الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان الفتاة الغزالة طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 5 / 8
الادب والفن


رواية للفتيان






الفتاة الغزالة





طلال حسن







شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الملك
2 ـ الملكة
3 ـ الأمير رامانا
4 ـ الغزالة شاكنتالا
5 ـ الحكيم
6 ـ الحارس بهشو















" 1 "
ــــــــــــــــــــــ
قبيل غروب الشمس ، والجو معتدل ، خرج الملك والملكة ، على عادتهما في الأيام الأخيرة ، يتجولان وحدهما في حدائق القصر .
وتمنت الملكة ، بينها وبين نفسها ، لو أن ابنها الأمير رافانا صحبهما في هذه الجولة ، لكنه ـ كما تعرف الملكة ـ مشغول إما بقراءة كتاب ، أو رسم لوحة عن الطبيعة ، أو .. وهذا الأغلب .. يدلل غزاله .
ورمقت الملكة الملك بنظرة خاطفة ، وقالت بصوت حالم : مولاي تاراكا .
وابتسم الملك تاراكا ، وقال : الأمير رافانا ..
وصمتت الملكة مبتسمة ، فتابع الملك قائلاً : تريدين أن نزوجه .
وتوقفت الملكة قائلة : أنت تقرأ أفكاري .
وضحك الملك تاراكا ، وقال : هذا ما أريده أنا أيضاً ، لكن الأمير مازال صغيراً .
واحتجت الملكة قائلة : أنت عندما تزوجتني ، لم تكن أكبر منه .
فتطلع الملك إليها ، وقال : أنا كنت مجبراً .
ونظرت الملكة إليه متسائلة ، فتابع الملك قائلاً : أجبرني جمالك ، الذي لا يقهر .
وسارت الملكة مغالبة ابتسامتها الفرحة ، وقالت : آه منكَ ـ لم أغلبك ، ولن أغلبك .
وتوقفت عند مقعد ، تحت شجرة وارفة ، وقالت : لنجلس هنا قليلاً .
وجلس الملك والملكة صامتين ، تحت الشجرة الوارفة ، لكن حلمها في أن ترى ابنها الأمير يتزوج ، لم يصمت ، وظل يتململ في أعماقها .
وأفاقت الملكة ، على الملك يخاطبها قائلاً : انظري ..
ونظرت الملكة ، وأشرق وجهها بالفرح ، وقالت : الأمير رافانا .
فتابع الملك قائلاً : جاء ومعه غزاله .
وابتسمت الملكة ، وقالت بحماس : لن أزوجه إلا بفتاة كالغزالة .
واقترب الأمير رافانا منهما ، وقال : أبي ، أريد أن أخرج إلى الصيد .
وشهقت الملكة بين الفرح والخوف قائلة : الصيد !
والتمعت عينا الملك ، وقال : هذا ما كنت أعرضه عليك ، كلما خرجت إلى الصيد ، لكنك كنت ترفض .
وقال الأمير رافانا : أريد أن أصطاد وحدي .
وصمت الملك لحظة ، ثم قال : كما تشاء ، سأرسل معك أشدّ حراس ، و ..
فقال الأمير : لن آخذ سوى حارسي بهشو ..
وقالت الأم : وعشرة حراس ..
فقال الأمير رافانا : أختارهم بنفسي .
وقبل أن يردّ الملك بشيء ، مضى الأمير عائداً إلى القصر ، وهو يقول : سأذهب غداً مع الفجر .
ونظرت الملكة خائفة قلقة إلى الملك ، وقالت : تاراكا .
فردّ الملك قائلاً : لا تقلقي ، ابننا يكبر .

" 2 "
ــــــــــــــــــــ
أوى الأمير رافانا إلى غرفة نومه مبكراً ، فمع فجر الغد سيذهب إلى الغابة للصيد ، يرافقه حارسه بهشو ، ومعهما عشرة حراس أشداء .
وقبل أن يندس في فراشه ، سمع طرقاً على الباب ، ورفع رأسه ، ترى من القادم ؟
لقد أوصى جميع خدمه ، وحارسه بهشو ، أن لا يسمحوا لأحد ، مهما كان السبب ، أن يوقظه من نومه ، حتى صباح اليوم التالي .
لم يُطرق الباب ثانية ، وإنما فتح قليلاً وبرفق شديد ، ولمح الأمير أمه الملكة خارج الغرفة ، فأسرع إليها قائلاً : أهلاً أمي ، تفضلي بالدخول .
ودخلت الملكة ، وهي تتطلع إليه ، فقال رافانا : خيراً أمي ..
وقاطعته الملكة قائلة : اطمئن ، لا شيء .
وصمتت لحظة ، فقال رافانا : أرجو أن يكون أبي بخير ، يا أمي .
ومدت الملكة يديها ، وأمسكت يديه ، وقالت : كلنا بخير ، اطمئن يا بنيّ ، جئتُ أودعك .
وتنهد رافانا بارتياح ، وقال مبتسماً : أخفتني يا أمي ، لا تقلقي ، كلّ ما في الأمر ، إنني سأذهب غداً إلى الصيد ، في الغابة .
فقالت الملكة : ستذهب وحدك إلى الغابة .
فقال رافانا : لستُ وحدي ، معي حارسي بهشو ، وعشرة من الحراس الأشداء .
وقالت الملكة : مهما يكن ، فهذه الغابة مليئة بالحيوانات المخيفة الكاسرة .
فقال رافانا مطمئناً أمه : الحيوانات المخيفة الكاسرة ! أنت تعرفين ، يا أمي ، إن هذه الغابة خالية من الأسود والنمور والدببة .
واعترضت الملكة قائلة : لكن فيها ذئاب وضباع وأفاعي و ..
ومدّ رافانا يديه ، وأخذ أمه الملكة إلى صدره ، وقال : اطمئني ، فلن أقرب غير الأرانب ، وربما الثعالب أيضاً ، والطيور غير الجارحة ..
وصمت لحظة ، ثم قال : والحقيقة إنني أريد أن أصطاد .. غزالة ، غزالة فتية فقط .
ونظرت الملكة إليه ، وقالت : لكن لديك غزالك .
وابتسم رافانا ، وقال : غزالي ذكر .
وابتسمت الملكة بدورها ، وقالت متسائلة : وتريد له .. غزالة ؟
فهزّ رافانا رأسه ، فربتت الملكة على صدره ، وقالت : وهذا ما أريده لك أيضاً .
فردّ رافانا قائلاً : إذا وجدتُ غزالة تصيدني .
وقبل أن تخرج الملكة ، وتذهب إلى جناحها ، عانقت رافانا ، فقال لها : قولي لأبي الملك ، أن لا يرسل جنوده في أعقابي ، فأنا لم أعد صغيراً .





" 3 "
ــــــــــــــــــــ
أفاق الأمير رافانا ، في اليوم التالي ، عند الفجر ، وهذا ما قرره منذ الليلة الماضية ، فنهض بسرعة من فراشه ، وراح يرتدي ملابسه ، التي سيذهب بها للصيد في الغابة .
وبدأ يستعجل قليلاً ، فحارسه بهشو ، وحراسه العشرة ، الذين اختارهم بنفسه ، يقفون الآن إلى جانب خيولهم النشيطة ، متأهبين لمرافقته في رحلة الصيد الأولى هذه ، في الغابة البعيدة .
وانتبه رافانا إلى طرق خافت على الباب ، وفكر أنه حارسه بهشو ، ربما جاء ليتأكد من استيقاظه ، وفتح الباب بهدوء ، وبدل الحارس الشخصي ، لاح الملك عند باب الغرفة .
وعلى الفور ، أسرع رافانا إليه ، وقال ، أبي ..
وقاطعه الملك قائلاً : أردتُ أن أراك ، قبل أن تخرج إلى رحلتك الأولى للصيد في الغابة .
وقال رافانا : لم أشأ أن أوقظك ، فقد ودعتك البارحة مع أمي في حديقة القصر .
ونظر الملك إليه ، ثم قال : لا أدري ، يا بنيّ ، إنني لستُ مرتاحاً تماماً لرحلة الصيد هذه ، ربما لأنك ستذهب فيها وحدك .
فردّ رافانا قائلاً : لستُ وحدي ، يا أبي ، فمعي حارسي بهشو ، وعشرة حراس أشداء .
ولاذ الملك بالصمت ، وإن بدا غير مرتاح ، فقال رافانا : أبي ، إن حراسي ينتظرونني الآن ، على خيولهم ، خارج القصر ..
وبقي الملك صامتاً ، فمدّ رافانا يديه ، وعانق أباه وهو يقول : لم أعد صغيراً ، يا أبي ، ورحلتي لن تدوم سوى أيام قلائل .
وربت الملك على كتفه ، وقال : دعني أرافقك حتى الباب الخارجي للقصر ، يا بنيّ .
فقال رافانا : لا يا أبي ، الجو بارد في الخارج الآن ، نحن مازلنا في الفجر .
وتوقف الملك ، وقال : كما تشاء ، يا بنيّ .
وتراجع رافانا نحو الباب ، وهو يقول : تحياتي إلى أمي الملكة الحبيبة .
فقال الملك مغالباً تأثره : رافقتك السلامة .







" 4 "
ــــــــــــــــــــ
انطلق الأمير رافانا على حصانه ، والفجر يطل من وراء الأفق ، متجهاً نحو الغابة البعيدة ، ووراءه مباشرة حارسه بهشو ، وحراسه العشرة .
وخلال الطريق ، لم يكن الأمير وحيداً ، وهو يقطع التلال والسهول والجداول ، فقد كانت معه أمه وأبوه ، وشعور غامض ، كأنه أثر حلم ، عاشه في المنام ، ثم نسيه حين أفاق ، يشده إلى الغابة البعيدة .
وتوقفوا أكثر من مرة ، خلال الطريق ، للراحة وتناول الطعام ، وحين لاحت الغابة من بعيد أخيراً ، كانت الشمس تميل إلى الغروب .
والتفت الأمير رافانا إلى حارسه ، وقال : انظر ، تلك على ما أظنّ ، هي الغابة .
فردّ الحارس قائلاً : نعم يا سيدي ، إنها هي .
وسكت لحظة ، ثم قال : لكن الشمس توشك أن تغرب ، يا سيدي .
ونظر الأمير رافانا إلى الغابة ، وقال : يبدو أنك ترى أن نخيم هنا الليلة .
فقال الحارس : إذا أردت ، يا سيدي .
فتوقف الأمير رافانا ، وترجل عن حصانه ، وقال : لنخيم الليلة هنا إذن ، وندخل الغابة غداً مع الفجر .
وحلّ الليل ، واتجه الأمير رافانا إلى خيمته ، بعد أن تناول طعام العشاء ، وإلى جانبه حارسه ، وتوقف أمام خيمته ، وقال : من الأفضل أن ننام الآن ، فغداً علينا أن نستيقظ مبكرين .
وتوقف الحارس ، وقال : كما تشاء ، يا سيدي .
وتناهى عواء ممطوط كئيب من أعماق الغابة ، فرفع الأمير رافانا رأسه ، وراح ينظر إلى مصدر الصوت ، فقال الحارس : هذا ذئب ، يا سيدي .
وتطلع الأمير حوله ، ورغم العتمة رأى حراسه العشرة من بعيد ، يحيطون بخيمته ، فقال للحارس : اذهب ونم ، وقل للجميع أن يرتاحوا ، فغداً أمامنا رحلة طويلة شاقة داخل الغابة .



" 5 "
ـــــــــــــــــــــ
أفاق الأمير رافانا مبكراً ، في اليوم التالي ، وعلى الفور نهض من فراشه ، وارتدى ملابس الصيد ، ثم خرج من الخيمة .
ورغم أن الفجر ، كان بالكاد يطل بنوره الشاحب ، من وراء الأفق ، إلا أنه رأى حارسه يقف على مسافة أمتار من خيمته ، وأقبل الحارس مسرعاً حالما رآه ، وقال : طاب صباحك ، سيدي .
وسكت لحظة ، ثم تابع قائلاً : سيدي ، أظن أن الوقت مازال مبكراً .
فقال الأمير رافانا : ومع هذا فأنت مستيقظ .
وردّ الحارس : هذا واجبي ، يا سيدي .
ونظر الأمير إليه ، وقال : ومن يدري ، ربما لم تنم طول الليل .
فقال الحارس : عفواً سيدي ، نمتُ كفايتي .
وتطلع الأمير رافانا حوله ، ثم تساءل : والحرس ؟
فقال الحارس : تناوبوا على الحراسة ، طول الوقت ، هذا واجبهم ، يا سيدي .
وسار الأمير رافانا مبتعداً عن الخيمة ، وهو يقول : سأذهب إلى الجدول القريب ، وأغتسل .
وهمّ الحارس بأن يسير في إثره ، لكن الأمير رافانا قال له : ابقَ أنت هنا ، لن أتأخر .
وتوقف الحارس على مضض ، وراح يراقب الأمير رافانا ، وهو يبتعد شيئاً فشيئاً ، متجهاً نحو الجدول ، الذي لا يبعد كثيراً عن المخيم .
وهزّ الحارس رأسه ، صحيح أن الجدول صغير ، ومياهه ضحلة رقراقة ، لكن واجبه يقتضي منه أن يكون إلى جانبه ، حيثما يكون .
ولأنه لم يرافق الأمير ، ذهب إلى الحراس العشرة ، وتجمعوا حوله ، حالما رأوه متجهاً نحوهم ، فقال لهم : فلنعدّ الإفطار ، لعل الأمير يعود سريعاً .
ولاح الجدول للأمير رافانا ، يترقرق هادئاً تحت أضواء الفجر الأولى ، فانحدر إليه عبر شجيرات متفرقة ، نمت على المنحدر الرملي .
وتوقف مرهفاً سمعه ، فقد تناهت إليه حركة طفيفة بين الشجيرات القريبة ، وعلى الفور كمن وراء شجيرة كثيفة الأغصان ، وإذا غزالة فتية ، تنحدر في هدوء واطمئنان ، إلى حافة الجدول .
وخفق قلب الأمير رافانا ، بشيء من الفرح ، فهاهي ضالته الفريدة ، تسير على مسافة قريبة منه ، فالصياد ـ كما يقول أبوه الملك ـ لا يحتاج فقط إلى خبرة ، وإنما إلى حظ أيضاً ـ .
ومالت الغزالة الفتية على الماء الصافي الرقراق ، لتشرب بهدوء واطمئنان ، لكنها فزت خائفة ، حين رأت في مرآة الماء ، شاباً فتياً يمدّ يديه نحوها .
وانتفضت الغزالة الفتية ، تريد الهرب ، لكن يدي الشاب الفتي ، أطبقتا على جسمها ، وراحت تنتفض بقوة ، محاولة الخلاص والهرب .
وحاول الأمير رافانا من جهته ، أن يسيطر عليها ، وبدل أن يسحبها إلى الشاطىء ، سحبته هي إلى الجدول ، واستطاعت أخيراً ، أن تفلت مبتعدة ، تاركة إياه ملقى في المياه الرقراقة .
ونهض الأمير رافانا من الماء ، ومدّ يديه للامساك بها ، لكنها قفزت إلى الضفة الرملية ، وراحت تصعد مبتعدة ، بخطوات متعثرة متألمة .
وأسرع الأمير رافانا في أثرها ، يريد الإمساك بها ، لكنه كلما مدّ يديه نحوها ، وكاد أن يلمسها ، انتفضت مبتعدة عنه ، ومضت هكذا متوغلة في أعماق الغابة ، وتوغل الأمير رافانا في أثرها ، وقد صمم على الإمساك بها ، مهما كلفه الأمر .







" 6 "
ـــــــــــــــــــــ
تفاقم قلق الحارس الشخصي ، لتأخر الأمير رافانا في العودة من النهر ، فهو أساساً كان قلقاً لأنه لم يرافقه هذه المرة ، حيث ذهب .
وحاول أن يتشاغل مع الحرس العشرة ، في إعداد الفطور للأمير رافانا ، وها هو الفطور يكاد يكون جاهزاً ، والأمير رافانا لم يعد .
ومنذ البداية ، افتقد الحرس العشرة الأمير رافانا ، حتى أن أحدهم قال مستغرباً : يبدو أن الأمير رافانا مازال في خيمته .
فرد الحارس قائلاً : كلا ، ذهب إلى النهر .
وعلق حارس آخر : يا للعجب ، لم تذهب معه ، إلى حيث ذهب ، هذه المرة .
وقبل أن يردّ الحارس ، علق حارس آخر : كان عليك أن ترافقه إلى الجدول .
فردّ الحارس بشيء من الحدة : هذا ما أردته ، لكن الأمير رفض ، وأصرّ أن يذهب وحده .
لاذ الحراس العشرة بالصمت ، بعد أن لاحظوا انفعال حارس الأمير ، وتأثره الشديد ، وتوقفوا حائرين ، حين فرغوا من إعداد طعام الفطور .
ولم يحتمل حرس الأمير بهشو صمتهم ، فقال وهو يمضي متجهاً نحو الجدول : انتظروا أنتم هنا ، سأذهب إلى الأمير ، وأرافقه في العودة .
وانتظر الحراس العشرة صامتين ، وقد استبد بهم القلق ، وكلّ أملهم أن يعود الحارس برفقة الأمير رافانا ، في أسرع وقت ممكن .
لكن الوقت راح يمرّ ثقيلاً مقلقاً ، بل وأطلت الشمس من وراء الأفق ، دون أن يلوح الحارس مع الأمير ، وأخيراً عاد الحارس وحده .
وأسرع الحراس العشرة إليه ، يتعثرون بتوقعاته المخيفة ، وانهالوا عليه بالأسئلة والكلمات المنفعلة القلقة ، وصاح أحدهم : تأخرتَ ..
فقال الحارس بصوت مسحوق : لا أثر للأمير .
وصاحوا جميعاً : ماذا !
فتابع الحارس قائلاً : بحثتُ عن الأمير في كلّ مكان ، ولم أجد إلا آثار أقدام ، تصعد من الجدول ، وتتوغل في أعماق الغابة .
وصمت لحظة ، ثم قال : لنذهب ونتتبع آثار الأقدام ، ولن نعود إلا والأمير معنا .



" 7 "
ـــــــــــــــــــــ
لم يتوقف الأمير رافانا ، عن ملاحقة الغزالة ، وكلما بدا بأنها تعبت ، وبأنه يوشك أن يُمسك بها ، انتفضت مبتعدة ، ولكن بخطوات متعثرة .
ورغم أنه لاحظ بأنه يبتعد شيئاً فشيئاً عن المنطقة ، التي خيموا فيها ، وأنه شيئاً فشيئاً يتوغل في أعماق الغابة ، إلا أنه لم يتوقف عن ملاحقة الغزالة ، وظل على تصميمه في الإمساك بها .
وتوقفت الغزالة متلفتة ، وقد بدا عليها الخوف ، فقد تناهت حركة مريبة بين الأعشاب ، وأراد الأمير رافانا ، أن ينتهز هذه الفرصة ، فانقض عليها ، لكنها انتفضت مبتعدة عنه ، وإن لم تمض ِ بعيداً .
وازدادت الحركة بين الأعشاب ، فتراجعت الغزالة مذعورة ، حائرة ، وراحت تتلفت ، مرة إلى الأمير ، وأخرى إلى الأعشاب .
وتوقف الأمير مذهولاً ، يتابع بنظره حركة الأعشاب ، وبدا له كأن سهما خارقاً ، يشقها بجنون متجهاً نحو الغزالة ، للفتك بها .
وفجأة برز ذئب ضخم ، من بين الأعشاب ، وتباطأ أمام الغزالة ، متأهباً للانقضاض عليها ، وقد كشر عن أنيابه القاتلة ، وبدل أن تلوذ الغزالة بالهرب ، وقفت مشلولة أمامه ، مستسلمة لمصيرها المحتوم .
والتقط الأمير ، غصن شجرة من الأرض ، أشبه بهراوة ضخمة ، واندفع بسرعة ملوحاً بالغصن ، ووقف بين الذئب والغزالة الفتية .
لم يتراجع الذئب ، بل انقض محاولاً تخطي الأمير ، وقد كشر عن أنيابه ، لكن الأمير عاجله بضربة شديدة من غصن الشجرة ، ألقته مدمى على الأرض .
وهمّ الذئب أن ينهض من الأرض ، رغم الجروح التي أصيب بها ، فرفع الأمير غصن الشجرة ، الشبيه بالهراوة ، وضربه ضربة أشد ، ألقته هذه المرة ، على الأرض جثة هامدة .
وتراجع الأمير لاهثاً ، متقطع الأنفاس ، وغصن الشجرة ـ الهراوة في يده ، والتفت وراءه ليطمئن على الغزالة ، لكنه لم يجد لها أثراً .
وتلفت حوله حائراً ، الأشجار في كل مكان ، ووراء الأشجار ، على مدّ البصر ، لا يوجد غير الأشجار ، لقد فقد الغزالة ، وفقد أيضاً الطريق ، فما العمل ؟




" 8 "
ــــــــــــــــــــ
لفترة ليست قصيرة ، ظلّ الأمير رافانا ، يدور وسط الغابة ، لعله يعثر على طريق ، يمكن أن يقوده إلى حيث خيمته وحارسه بهشة وحرسه العشرة .
وتوقف بين الأشجار المتطاولة محبطاً ، وقد مالت الشمس للغروب ، حين اكتشف أنه يدور في دائرة واحدة ، وأنه يقف الآن حيث بدأ منذ ساعات ، بعد أن تصدى للذئب وقتله .
وهمّ أن ينطلق من جديد ، بعيداً عن هذه الدائرة المقفلة ، لعله يعثر هذه المرة ، على بداية طريق ، ينقذه من هذه المتاهة ، ويعيده إلى خيمته وحراسه .
وتوقف مذهولاً ، إذ سمع أحدهم يخاطبه بصوت هادىء قائلاً : بنيّ .
وعلى الفور ، التفت إلى مصدر الصوت ، وإذا شيخ مسن ، في ثياب خشنة بيضاء ، يقف أمام كوخ ، يكاد يختفي تحت أغصان كثيفة ، لأشجار ضخمة عالية ، يتطلع إليه بنظرات مسالمة حانية .
وقبل أن يتفوه الأمير رافانا بكلمة واحدة ، بادره الشيخ قائلاً : طاب يومك .
فردّ الأمير قائلاً : طاب يومك ، يا سيدي .
وقال الشيخ : تعال ، يا بنيّ .
واقترب الأمير منه ، وهو يتفرس فيه ، فقال الحكيم : يبدو أنك ضللت الطريق .
وتلفت الأمير حوله : هذا ما يبدو ، يا سيدي ، إنها ليست غابة ، بل متاهة .
ثم تطلع إلى الكوخ ، وقال : كنت هنا قبل ساعات ، لكني لم أرَ هذا الكوخ إلا الآن .
وابتسم الشيخ ، وقال : الحق معك ، من الصعب أن يلاحظه أحد ، فهو كما ترى ، يكاد يختفي تحت هذه الأغصان الكثيفة .
وصمت الشيخ برهة ، ثم قال : الليل يوشك أن يحلّ ، ولا فائدة الآن من أن أدلك على الطريق .
فقال الأمير : نعم ، فالمكان الذي خيمنا فيه ، أنا ومن معي ، لا أظنه قريباً .
فقال الشيخ : أعرف .
ونظر الأمير إلى الشيخ مندهشاً ، فقد فاجأته كلمة " أعرف " هذه ، لكن الشيخ قطع عليه تفكيره قائلاً : أنت الليلة ضيفي .
وقال الأمير : أشكرك .
واستدار الشيخ ، ومشى بخطوات ثابتة نحو الكوخ ، رغم شيخوخته ، وهو يقول : تعال يا بني ، فأنا وحدي في هذا الكوخ ، مع ابنتي شاكنتالا .
ودخل الشيخ إلى الكوخ ، وقال : تفضل ، يا بنيّ ، تفضل ادخل .
ودخل الأمير الكوخ ، في أعقاب الشيخ ، وأدهشته نظافته ، وآثاثه المعتنى بها ، رغم قلتها وفقرها ، ونظر الشيخ إليه ، وقال : تفضل اجلس ، ستأتي ابنتي ، لن تتأخر طويلاً ، وتعد لنا طعام العشاء .


" 9 "
ــــــــــــــــــــ
قبل غروب الشمس بقليل ، أتت الفتاة ابنة الشيخ شاكنتالا ، تحمل سلة صغيرة ، فنظر الشيخ إليها ، وقال : بنيتي ، لدينا اليوم ضيف شاب .
وتوقفت شاكنتالا ، وسلتها في يدها ، ونظرت إلى الأمير ، وقالت : أهلاً ومرحباً .
فنظر الأمير إليها نظرة خاطفة ، وردّ قائلاً : أهلاً بكِ ، أشكركِ .
وقال الشيخ : قلتُ لضيفنا ، أنك طباخة ماهرة ، وإنكِ ستقدمين لنا عشاء لذيذاً .
وابتسمت شاكنتالا قائلة ، وهي ترفع السلة الصغيرة : فطر طازج ، هذا سيكون عشاءنا اليوم ، وأرجو أن يعجب ضيفنا .
ونظر الشيخ إلى الأمير ، وقال : كلْ الفطر أولاً ، وستعرف شاكنتالا .
وانصرفت شاكنتالا على عجل ، وهي تقول : سأعد العشاء حالاً .
ومدت شاكنتالا السفرة ، بعد أن أعدت الطعام ، ووضعت عليها ثلاثة أطباق ، في كلّ طبق منها شيء من الفطر المطبوخ ، فقال الشيخ : هيا يا بنيّ ، اجلسي لنأكل معاً .
وجلست شاكنتالا إلى جانب الشيخ ، وقالت للأمير : هذا فطر لذيذ .
وتذوق الأمير الفطر ، ثم قال : عاشت يدكِ ، حقاً إنه طعام لذيذ .
وضحك الشيخ ، وقد بدا الفرح على الفتاة ، وقال : هذه شهادة لن تنساها شاكنتالا العمر كله .
ونظرت شاكنتالا إلى الأمير ، وقالت وهي تأكل : لم نرك في هذا المكان من قبل .
ورمقها الأمير بنظرة سريعة ، وقال : إنها المرة الأولى ، التي أدخل فيها هذه الغابة .
وصمت لحظة ، ثم قال : في الحقيقة ، جئت للصيد ، وإن لم أصد أي شيء .
وتوقفت شاكنتالا عن تناول الطعام ، ورمق الشيخ الأمير بنظرة سريعة ، وقال : ابنتي شاكنتالا لا تحب الصيد .
ونهضت شاكنتالا ، وقالت : إنني إنسانة ، ولا أحب القتل ، والصيد قتل .
ولاذ الأمير بالصمت ، مغالباً تأثره ، فنظر الشيخ إليه ، وقال : رأيتُ الذئب الذي قتلته .
ورفع الأمير رأسه ، فتابع الشيخ قائلاً : إنه ذئب شرس ، وقد خلصت الكائنات المسالمة منه .
ورمق الأمير الفتاة بنظرة سريعة ، وقال : كاد يفتك بغزالة فتية ، لو لم أقتله .
وبعد العشاء ، جلس الشيخ والأمير يتبادلان الحديث ، وجلست شاكنتالا صامتة على مقربة منهما ، تنصت إليهما ، وخاصة إلى الأمير .
وبدا النعاس على الأمير ، فقال الشيخ : الأفضل أن ننام الآن ، أنت متعب .
وأوى الأمير إلى فراشه ، الذي أعدته له شاكنتالا ، إلى جانب الحكيم ، وأوت هي إلى فراشها ، بعيداً عنهما ، في زاوية الكوخ .



" 10 "
ــــــــــــــــــــــ
أثناء تناولهم لطعام الإفطار ، الذي أعدته شاكنتالا في وقت مبكر ، رمقت شاكنتالا الأمير أكثر من مرة ، بنظرات خاطفة ، ثم قالت : أبي ..
ونظر الشيخ إليها صامتاً ، فتابعت قائلة : سأطعمكما اليوم على الغداء ، سمكاً مشوياً .
ونظر الشيخ إلى الأمير ، وكأنه يسأله رأيه ، لكن الأمير رافانا بقي صامتاً ، فنظرت شاكنتالا إليه ، وقالت بشيء من الرجاء : ابقَ اليوم معنا .
ومرة أخرى ، بقي الأمير رافانا صامتاً ، فابتسم الشيخ ، وقال : السكوت من الرضا .
وبعد الفطور ، أخذت شاكنتالا الشبكة والسلة ، وخاطبت الأمير قائلة : سأعلمك اليوم صيد السمك .
وضحك الشيخ ، وقال : من أدراكِ ، لعله أفضل منك في صيد السمك .
وردت شاكنتالا : لا أظن ..
والتفتت إلى الأمير ، وقالت : أليس كذلك ؟
وردّ الأمير قائلاً : نعم .
ومضت شاكنتالا إلى الخارج ، وهي تقول : هيّا إلى الدرس الأول في صيد السمك .
ولحق الأمير رافانا بها ، وقال : دعيني أساعدك إذن ، يا معلمتي .
ووقف الشيخ خارج الكوخ ، يتطلع مبتسماً إلى شاكنتالا والأمير ، وهما يسيران نشيطين جنباً إلى جنب ، متجهين نحو الجدول ، شاكنتالا تحمل الشبكة ، والأمير رافانا يحمل السلة .
ولاح الجدول من بعيد ، ينساب رقراقاً تحت أشعة الشمس الأولى ، فأومأت شاكنتالا بيدها ، وقالت : انظر ، ها هو الجدول .
وتراءى له الجدول ، القريب من المخيم ، الذي قضى فيه ليلته مع حارسه وحراسه العشرة ، وتابعت شاكنتالا قائلة : هنا تأتي الغزلان ، لتروي عطشها .
وخفق قلبه بحنان ، إذ تذكر الغزالة الفتية ، وهي تهم بشرب الماء من الجدول ، وقالت شاكنتالا : لم تحدثني عن تلك الغزالة ، التي أنقذتها من الذئب .
ولاذ الأمير بالصمت ، فتابعت شاكنتالا قائلة : حدثني عنها ، قبل أن نصل إلى الجدول ، وننهمك في صيد السمك ، ربما لساعات .
وتراءت له الغزالة الفتية مرة أخرى ، ووجد نفسه يقول كأنه يحدث نفسه : رأيتها في البداية تنحدر إلى الجدول ، وتابعتها وهي تهم بشرب الماء ..
ونظرت شاكنتالا إليه ، كأنها تتمثل في داخلها ما يرويه لها ، فتابع الأمير قائلاً : أعجبتني جداً ، وأردتها لغزالي ، الذي ربيته وهو رضيع ، فحاولت الإمساك بها ، لكنها أفلتت مني ، ومضت مبتعدة ..
وصمت الأمير ، ثم نظر إلى شاكنتالا ، وقال : إنني لم أقرب فتاة في حياتي ، ولا أدري لماذا شعرت بأني أمسك بفتاة ، عندما حاولت الإمساك بها .
وحثت شاكنتالا خطاها بين الأشجار ، وقد احمرت وجنتاها الفتيتين ، وقالت مغالبة تأثرها : لقد وصلنا الجدول ، هيا نصطد السمك .



" 11 "
ـــــــــــــــــــــــ
مدت شاكنتالا السفرة ، بعد أن شوت السمك ، الذي اصطادته مع الأمير من الجدول ، على نار أشعلتها خارج الكوخ ، وجلسوا للغداء .
ووضعت الفتاة سمكة كبيرة أمام أبيها الشيخ ، ووضعت سمكة كبيرة أمام الأمير ، أما هي فقد وضعت أمامها سمكة صغيرة الحجم .
ورمقها الأمير بنظرة مترددة متسائلة ، وعلق أبوها الشيخ قائلاً : بنيتي ، هذه ليست عدالة .
فغمزت شاكنتالا للأمير خفية ، وردت قائلة : سآكل هذه السمكة الصغيرة للذكرى .
والتفت الشيخ إلى الأمير ، وقال : لا أفهم ما تقصد إليه شاكنتالا .
فقال الأمير : هذه السمكة الصغيرة ، أنا اصطدتها .
لم يضحك الشيخ ، ولم ينظر إلى ابنته ، وإنما قال : لنأكل قبل أن يبرد السمك .
وبعد الغداء ، لم يتمدد الشيخ في فراشه ، ويأخذ قيلولة ، كما تعود كلّ يوم ، وإنما جلس أمام الكوخ ، يتابع الأمير وشاكنتالا ، وقد لاحظ بعدم ارتياح ، ازدياد الألفة بينهما ، ساعة بعد ساعة .
ومن بعيد ، لوحت شاكنتالا لأبيها الشيخ ، وخاطبته قائلة : أبي سنتجول قليلاً في الغابة ، إلى اللقاء .
وردّ الشيخ قائلاً : لا تتأخرا .
ورغم ذلك تأخرا ، وظل الشيخ في مكانه ، ينتظر قلقاً ، حتى مالت الشمس للغروب ، وأخيراً أقبلا مع الأنفاس الأخيرة للنهار ، وفي يد كلّ منهما باقة من الأزهار البرية النظرة .
وربما لاحظت شاكنتالا عبوس أبيها ، فدخلت الكوخ مباشرة ، وهي تقول : سأعد طعام العشاء .
وبدل أن يردّ الشيخ عليها ، سمعته يقول للأمير : بنيّ ، رفاقك يبحثون عنك ، سأدلك غداً على الطريق ، لتعود إلى حياتك ، التي ألفتها طويلاً .



" 12 "
ــــــــــــــــــــــ
على غير عادتها ، لم تستيقظ شاكنتالا مبكرة ، ما اضطر الشيخ لأن ينهض من فراشه ، ويقترب منها ، ويهمس في أذنها : بنيتي .
وفتحت شاكنتالا عينيها ، لكنها لم تجب بشيء ، فقال الشيخ : حان الوقت لتعدي الفطور ، انهضي يا بنيتي ، فالفتى أمامه طريق طويل .
ونهضت شاكنتالا ، وراحت تعد الفطور ، بدون حماسها المعهود ، ولم تلتفت إلى أبيها الشيخ ، أو تلقي ولو نظرة إلى الأمير ، الذي مازال في فراشه .
واعتدل الأمير ، ونظر إلى الشيخ ، وقال : طاب صباحك ، يا سيدي .
فردّ الشيخ قائلاً : طاب صباحك .
وصمت لحظة ، ثم قال : استيقظنا اليوم مبكرين ، فأمامك طريق طويل للوصول إلى رفاقك .
ونهض الأمير من فراشه ، ونظر إلى شاكنتالا ليحييها ، لكنها لم تلتفت إليه ، وظلت متشاغلة بإعداد طعام الفطور .
وجلسوا يتناولون طعامهم صامتين ، دون أن ينظر أحدهم إلى الآخر ، وتناول الأمير لقيمات قليلة ، ثم نهض ، فقال الشيخ : لم تأكل شيئاً يذكر .
فردّ الأمير قائلاً : لقد شبعت .
ورمق الفتاة بنظرة سريعة ، ثم أضاف مغالباً انفعاله : أمامي طريق طويل ، كما قلت يا سيدي ، ولابدّ أن أبدأ رحلتي الآن .
ونهض الشيخ ، ومعه نهضت شاكنتالا ، ووقفت مطرقة صامتة ، وخرج الشيخ من الكوخ ، وهو يقول : تعال ، يا بنيّ ، لأدلك على الطريق .
ونظر الأمير إلى شاكنتالا ، فرفعت رأسها إليه ، وقالت : ليتكَ تبقى معنا .
وهزّ الأمير رأسه ، وقال : لا أستطيع ، عليّ أن ألحق برفاقي .
فقالت شاكنتالا : لم تعرف أنكَ اصطدتني .
ونظر الأمير إليها مذهولاً ، فأضافت بصوت دامع : ليتك تركت الذئب يفترسني .
وهمّ الأمير أن يردّ عليها ، وقد تدافع الأفكار في داخله ، لكن الشيخ خاطبه من الخارج قائلاً : بنيّ تعال ، لقد أشرقت الشمس .
وخرج الأمير من الكوخ ، وهذا ما ندم عليه فيما بعد ، وبقيت شاكنتالا في مكانها ، ونظر الشيخ إليه ، وقال : إنني أرى رفاقك الآن ، يبحثون عنك قلقين ، في مكان ليس قريباً من مخيمكم .
وتساءل الأمير قائلاً : وكيف أعرف هذا المكان ؟
فأشار الشيخ بيده إلى طريق بين الأشجار ، وقال : اذهب من هذا الطريق ، ولا تحد عنه ، وستجد نفسك بعد ساعات وسط رفاقك .
وتطلع الأمير إلى الطريق ، ثم التفت إلى الشيخ ، ومدّ يده إليه ، وصافحه بحرارة ، وقال : أشكرك على كرم ضيافتك ، يا سيدي .
فردّ الشيخ قائلاً : أهلاً ومرحباً بك ، رافقتك السلامة ، يا بنيّ .
ومضى الأمير ، وراح يحث الخطى على الطريق ، وحانت منه التفاتة ، ورأى ما لن ينساه أبداً ، كانت شاكنتالا تقف إلى جانب أبيها ، أمام الكوخ ، الذي يكاد يختفي ، تحت أغصان الأشجار الكثيفة .
والتفت الشيخ إلى ابنته ، التي كانت تقف إلى جانبه ، وعيناها غارقتان بالدموع ، فقال لها : بنيتي ، لا تنسي أنك غزالة .
وردت شاكنتالا بصوت دامع : إنني غزالة ، حين تريد ، يا أبي ، وحين تريد أكون إنسانة .
ولم تتمالك نفسها ، فمضت راكضة إلى داخل الكوخ ، وهي تجهش بالبكاء قائلة : أنا إنسانة .



" 13 "
ــــــــــــــــــــــ
التقى الأمير رافانا بحارسه وحراسه ، قبيل منتصف النهار ، وكانوا قد بحثوا عنه في كلّ مكان من الغابة ، دون أن يقعوا له على أثر .
وبدل أن يعود الأمير رافانا إلى القصر ، حيث والديه الملك والملكة ، اللذين بدآ يقلقان عليه ، عاد برفقة حارسه بيشو ، والحراس العشرة ، إلى المكان الذي التقى فيه بالشيخ وابنته الفتية .
وطوال ساعات النهار ، راحوا يجوبون المنطقة على خيولهم ، يبحثون عبثاً عن الشيخ وابنته شاكنتالا ، والكوخ الصغير ، الذي يكاد يختفي تحت أغصان الأشجار الكثيفة .
وعند غروب الشمس ، توقف الأمير ، وترجل عن حصانه ، وقال : لا فائدة ، لنخيم هنا .
وعلى الفور ترجل الحارس بيشو ، والحراس العشرة عن خيولهم ، وبدؤوا بنصب الخيمة للأمير ، ومن ثمّ إعداد طعام العشاء .
وتطلع الأمير إلى البعيد ، والشمس تغرب في الأفق ، وراح يتمشى متلفتاً بين الأشجار ، لعله يعثر على أثر للكوخ الصغير والشيخ وابنته شاكنتالا .
وعلى الفور ، ترك الحارس بيشو الحراس العشرة ، ولحق بالأمير ، وهو يقول : سنعود بعد قليل ، أكملوا نصب الخيمة ، وأعدوا طعام العشاء .
واقترب الحارس من الأمير ، وقال : مولاي ، الليل يكاد يخيم على الغابة .
وتوقف الأمير ، وهو مازال يتلفت ، وقال : يا للعجب ، في هذه المنطقة لا غيرها ، التقيت بالشيخ وابنته ، وقضيت ليلة في كوخهم الصغير .
وردّ الحارس بيشو قائلاً : كما رأيت ، يا سيدي ، لقد جبنا المنطقة كلها ، دون جدوى .
ولاذ الأمير بالصمت ، فقال الحارس : ما أعرفه ، يا سيدي ، ويعرفه جميع الصيادين ، أن هذه الغابة الموحشة ، لا يسكنها أحد .
وحدق الأمير فيه ، وقال بحماس : لكني أنا رأيت الشيخ وابنته ، وقضيت ليلة في الكوخ ، بل أكلت معهما سمكاً ، صدناه من الجدول .
وفي طريق العودة إلى الخيمة ، قال الحارس : في المعبد ، كاهن عجوز ، يُقال أنه تحدث مرة عن شيخ عجوز ، شوهد مرة في الغابة .
وتوقف الأمير محدقاً في الحارس ، ثم واصل سيره بخطى ثابتة ، وهو يقول : تهيئوا ، سنعود غداً إلى القصر ، مع الفجر .



" 14 "
ــــــــــــــــــــــ
قصد الأمير رافانا المعبد ، في صباح اليوم التالي ، الذي وصل فيه إلى القصر ، ليقابل الكاهن العجوز ، الذي تحدث عنه حارسه بيشو .
واستقبله رئيس المعبد مرحباً ، فقال له : أريد أن أرى الكاهن .
فردّ رئيس المعبد قائلاً : إنه في صومعته الآن ، فهو رجل عجوز ، كما تعرف ، سأرسل من يدعوه لمقابلتك فوراً ، يا سيدي .
فقال الأمير رافانا : لا ، أنا سأذهب إليه .
فقال رئيس المعبد : سأرافقك إليه ، يا سيدي .
ورافق رئيس المعبد ، الأمير رافانا ، عبر ممرات المعبد ، إلى صومعة صغيرة ، وقال : هنا يعيش الكاهن العجوز ، يا سيدي .
وطرق رئيس المعبد الباب برفق ، وبعد هنيهة أطلّ كاهن عجوز ، فبادره رئيس المعبد قائلاً : الأمير رافانا ، جاء ليراك ، يا .
وبدت الدهشة على الكاهن العجوز ، وتطلع إلى الأمير رافانا بعينين غائمتين ، وقال بصوت شائخ : أهلاً ومرحباً ، سيدي رافانا .
وردّ الأمير رافانا قائلاً : أهلاً بك .
ثم التفت إلى رئيس المعبد ، وقال : سأبقى مع الكاهن
وحدي .
وقال رئيس المعبد : سمعاً وطاعة .
ومضى رئيس المعبد مبتعداً ، فقال الكاهن العجوز : تفضل إلى الداخل ، يا سيدي .
ودخل الأمير رافانا الصومعة ، وأغلق الكاهن العجوز الباب ، وقال : أهلاً ومرحباً ، أرجو أن أستطيع خدمتك ، يا سيدي .
وتطلع الأمير رافانا إليه ، وقال : أريد أن أسألك عن أمر غريب ، هام عندي ، رأيته في الغابة ، عندما ذهبت للصيد ، قبل عدة أيام .
وردّ الكاهن العجوز قائلاً : هذه الغابة تعج بما هو غريب وغامض ، يا سيدي .
فقال الأمير رافانا : رأيت غزالة فتية ، طاردتها حتى ضللتُ طريقي وسط الغابة ، وصادفني شيخ يعيش مع ابنته في كوخ صغير ، فاستضافني عنده ليلة ، وحين عدت إلى رفاقي ، بحثت عن الشيخ وابنته والكوخ الصغير ، فلم أجد لهم أثراً .
ولاذ الكاهن العجوز بالصمت ، ثم قال بصوته الشائخ : ولن تجد له أثراً ، يا سيدي ، لأنه أساساً لا وجود له في أي مكان من الغابة .
وتمتم الأمير رافانا مذهولاً : ماذا تقول !
فردّ الكاهن العجوز قائلاً : قرأت في كتاب قديم ، أن كاهناً طيباً ، ضلّ الطريق في الغابة ، وأوشك أن يموت من الجوع ، فأقبل عليه شيخ ، يعيش في كوخ صغير مع غزالة فتية ، فاستضافه ليلة ، وفي اليوم التالي دله على الطريق ، الذي يخرجه من الغابة ، ومضى الكاهن ، وحين التفت إلى الوراء ، لم يرَ لا الشيخ ولا الغزالة الفتية ، ولا حتى الكوخ الصغير .
عاد الأمير رافانا إلى القصر ، وحاول أن يستغرق في حياته العادية ، لكن لم يغب عن باله ما رآه في الغابة ، وخاصة الفتاة الغزالة .


30 / 6 / 2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام