الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رفيقة سفر

دلور ميقري

2023 / 5 / 6
الادب والفن


موظف الفندق، الشاب والمثقف، كان بالأمس قد دلّه نظرياً على موقف الحافلات الكبيرة، التي أوصلته إلى القرية، المنتصب في ساحتها تمثال ابنها المشهور عالمياً؛ الفنان بيكاسو. كذلك كانت ردة فعل الموظف، عندما أعلمه " دلشير " أنه بنفسه رسامٌ هاوٍ، وذلك في خلال دردشة استعمل فيها هذا الأخير انكليزية رديئة. اليوم أيضاً، وبفضل موظف الفندق ذاته، توجه دلشير في الوقت المناسب إلى محطة الحافلات الكبيرة، لكي يستقل إحداها إلى مدينة أندلسية أخرى، سيركبُ منها العبّارة المُبحرة إلى طنجة المغربية. وإذاً، عقبَ دقائق من الانتظار تحت شمسٍ لاهبة، وصل الأوتوبيس المطلوب وما لبثَ أن استقله. التذكرة، قادته إلى مقعد فارغ، لكنّ جارة بدينة بعض الشيء كانت منحنية عليه قليلاً وهيَ غافية مهوّمة. ربما أحست بجلوسه المتململ، فتزحزحت إلى الجانب الآخر، حيث النافذة المنسدل على جانبٍ منها ستارةٌ سميكة قاتمة اللون. من بياض بشرة جارته، ظنّ للوهلة الأولى أنها امرأة اسبانية؛ ولو أنه عاد واستدرك في ذهنه: " ربما هيَ مغربية، بالنظر لما تتحلى به من المصوغات الذهبية! ".
كان دلشير بالكاد قد تعرّفَ على المغاربة، مع أنّ هذه ستكون الزيارة الثالثة لبلدهم الجميل في مدةٍ لا تتجاوز العامين. بكلتا الزيارتين السابقتين، حطت به الطائرة في مدريد، كنقطة ترانزيت ليوم واحد، ليكمل رحلته لاحقاً إلى مراكش. في هذه الأخيرة، المنبسطة كسجادة أعجمية خضراء بين الصحراء والجبال، كان قد استقرّ في كلتا الزيارتين. ثمة في الرياض، الذي كانَ قد نزل فيه وكان يقع داخل المدينة القديمة، حذروه مراراً من اللصوص والنشالين وحتى من احتمال وجود بلطجية في الأزقة المتطرفة. لحسن حظ صاحبنا، أن أولئك المنحرفين لو وجدوا حقاً، فإنهم لم يحتكوا به. في حقيقة الحال ( ولو أنه موضوعٌ مختلف )، جذبَ مظهرُهُ الخمسينيّ الأنيق، يوماً، نظرَ قوّادٍ بإحدى الحدائق، فحاول هذا عبثاً مساومته كزبون لفتاته، الجالسة بقربه بملابسها الخفيفة.
فيما كان فكرُ دلشير يُبحر في لجة الماضي القريب، أفاقت جارته وما عتمت أن ألقت عليه نظرةً فضولية. بادلها نظرة مماثلة، مسحت ما تتزين به من المجوهرات في يديها وعنقها وأذنيها: " ولو أنها بحدّ ذاتها، جوهرة، لما تتمتع به من الحُسن برغم أنها، على أغلب تقدير، تناهز منتصف الأربعينات من عمرها "، قالها في نفسه بإعجاب. ظل الصمتُ سائداً بينهما، يطغى عليه هديرُ الحافلة، التي كانت تسير على طريقٍ ساحليّ تنتظم فيه الفيلات كما اللالئ في العقد. ثم تكلمت بالهاتف المحمول، فتنهّد بارتياح كونه تأكّدَ من أنها مغربية. بعدما أنهت المكالمة، بادرَ إلى سؤالها عن الوقت. لاحَ أنها سرّت بدَورها لمعرفة أنه من المشرق، بالأخص حينَ أخبرها في سياق الحديث عن وجهته المراكشية. قالت تطمئنه، لما عبّرَ عن خشيته من عدم لحاق العبّارة المبحرة إلى طنجة: " موعد وصول الأوتوبيس، يتفق دوماً مع موعد ابحار العبّارة ". ثم أضافت مبتسمة: " سنكون معاً هناك "
" وأين تقيمين؟ أعني هنا في أوروبا؟ "
" أقيمُ في مدينة خيرونا، الإسبانية؛ أظنك سمعتَ عنها؟ لقد أنجبتُ ولديّ هناك، وهما الآن طالبان في جامعة برشلونة. ربيتهما لوحدي مذ أن كانا طفلين، وبقيتُ دونَ زواج لأجلهما "، ردّت بنبرة يغلب عليها الثقة بالنفس. ثم سألته: " وأنت؟ ". أجابها باقتضاب أنه يعيش في السويد منذ نحو عقدين، فعلّقت بدعابة: " أوه، أنا لا أتصور نفسي أعيش كأنثى الدب في تلك البلاد الجليدية على تخوم القطب الشمالي "
" بالرغم من شتائها الطويل، فإن السويد تتمتع بصيفٍ أفضل مما لدى باريس ولندن "
" حقاً؟ كانت لديّ فكرة مغايرة عن ذلك البلد "
" أتشرّف بأن أكونَ مُضيفك في السويد، لو شئتِ. الصيف ما زال في بدايته، وأنا لن أمكث في مراكش سوى لأسبوعين "
" أشكرك، سأفكّر بالأمر حتماً "، قالتها وأردفت تسأله: " لكنّ مراكش حارة جداً، صيفاً؛ فلِمَ لا تختار مدينة ساحلية، كالقنيطرة، مثلاً؟ "
" لأنني أهتم أكثر بالمدن القديمة، الممتلكة تراثاً ثقافياً وتاريخاً حياً "، قالها ثم ندم فوراً على ما فاه به. إذ كانت قد أخبرته ببداية حديثهما، أنها في طريقها إلى القنيطرة؛ مسقط رأسها. وكانت تُود التعقيبَ على كلامه، عندما أعلنَ السائقُ عن نصف ساعة استراحة في محطة على طريق السفر. ثمة في المحطة، مُحرجاً نوعاً، قبلَ دعوتها على القهوة والحلوى. ثم عاودت الحافلة مسيرها، وتابعا هما حديثهما في شتى الإتجاهات. لم تكن امرأة مثقفة، لكنها كانت ذكية وعملية: في نفس المدة، التي أقام فيها ببلد المُحبَطين والفاشلين ـ مع ديونٍ تنبعُ من جيوبه! ـ استطاعت هيَ تكوين شركة ناجحة للمنظفات الكيماوية، كان مردودها كافٍ لشراء فيللا وشاليه في مسقط رأسها.
تبيّنَ له أيضاً، أنها امرأة مُقتصدة. إذ بوصول الحافلة أخيراً إلى مدينة " طريفة " الإسبانية، أينَ موقف العبّارة المتجهة إلى طنجة المغربية، فإنّ رفيقة السفر فضّلت المسيرَ إلى الميناء على الأقدام مع ثلاث حقائب: " أعرفُ سائقي تاكسي هذه المدينة، الجشعين. سيطلبون ثلاثين يورو، وكما لو أنهم سيقلونا إلى المطار وليسَ إلى الميناء القريب ". كون دلشير مُرفقاً بحقيبة واحدة كبيرة، عرضَ عليها مساعدتها بجرّ إحدى حقائبها. كانت تحفظ الطريقَ إلى الميناء عن ظهر قلب، وكان طريقاً مختصراً استغرقَ أقل من عشرين دقيقة. غبَّ الانتهاء هناك من الاجراءات الروتينية، صعدا مع حقائبهما إلى العبّارة. وكان الجوّ ثمة مُشتعلاً بضوضاء المسافرين وغالبيتهم من المغاربة، العائدين إلى موطنهم لقضاء شهر رمضان.
استغرقت رحلةُ العبّارة حوالي نصف ساعة، وهيَ ذي مدينة طنجة تطل على الركاب بجبالها المشجّرة وقراها ذات البيوت الناصعة البياض، المتبدية كاليمام. معاً دفع دلشير ورفيقته جوازيّ السفر، وكانا ملتصقين لدرجة أن الموظفين في الميناء ظنوهما زوجين. ثم انتقلا بعدئذٍ إلى محطة القطار، وهناك استلقيا متعبين على الأرضية الاسمنتية بين حقائب السفر. سرعانَ ما شعرَ بالجوع، فاقترحَ على رفيقته التوجه إلى مطعم للوجبات السريعة، كانَ قد لمحَ لوحته عند دخولهما إلى المحطة. ارتسمت بسمة غامضة على فمها الجميل، قبل أن تقول بأنها ليست جائعة: " لكن بمقدوركَ الذهاب لتناول الطعام، فيما أنا انتظرك مع الحقائب ". بقيَ للحظةٍ متردداً. حتى انتبه إلى عينيها، تلاحقان خط نظرته باتجاه حقيبته الوحيدة. قال بصوتٍ ضعيف وقد احمرّ كليّةً: " حسنٌ، لن أتأخر! ".
طوال وجوده في المطعم، كان يبكّتُ نفسه دونَ هوادة؛ كأن يفكّرُ والدم يتغلغل في عروق وجهه: " أن تفسّرَ بسمتها بذلك الغباء، فإنه شيءٌ مخزٍ ومخجلٌ. أصلاً ماذا يوجد في حقيبتك غير القماش التافه؟ ". لما همّ بالعودة إلى المحطة، اشترى لرفيقة السفر من المطعم شطيرةَ همبرغر مع علبة آيس كريم. فكم كانت بهجته كبيرة، حينَ عادت إلى رفض ضيافته بالتوضيح هذه المرة: " عليّ كان أن أفهمك منذ البداية، أنني في المغرب لا أستطيع الإفطار علناً مثلما فعلتُ في اسبانيا! ". عندئذٍ، حَسْب، فهمَ مغزى ابتسامتها تلك، التي أساءَ آنذاك إدراك كنهها.
في خلال مكوثهما في القطار، كانا على أتم انسجام بالرغم من وجود آخرين في الكابينة. مضت قرابة نصف ساعة، وهيَ ذي تستأذن للذهاب إلى الحمّام. لما عادت، قربت وجهها منه كي تهمسَ: " الكابينة المُجاورة خالية تماماً، فلنذهب إليها ". وقفَ كي ينقل حقائبهما، فاستدركَ في نفسه وقد استدعت مخيلته الموقفَ ذاك، المشئوم: " لن يسرقها أحد! ". هكذا تركا الحقائب هناك، ومضيا إلى تلك الكابينة. ما أن صارَ وحده معها، إلا وانحنت عليه كي تطبع قبلة طويلة على شفتيه. بقيا يرتشفان من رحيق بعضهما البعض، لحين إطلالة موظف التذاكر بوجهه العابس. تصرّفَ الرجلُ ببعض العصبية، وكأنه يُذكّرهما أنهما في شهر الحرمات. ثمة في محطة القنيطرة، التي وصلها القطار بعد ثلاث ساعات تقريباً، ترك دلشير رفيقته تنزل لوحدها مع حقائبها. لقد تبادلا أرقامَ الهاتف، وكان من المفترض أن يتوصلا في اليوم التالي لطريقةٍ تجمعهما معاً من جديد.
لكنّ الأيامَ مضت، وكذلك الشهورَ والسنين، دونَ أن يأبه أحدهما بالاتصال مع الآخر. ولعله فكّرَ مؤخراً ( أي وقت شروعه بالكتابة )، مستعيداً تلك الذكرى: " إنها الآنَ، ولا شك، في سنّ الكهولة، وربما تجترّ مثلي غذاءَ الماضي البعيد. لقد كانت حقاً كالجوهرة، إلا أنّ عجلاتِ الزمن تدوسُ بلا رحمة على أغلى الأشياء وأكثرها نقاءً ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي