الأيام. لحين أن فاجأته الأميرة، ذات ليلة، بالتسلل إلى كوخه؛ وكانت أيضاً برفقة الوصيفة. أوضحت بشيءٍ من الخجل، أنها جاءت كي تعبّر له عن الامتنان: " سهوتُ عن ذلك في حينه، طبعاً بالنظر لاضطرابي ". مع مرور الوقت، واضطراد الزيارات، كانَ لا بد للحب أن يحتل موقعَ الخجل. لكن سرّهما ما أسرعَ أن فشا، لينتقل يوماً من أفواه العامة إلى سَمَع الملك.
كان الحمّالُ في ذلك اليوم في طريقه من الميناء إلى الكوخ، لما أوقفته الوصيفةُ، المتنكرة بهيئة بائعات القماش: " عليكَ الاختفاء في مكان آمن، لأنهم اكتشفوا علاقتك بسيّدتي. حراسُ القصر، أُمروا بقتلك حيثما وجدوك ". بادرَ عندئذٍ للتوجه إلى منزل شقيقه، مُقدراً أنه أفضل مكانٍ مُتاح للتخفي: " سأمكثُ عنده مؤقتاً ريثما تهدأ العاصفة، فلا أحد في المدينة يعرفُ أنني شقيقه ". ثمة ومثلما توقّعَ، رُفضَ طلبُ ايوائه إلا لليلة واحدة. كان حكمةً من الحمّال، عدمُ إفصاحه للمرابي عن السبب الحقيقي للجوئه إليه. هذا الأخير، كونه يعيش وحيداً ولا يُغادر منزله تقريباً، فقد خفيَ عنه حكايةُ عشق شقيقه للأميرة. وبما أنّ تفكيرَهُ محصورٌ بالمال، هَجَسَ أولاً بأنّ شقيقه زاره كي يطلب منه معونة.
طمأنه عند ذلك الحمّالُ: " أتيتُ إليك، حَسْب، مدفوعاً بمشاعر الأخوّة وكي لا تنقطع صلة الرحم بيننا ". قالها فيما كان بصرُهُ يتنقل بإعجاب في أنحاء المكان، المُترف بعمارته وأثاثه. ما لم يكن يدورُ في خلده إذاك، أنه في الأثناء كانت العيونُ قد تعقّبته إلى منزل شقيقه. بعد نحو سويعة، إذا بابُ المنزل الخارجيّ يُحدث دوياً متتابعاً بفعل طرقاتٍ عنيفة ولجوجة. حالما فتحَ المرابي البابَ، صاحَ أحدُ أولئك العيون من موقفه وراء الحراس: " هذا هوَ الشخصُ المطلوب! ". شاءَ صاحبُ المنزل الاستفهامَ عن جليّة الأمر، بيد أنّ صوته اختنقَ على أثر طعنة رمحٍ اخترقت عنقه. جرّ الحراسُ الجثةَ إلى عربةٍ يشدّها بغلٌ، فطرحوها ثمة بعدما غطوها برداء صاحبها المُدمّى.
في ربيع العام التالي ( بحَسَب زعم الحكاية دائماً )، زُفّت الأميرةُ إلى حبيبها بعرسٍ شهدَهُ الخاصةُ والعامة. مرّ موكبُ الزفة الملكية بالقرب من الميناء، فتذكّرَ العريسُ بسعادة أنّ عمله كحمّال كانَ سبباً في تعارفه بحبيبته. في السوق، المُعبّق بأريج زهور الفل و والمُنار بالمشاعل، خرجَ الرجالُ المسنون إلى الطريق كي يقسموا من ثم، وكالعادة، أنهم لم يروا قبلاً عروسين بهذا الجمال. ذلك كان عشيةَ يومٍ حافل، شهدَ نهارُهُ تتويجَ سجينِ الجزيرة ملكاً بمكان شقيقه التوأم، الذي سبقَ أن انهال عليه حراسُ القصر برماحهم بعدما تآمر قائدهم مع أعيان البلد للتخلص من الحكم المُتعسّف والجائر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس