الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطلاق الصامت .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2023 / 5 / 5
الادب والفن


تجاوز ( هادي ) الثلاثين من عمره ، وبعد أن أخذ نصيبه ، وأطفأ ظمأه من العزوبية ، اتخذ قراراً في أن يهدأ ويستقر ويتزوج .. لم يجد أمامه وسيلة أفضل من تكليف أمه لتجد له فتاة على ذوقها .. راحت الأم تبحث بين الاسر الكريمة في المدينة .. أخذت العروض تنهال عليه كل يوم ، وهو يختلق العيوب من تحت الارض .. حتى جاء اليوم الذي عرضوا عليه صورة زوجته الحالية ( سعاد ) ..
قالت أمه وهي تعرض مواصفاتها أمامه :
— فتاة ممتازة .. متعلمة .. جمال .. اخلاق .. بنت ناس .. ماذا تريد أكثر من هذا ، يا ابني .. ؟ كفى .. تعبت .. الله يصلح حالك .. !
يتأمل الصورة ملياً ويقول :
— جميلة .. نعم يا أمي لكنها تبدو صارمة زيادة ومتسلطة ..
وبعد مقارنتها مع مجموعة من صور الفتيات وجدها أقربهن الى ذوقه والى خياله كشاب يجذبه الجمال أولاً ..
وتزوجا بعد مخاض عسير امتد لأشهر شابته مشاكل عدة ..
ومنذ بداية زواجهما وجد في مزاجها ما يناقض مزاجه في أمور كثيرة .. كانا متباعدين أكثر منهما متقاربين ، وكان بينهما بون شاسع لا يمكن ردمه بسهولة .. رغم انتمائهما الى جيل واحد ، وأعمارهما متقاربة .. لا تفصلهما عن بعض سوى ثلاث سنوات فقط .. قال له صديقه ( وليد ) مطمئِناً بأن الأمر طبيعي لا يستدعي القلق ، فكل واحد منهما قد جاء من خلفية مختلفة .. من عالم مختلف .. يجهل احدهما التفاصيل الدقيقة عن الآخر .. ستتلاشى كل هذه الفروقات بمرور الزمن .. شرط أن يُبدي كل طرف تنازلاً ما الى الآخر .. كي يلتقيا في نهاية المطاف عند منتصف الطريق .. !
يبدو أن القدر قد وضع في ( هادي ) هذا أسوء ما في الدنيا من سيئات .. التدخين و الخمر والمخدرات ، ورغم الوعود التي أطلقها معززةً بأغلظ الأيمان بأنه سيتخلى عنها كلها بعد الزواج إلا أنه أخلف وعده ، ولم يفعل .. !
وبدأت الخلافات تدب بينهما .. الواحدة تلد الأخرى ، فهي مثلاً لا تطيق السجائر ، ولا تطيق رائحتها .. ففرضت عليه إن اراد تدخين سيجارة أن يدخنها في الحديقة خارج البيت ، وإن جاء مخموراً عليه أن ينام في الصالة ، ولا يقترب منها ابداً .. لكنه كثيراً ما كان يخالف الفرمان الأخير بالذات ، ويقتحم عليها غرفتها ، وإن صدته عن معاشرتها يضربها ، ويرغمها بالقوة .. !
وأكثر من ذلك .. كان يتهمها بأنها قذرة .. باردة ، وسليطة اللسان .. اتهامات قاسية دهمتها على غير انتظار ، فترد عليه بعصبية تكاد عروق رقبتها تتفجر ، وكلماتها تغص بالدموع :
— أنا .. أنا ، يا مفتري .. أنا قذرة وباردة يا ابو العرق .. يا سكير .. يا عاجز .. ( ترفع يديها الى السماء وتفتح ثوبها عند الصدر ) .. سلمتك الى الله ليأخذ حقي منك .. ما الذي ينقصك .. ؟ ملابسك نظيفة .. أحسن أكل تأكل .. البيت نظيف كأنه مقام …. !
تمر رعشة غضب على وجه هادي فيقاطعها صائحاً :
— أتربدين أن أقول لكِ ما الذي ينقصني .. ؟ ( يشير بسبابته اليها بعصبية .. ) .. أنتِ .. ! .. ماذا تضنيني بقرة لا هم لها سوى معدة ممتلئة .. لست حيوان يا سعاد خانم حتى تكون مهمتك الأساسية تكديس أشهى الأطعمة في معدتي .. عندك مهام أخرى أهم .. في الحياة مباهج ومتع لا حصر لها غير الأكل .. افهمي ، يا بنت الناس .. !
— سأكون كلي لك متى ما تمكنت من غرائزك الدنيئة ، وتركت هذه الموبقات .. !
يُطلق شكواه بصوت جاف جريح يملأه الألم :
— أنتِ من ساقتني الى هذا الطريق بصدكِ الدائم لي .. تعامليني وكأني بصقة تثير اشمئزازك ، ولا كأني زوجك .. نعم كنت أشرب ، وأحياناً أكيف .. لكن ليس بالادمان الذي أنا عليه الآن .. أصلحي حالكِ انتِ أولاً .. وبدلاً من الاستماتة في مقاتلتي بكل الأسلحة ، وبكل الطرق كان عليكِ احتضاني ومساعدتي ، والوقوف معي لا ضدي .. أنا متعب بحاجة الى من يأخذ بيدي .. ومن يكون هذا إن لم يكن من أقرب الناس الي .. أنتِ .. أتعرفين .. أن فشلنا في التواصل معاً مثل بقية خلق الله هو مأساتنا وخراب بيتنا .. !
اضاءت كلماته أشياء كثيرة في داخلها ، فقدمت ما تراه حلاً .. غافلة أو متغافلة عن أشياء أخرى قد تكون بيدها ، وهي جوهر المشكلة .. !
— أرجوك هادي .. ثوب الى رشدك ، وأذهب الى طبيب يعالجك حتى لا تُضيع نفسك وتضيعنا معك ..
يرد عليها كأنه سأم ، ويريد أن يختم اللقاء :
— هكذا ببساطة .. ؟! سأذهب الى الطبيب .. حاضر .. لا مشكلة ، وأنتِ .. ما دورك ؟ وبيدك نصف الحل إن لم يكن كله .. !
وفي محاولتها رفع الظلم عن نفسها تقول بانها ليست قذرة ، وانما هو من ينشر القذارة في البيت عندما يلقي باعقاب السجائر هنا وهناك ، وعندما يسكر ويعربد ينشر الفوضى في كل مكان ، ويحطم كل شيء أمامه ، وذات يوم .. تصوروا .. وقف وهو سكران ، أو مسطول .. لا فرق ، وبال على سجادتها للصلاة .. أيمكن أن يكون في الدنيا خبل أسوء من هذا .. ؟ جُنت المسكينة .. دفعته بقوة فتهاوى ، وكاد أن يسقط سقطة موت .. ! وعندما سألوه عن ذلك قال .. أريدها أن تؤدي واجبها تجاه زوجها مثلما تؤدي واجبها تجاه ربها .. !
الغريب انها رغم كل هذا العذاب ، وهذه المعاناة التي لو حمّلوها على ظهر بعير لبرك .. لم تطلب الطلاق منه يوماً .. لم تكن تدري سر هذا الاستسلام الغريب ، والأكثر غرابه أنه لم يخطر على باله تطليقها ، ولم يفكر في يوم من الأيام بالزواج من أخرى ، أما هي فكان أقصى ما كانت تتمناه أن يتخلى يوماً عن هذه العادات السيئة ويعود انسان طبيعي ، وكانت تقول له .. أنت طيب القلب .. حنين ، ونفسك حلوة .. لم تتركنا يوماً بحاجة الى شيء .. حرامات .. كان يمكن أن تكون في نظري خير الناس لو تركت هذه الشرور .. !
تعلو وجهه سحابة من الهم .. يصمت .. يحتضن رأسه بين يديه .. يهزه .. ويُطلق زفرة حارة ، ثم يتمتم مع نفسه : هكذا بكبسة زر .. لا فائدة .. لا فائدة.. ! يُخرج علبة السجائر .. يشعل واحدة .. يشد نفسين متتالين بشغف .. ثم يهب واقفا على قدميه ، وبغتة يرفس الكرسي الذي أمامه بعنف ، ويغادر مسرعاً .. !
وعند منتصف الليل يعود ثملاً للغاية لا تكاد ساقاه تحملانه .. أيقظها وقع أقدام خفيفة مضطربة عند الباب ، فانتفضت كالملدوغة .. رأته واقفاً يدندن مرة ، ويهلوس بكلام السكارى الفارغ مرةً أخرى .. يتلاحق صوتها المكتوم الوسنان تطلب منه أن يصمت ، فالاطفال نيام ..
يهمس :
— إشششش .. ! ( يضع اصبعه على فمه ، وعلى وجهه إبتسامة بلهاء ميتة) ..
يتجشأ .. وهو يترنح في حركة بطيئة .. يضرب الهواء بيد مرتعشة ، ويحاول جاهداً أن ينتصب ماشياً على قدميه .. يتطلع اليها بعينين فارغتين غائمتين ، ويهم بمعانقتها .. يفشل .. ثم يمد بوزه يريد تقبيلها .. تبعده عنها .. تقوده من يده ، وهو يخطو ببطء شديد .. يتطوى بين يديها كعمود من الدخان ، ورائحة العطن تتبخر من فمه وملابسه .. يراودها احساس مقرف بالغثيان .. تساعده على خلع سترته وحذاءه .. تدفعه .. يسقط خائراً منهاراً على الكنبة .. يخلد الى السكون ثوانٍ ثم يغرق في نومه على الفور .. سرعان ما تسمع غطيطه المزعج يملأ البيت .. !
وعندما عادت الى فراشها أصابها الارق لساعات عاشت فيها صنوف العذاب قبل أن يغمض لها جفن .. !
وهكذا تحولت حياتهما إن جاز لنا تسميتها كذلك الى وتيرة شاقة متصلة من العذاب البطيء .. !
وفي الصباح .. يسألها ابنها ( علي ) ، وتعيد عليها ابنتها ( سمية ) نفس السؤال :
— لماذا ينام بابا هنا في الصالة ، ماما .. ؟
تترقرق عيناها بالدموع ، ولا تجيب .. !
ومرت السنين .. ما أثقلها .. ! كثرت فيها فترات الصمت .. كصمت المآتم .. في جو من الكآبة السوداء .. وجوه حزينة عابسة مقطبة تملأ البيت بالغم .. وكان الحديث بينهما إن وقع ، فهو متعثرٌ عابرٌ متقطع وتافه .. لا يكاد يتواصل حتى ينقطع .. كأن الحياة قد لفظت انفاسها ، ورحلت عن هذا البيت الكئيب ، ثم انفصلا كل واحد في غرفة لوحده ، وتوقف كل شيء بينهما .. عندما يلتقيها في البيت يتجاوزها بنظره كأنه لا يعرفها ، وتفعل هي ذات الشيء معه .. كأنهم أغراب .. !
اعتاد الأبناء ( علي ) و ( سمية ) والأخير ( ماهر ) على سلوك والديهم ، وواصلوا الحياة كأن كل شيء يحدث في بيتهم طبيعي ، وما عداه هو الغير طبيعي .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بطل الفنون القتالية حبيب نورمحمدوف يطالب ترمب بوقف الحرب في


.. حريق في شقة الفنانة سمية الا?لفي بـ الجيزة وتعرضها للاختناق




.. منصة بحرينية عالمية لتعليم تلاوة القرآن الكريم واللغة العربي


.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات




.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة