الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نوستالجيا: تازة والبحث عن زمن صبي...!!

ادريس الواغيش

2023 / 5 / 8
الادب والفن



وكان لابد لي من بعثرة الأوراق دفعة واحدة والرجوع إلى ثالث البدايات، أن أزور مدينة المُراهقة على خطى باشلار، تازة التي عشت فيها مع غيري أحلام المراهقة. ومن غير ترتيب مسبق، وجدتني طفلا حالما يُسارع إلى الهروب من فوضى المدينة بفاس وزمنها الموحش، أطارد ما استعصى عليّ من ذكريات الزمن الجميل، أسائل الأزمنة والأمكنة، إن كانت لا تزال تتذكر ملامح وجهي، وقد ابيض فوقه شعر رأسي وشاربي؟ أم أنها تناست اسمي لمّا - كثُرت في غرامها الأسماء؟
حين حللت بالمدينة منتصف النهار، وجدت رياح الشرقي القوية تعيث فوضى في شوارع المدينة، وحرارة لا تغري بالتجوال فيها، ومع ذلك أصررت على إكمال الرحلة. بدأت جولتي بالوقوف لحظة أتأمل فيها المدخل الرئيسي لثانوية «علي بن بري» التأهيلية، أستحضر معها أرقاما وأعلاما ونوستالجيا، أستقرئ العلامات وأعمل ما استطعت على استنطاقها، كانت بعضها ثابتة على حالها لازلت كما تركتها منذ أكثر من ثلاثين عاما، وأخرى استبدلها منطق الوقت، كما تستبدل الشقراوات لون شعرهن وأنوفهن في دبي وعواصم التجميل في العالم. كنت أحاول ان ألغي الحدود الفاصلة بين الذات والنفس والأزمنة في لحظة ضعف أمام صبيب الذكريات الذي يمر سريعا بخاطري، وجدت بعض الأمكنة قد استُبدل فيها الأخضر ببياض غامق، وغابت عنها مساحات غابات الأوكالبتوس وأشجار الزيتون، ونبتت بدلها غابات من الإسمنت المسلح، كنت أحاول التخلص من حتمية زمانية ومكانية في لحظة معينة، والتعامل مع الزمان كمحتوى تذكاري ابتهاجي في حاضر واقعية لا يدعو إلى ذلك، هل كنت متناقضا وأنا أتساءل في صمت وحيرة عن الرّفاق والرّفيقات الذين- اللواتي عبروا من هذه البوابة الخشبية القديمة؟ تذكرت مقولة محمود درويش: «إن أعادوا لك المقاهي القديمة، من يُعيد لك الرّفاق...؟«.
في هذه المؤسسة العريقة، وهو ما كان يهمني في الدرجة الأولى من زيارتي للمدينة، بدأ الجيل الأول ملامسة دراسة الآداب الحقيقية وفروعها، ولذلك لم تفارق صورتها ذهني بالرغم كل الأحداث الفارقة التي عرفتها في حياتي، وفراقي عنها الذي دام لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، ولأجل ذلك ظلت ذاكرتي تحتفظ بأسرارها وعدد زواياها ومخارجها ومداخلها، كما يعرفها اليوم من يرتادها من التلاميذ الجُدد، لأن تاريخها حافل بالعطاء، منها تخرج قضاة ومحامون، مدرسون ومبدعون، فنانون في الموسيقى والتشكيل والسينما والمسرح، حماة حدود الوطن في الشدائد من جنود وضباط كبار وضباط صف، ورجال برعوا في فت السياسة، وبصموا المشهد السياسي المغربي على مدار سنوات عديدة، وغادروا المشهد مكرهين أو طواعية قبل أن يتركوا بصمتهم الخاصة، ولكن قبل ذلك قالوا كلمتهم: «من هناك مررنا، وفي ثانوية علي بن برّي درسنا..»، يكفي أن نستحضر منهم الوزير والسياسي محمد الكحص، الوزير والسياسي التهامي الخياري، الصحافي عبد الكريم لمراني وآخرين. أنا أيضا كنت قد مررت من هنا مثلهم، وحدث صدفة أن كنت شبيها لهم، وواحدا منهم نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وإن لم تطأ أقدامي إحدى الوزارات، كما فعل الآخرون.
ثانوية «علي بن برّي» لها بصمة خاصة لن تنمح في مساري المهني والإبداعي، فيها تعرّفت على رفاق ورفيقات الأمس، وعرفت معنى أن أكون مناضلا يساريا ومتمردا مع عبد الكريم، تعلمت كيف أتهجى كتابة الشعر مع الأستاذ المبطول والغياط خارج قواعده وإيقاعاته الكلاسيكية، فيها أحببنا بصدق ومدحنا القدود التازية والعيون الزٌّرق والسود، عانينا من هجران الحبيب والحرمان والوحدة، هجونا الدروب والأزقة وكثيرا من الصباحات الرديئة والمساءات المملة، وحدث أن مررت اليوم، وأنا أزور المدينة بعد غياب طويل، ببعض البلكونات المهجورة في أحياء المدينة: حي وريدة، بين الجرادي، بيت غلام، باب زيتونة، قبة السوق في المدينة القديمة وغيرها من الحارات، كان مروري عابرا وسريعا، ولكنه ترك في النفس أثرا عميقا.
زيارتي اليوم إلى تازة لم تكن للتباهي أمام حيطان صماء، كنت أمشيها راجلا ذليلا أو ولهانا أنتشي باللقاء، أتذكر إلى الآن كم كنت أكرر ذات المشية في الصباح، كما كنت أفعل نفس الشيء في ذات المساء. ولأنني ولدت في قرية تسمى «أيلة»" كانت إلى عهد قريب تعج بالسواقي والأنهار والأشجار، لم يكن بالإمكان المكوث في تازة بسافلها «تازة السفلى»، ولا بعاليها «تازة العليا» أكثر ممّا مكثت في جو ساخن لا يرحب بالزائرين، ولذلك غادرتها على عجل إلى أعاليها نحو مرتفعات «تازكا». كانت الطريق قطعة من جهنم بالرغم من إصلاحه وتعبيده بشكل جيد، ولكن منعرجات لا تترك لا تترك للعابر منها أن يلتقط الأنفاس، ولكن ما يخفف من عبء الطريق هو رؤية طبيعة خلابة تشدك العين إليها، وكلما زاد ارتفاعك زاد جمالها.
تازة مدينة صغيرة لا تختلف عن نظيراتها من «المدن السفلى»، ولكنها جميلة و«ولاّفة»، لها من الإمكانيات ما يخول لها أن تعلو درجات فوق السحاب، لأن المدينة وضواحيها تعج بمكامن جمال خفي وثروة استثنائية، جريان مياه عذبة ودائمة في منتجع «راس الما»، اخضرار مُزمن في أعالي المنتزهات المنتشرة على الطريق في اتجاه مرتفع «تازكا»، منتجعات كثيرة منتشرة على الطريق نحو قرية «باب بودير»، يأويها شباب وشابات من جنسيات مختلفة، فيها هدوء وسكون قل نظيره، وطراوة هواء لن تجده إلا في أعالي جبال الأطلس المتوسط الشامخ، وهو بشرقيه وغربيه غني بثروة نباتية وحيوانية فاتنة: قردة، أيائل، غطاء نباتي متنوع وطيور نادرة، نقاء هواء لا يمكن استنشاقه سوى في «باب بودير»، وما علينا من جانبنا كمغاربة إلا أن نبحث عن هذا الجمال ونكتشفه، لأننا فعلا فقراء إلى شيء اسمه السياحة الجبلية.
ولأن فعل الحصول على الجميل شيء متعب، المنعرجات هناك تبدأ كي لا تنتهي، تتطلب صبرا وفطنة، ونباهة وحذرا شديدين في السياقة، من تازة إلى واد أمليل أو رباط الخير، مروارا بمناطق كنت أكتشفها لأول مرة: أهل بودريس، بوشفاعة، الزراردة، سد باب لوطا، الصميعة وغيرها من الأماكن. امتداد مدار سياحي جبلي طبيعي إيكولوجي رائع، شاسع ومتشعب، يبدأ من أعالي تازة وضواحيها صعودا ونزولا بين أشجار الغابات الأقرب في اخضرارها إلى الغطاء النباتي للمناخ الاستوائي، «غابات استوائية» تجدها وأنت عابر في طريقك بمنتزهات عديدة بالرغم من المنطقة تنتمي جغرافيا إلى المناخ المتوسطي، كل واحدة من هذه المناطق لها طابعها الخاص، زرقة غامقة في مياه سد «باب سهل لوطا» تنعكس عليها ظلال لون الأشجار الموغلة في الاخضرار، تتنوع الطبيعة في تاهلة كلما اتجهت شرقا في اتجاه رباط الخير، تتغير ملامح الجغرافية والغطاء النباتي حين تتوغل أكثر شرقا أو جنوبا نحو «عين سبو» ضواحي المنزل، حيث يخرج نهر سبو من منبعه أو يغور تحت الأرض مثل أفعى خرافية في ظاهرة غريبة حيرت العلماء، تنبسط أمامك غابات من أشجار التفاح في رباط الخير أو ما كان يعرف سابقا بـ(هرمومو)، وينتهي بك المطاف أخيرا بين أحضان البرودة أمام الشلالات القادمة من غرب الأطلس المتوسط في صفرو. لن تجديك نفعا تكنولوجيا هاتفك المحمول، الأنترنيت في جيئته وانقطاعه يضيع بوصلة الاتجاهات وتضيع في فوضى «نظام» التموضع العالمي وأنت أمام مراقبة صارمة لأقمار الـ GPS، ولن ينفعك حينها سوى مقود سيارتك وتعاون الناس الطيبين معك، تشعرك معهم بالأمن والأمان، وأنت تسألهم كسائح عن وجهتك المطلوبة في ضعف واضح، وقد ضاعت كل الاتجاهات من بوصلتك بين التواءات ونتوءات جبلية تصعد بك حينا وتهوى بك في أخرى. وبين هذا وذاك، تكون، وأنت على مشارف فاس، قد قطعت ما يناهز الـ 500 كلم بين ذهاب وإياب، وقضيت ما يناهز الثمان ساعات من السير دون توقف...!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا