الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قول الحقيقة في وجه السلطة درسان في الشجاعة الفكرية (إدوارد سعيد ومحمد أركون)

عبد الرحمن نعسان
باحث في الدراسات النقدية والثقافية

(Abdalrahman Nassan)

2023 / 5 / 7
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


ليس مستغرباً أن يُدشَّن عصر التنوير بعبارة الفيلسوف الألماني كانط: "تجرَّأ على إعمال عقلك"، إذ إنَّ شرط التنوير الشجاعة الفكريَّة والجرأة النقديَّة، فهما ليسا موقفين أخلاقين وحسب، بل هما الشرط اللازم لفاعلية المثقف في المجتمع، وإذا كان التنوير الأوروبي قد بدأ مع العبارة التدشينية لكانط، فإنَّ سؤال الجرأة والشجاعة يغدو سؤالاً مركباً ورهناً معقداً في الواقع والفكر العربيين، إذ تراكمت على مدار قرون تابوهات سياسية وعقائدية وثقافية حجبَتْ من حيّز المفكر فيه، وقيّدت حدوده، فغدا المسكوت عنه يتضاعف، والحيز النقدي يتضاءل، من هنا كانت الجرأة الفكرية الشرط اللازم للفكر التنويري العربي. ولعلَّنا نجد في خطاب المفكرين العالميين إدوارد سعيد (الفلسطيني الأمريكي)، ومحمد أركون (الجزائري الفرنسي) نموذجين للموقف النقدي، فهما يمثلان صوتين شجاعين، تلازم فيهما قول الحقيقة مع مواجهة السلطة بأشكال عدّة: (المعرفية، والسياسية، والاجتماعية).
مع محمد أركون:
في أثناء إعداد مقترح الدكتوراه في جامعة (سوربون) يذكر محمد أركون أنَّه واجه عنت وممانعة شديدتين من المؤسسة الجامعية إلى الحد أنَّه وصف جامعة سوربون (الأرقى والأهم عالمياً) بالمؤسسة المتخلفة التي يسوّرها سياجٌ دوغمائيٌّ متعصبٌ، وذلك بعد رفض مجموعة من الأساتذة والمستشرقين لمقترحه البحثي، إذ كان مرمى الانتقاد لاعتبارين ساقهما المستشرقون، الأول: الخروج عن المنهجيات المُتعارف عليها في الدرس الاستشراقي (المبحث التاريخي الفيلولوجي) والعدول عنها إلى منهجيات معاصرة (السيميائيات، والبنيوية، والتفكيك)، وهذا أمر غير معهود بالدراسات الاستشراقية، أمَّا الثاني والأهم: فعدم مشروعية المُقترح البحثي، إذ لم يستسغ المستشرقون أطروحة أركون بافتراض أنَّ ثمَّة نزعة إنسانية في الفكر والتراث غير الأوروبي (الإسلامي)، فالإنسانية من منظور المركزية الأوروبية-الاستشراقية محصورة ومقصورة على النهضة الأوروبية، لذا فإنَّ اقتراح أركون باطل ولا مشروعية له. بعد هذا الرفض والانتقاد الذي استمرَّ لفترة لا بأس بها قُبِل موضوع أركون ونُوقِش وحصلَ على الدرجة العليا، واليوم عمله هذا قد تُرجِم إلى عدد من اللغات وأصبح موضوع استلهام واستثمار للعديد من الدراسات المشرقية ومراكز الأبحاث (الصينية، الهندية، اليابانية). وأكاد أجزم لولا استمرارية أركون ودفاعه المُستميت عن أطروحته في الدكتوراه لما كان مشروعه قد تحقق الآن، ولو تتبعت مسار مشروعه لتبين لك مركزية أطروحته في الدكتوراه وموقعها من مشروعه الفكري الكلي.
مؤدى القول ومنتهاه: البحث العلمي الحق شرطه الشجاعة والجرأة والعناد، فمن لا يملك تلك الصفات، فلا يطرق الباب البحثي، ولا عزاء للمقترحات الجاهزة المرسومة على قياس المؤسسة ومعاييرها.
وإذا كنّا ابتدأنا القول مع عبارة كانط في السؤال عن "التنوير"، فإننا نختمها بالأفق الإشكالي الذي رسمَه أفلاطون في أسطورة الكهف، فلو دققّنا وتمعّنا في مغزاها لتبين لنا أن مهمة الباحث عن الحقيقة لا تُختصَر ولا تُختزَل بالانتقال من عالم الظلال (الكهف) إلى عالم المثل (الأنوار)، بل لا بدَّ من عودة عكسية إلى الكهف، فالعودة إلى الكهف تمثّل عودة المثقف إلى المجتمع، إذ تغدو معرفة الحقيقة مرهونة بقول الحقيقة أي الجهر بالحقيقة في وجه القوى المهيمنة، فلا يُكتفَى في الوصول إلى الحقيقة بلا بدَّ من الجهر بها، لذا فإن السؤال الذي نختتم به: هل يقف المثقف التنويري عند حدود المعرفة؟ أم أن قيمة المعرفة لا تقاس بذاتها، بل بمدى مقدرة المثقف على الجهر بها والوصول بها إلى المجتمع مع علمه اليقيني أن قول الحقيقة في وجه القوى السلطوية مخاطرة كبرى غير أنها مخاطرة لازمة لا محيد عنها ولا انفكاك لكلِّ فكرٍ أصيلٍ غادرَ الكهف، فعاد إليه ناقداً !؟
مع إدوارد سعيد:
الأصنام التي تسقط دوماً لعلّها من أهم مقالات سعيد وأكثرها جرأةً في تشخيص واقع المثقف الانتهازي، إذ يبدي نقداً جذرياً للتحولات السياسوية الهشة للمثقف العربي المنتقل ارتجالاً من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن التمركس اليساري إلى التأسلم السياسي، ومن القومية والشعارات العروبية إلى المدرعات والأحضان الأمريكية. المشكلة ليست في الانتقال في ذاته، وإنما في العقلية الصنمية الكامنة خلفه، فكلُّ نقلة تعني صعود صنمٍ على حساب صنمٍ آخر، فسقوط مشروع إقليمي أو دولي أو زعيم سياسي سيوازيه تحولاً جذرياً للمثقف العربي، فما يحكمه ليس المبدأ أو الموقف العقلاني النقدي، وإنما الارتهان الانتهازي للإرادة السياسوية وللزعامات الصنمية.
على المقلب الآخر يشكل موقف إدوارد سعيد من منظمة التحرير الفلسطينية النقيض الندي للانتهازية السياسوية، فبعد عقود من الانتماء إلى منظمة التحرير بشقيها الثقافي والسياسي أعلن انشقاقه مع صف الأول من المثقفين العلمانيين إثر اتفاقية أوسلو وتفرد ياسر عرفات بالسلطة، ولم يكن هذا الانشقاق تخلياً عن الموقف السياسي، وإنما تأكيداً للمبدأ العَلماني في حلِّ القضية الفلسطينية، ورفضاً لتفريغ النضال التحريري للمنظمة وتحوليها لمشروع سلطة داخل دولة الاحتلال. وكشأن أي ديكتاتور أحمق منع ياسر عرفات كتبه في الضفة الغربية مع تقييد حضوره في الوقت الذي مارست فيه قوى الضغط الصهيوني مختلف أشكال التهديد والتشويه، وفي هذه المرحلة تحديداً رُفِع شعار "فيلسوف الإرهاب" للنيل منه، ومع ذلك بقي رهان إدوارد سعيد النقدي العلماني فاعلاً محركاً لموقفه السياسي ومحكوماً به، وما أنجزه معرفياً وسياسياً لم تستطع دولٌ أن تنجزه باعتراف خصومه (برنارد لويس).
مؤدى القول ومنتهاه: الجرأة على قول الحقيقة في وجه السلطة تستلزم نقد الحقيقة وتفريغها من صنميتها، وهذا يشترط أن يحكم المبدأ المعرفي النقدي الموقف السياسي، لا أن يرتهن الموقف المعرفي للإرادة السياسية، هنا يكون المثقف جاهراً بالحقيقة في وجه السلطة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تشاسيف يار-.. مدينة أوكرانية تدفع فاتورة سياسة الأرض المحرو


.. ناشط كويتي يوثق آثار تدمير الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر ب




.. مرسل الجزيرة: فشل المفاوضات بين إدارة معهد ماساتشوستس للتقني


.. الرئيس الكولومبي يعلن قطع بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إسرا




.. فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران