الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلو فقير

دلور ميقري

2023 / 5 / 8
الادب والفن


بقيَ في نظرنا، نحن أطفال الزقاق، كما لو أنه أحد أبناء الغرباء، الذين تزايدت أعدادهم في تلك الآونة سواءً في الحيّ أو في المدينة عموماً. لكن بالنظر لنشأة " برو " في الريف، كان متين الجثة وجسوراً، احتجنا إليه في معاركنا مع أولاد الأزقة المجاورة، وكانت تحتدم غالباً بحُكم ميلنا إلى المغامرة أو لمجرد التسلية. كانَ، إذاً، قد نشأ في إحدى بلدات الريف الدمشقي؛ ثمة أين توطنَ أقاربه منذ زمن الانتداب الفرنسيّ، كون بعضهم خَدَمَ في سلاح الدرك وامتلك آخرون أراضٍ زراعية وفيرة الغلّة. وكما تشي كنيتهم، كانت شجرةُ عائلتهم متجذّرةً في الحارة الغربية، المجاورة لحيّ الصالحية. عقبَ وفاة والد برو، وانتقال والدته إلى منزل زوجها الجديد، جاء به عمّه إلى زقاقنا. هذا الأخير، وكان ضابطاً متقاعداً، لم يُرزق بأولاد من امرأته، فعمدا إلى تبنّي الطفل اليتيم وطفقا يغدقان عليه الحبَ والحنان كما لو أنه من صلبهما. بفضل هذه العاطفة، كان الزوجان يسمحان لنا بقضاء ما نشاء من الوقت في حديقة منزلهم الكبيرة، المُترعة بشتّى أنواع الأشجار المثمرة. كان يسرّهما أن نمارسَ هناك ألعابنا، تحت أنظارهما، عوضاً عن الانسياح إلى أزقة الحارة أو بساتينها. وكانَ يتوسط الحديقة بئرٌ قديم، متخلّفٌ ولا شك عن تلك الأزمنة، التي كانت فيها الأنهارُ مصدرَ الماء العذب لسكان المدينة. وكانَ مُعين هذا البئر، شأنَ أقرانه في الحارة، قد نضبَ بسبب انحسار الماء عن المسارب المتّصلة بالنهر. كنا نلهو برمي الأحجار في أعماق البئر، ليرجع صداها إلى أسماعنا.
" عمّتي تقول، أنّ رميَ الأحجار في البئر يُزعج ‘ سلو فقير ‘، فيخرج من أعماقه ليلاً كي يطوف بلا هدى في الحديقة "، خاطبنا برو ذاتَ مرةٍ بنبرة مُحذّرة. ثم أضافَ، لما لاحظَ ملامحنا غير المكترثة: " رأته هنا في ليالٍ معيّنة، وكانت لحيته البيضاء تصل إلى ركبتيه. لقد توسلَ إليها أن تُقنع عمّي بالبحث عن جثته ودفنها، لكي ترتاح روحه في مستقرها السماويّ ". كانَ يقصدُ بالعمّة، امرأةَ عمه. أما ذريعة عدم مبالاتنا، فلكون " العمّة " بالذات لم تفه مرةً بهكذا تحذير عندما كانت تراقبنا ونحن نقذفُ الأحجارَ في البئر.
مع ذلك، دفعني الخوفُ من ليل حديقة منزلنا إلى الاستفهام من والدي عن الرجل الشبح، المَدْعو ب " سلو فقير ". عقلية والدي، كما سأختبرُها في زمنٍ مُتأخر، كانت غريبة عن الخرافات. لكنه لم يرَ بأساً يومئذٍ من قصّ بعض التفاصيل عن ذلك الرجل، نازعاً عنه صفته الميتافيزيقية: " يُقال، أنّ سلو فقير كانَ في قديم الزمان رجلاً مسكيناً، يخدمُ مسجداً في الحارة الغربية. وقد سقط ذاتَ يوم في بئر المسجد، لما كان يهمّ بسحب الماء، وفُقد أثرُهُ أبداً. قيلَ أنهم لم يعثروا على جثته، بالرغم من بحثهم في المسارب المتصلة بالآبار "
" أحقاً أن روحَ الميت تبقى هائمة ليلاً، تبلبلُ الناسَ، لحين أن يتم دفن جثته؟ "
" بخصوص سلو فقير، فعلى الأرجح أنّ تيارَ ماء المسارب دفع بجثته إلى النهر وسارت في مجراه ". سكتَ لحظة، قبل أن يُتابع مع ابتسامةٍ مُضاءة بالتهكّم: " منذ ذلك الوقت، صاروا هناك في الحارة الغربية يَدْعون كل شخصٍ مسكين وساذج، سلو فقير؛ إلى أن أصبحَ مثلاً في عموم الحيّ ". هدّأ مخاوفي نوعاً بشأن الشبح، وتفهمتُ أيضاً سخريته منه حينَ علمتُ أن الحكاية مضى عليها قرنٌ من الزمان. إلا أنني عدتُ لأخذ رأيه، فيما يُشاع عن ظهور الشبح مؤخراً: " عمّة رفيقنا برو، أكّدت أنها رأت سلو فقير أكثر من مرة وهوَ يجولُ في حديقة منزلهم ليلاً؟ "
" إذا كانت قد صادفته ولم يُصبها بأذى، فإنّ هذا دليلٌ على أنه ما زالَ فقيراً ومسكيناً! "، ردّ والدي مع ضحكة مقتضبة.
مثلما سبقَ القول، أنني كنتُ أخاف من حديقة منزلنا ليلاً. لكنّ معظم الأطفال ينتابهم هكذا شعور، بالأخص عندما تزمجر الريحُ بينَ الأشجار فيعتقدون أنها أشباحٌ مُتربّصة. مشكلتي الحقيقية آنذاك ( سأتحررُ منها في شبابي بأمرٍ عسكريّ )، هيَ سيري ليلاً وأنا نائمٌ. المفارقة في الأمر، أنني كنتُ في أثناء سيري " المُمَغنط " أتجه أحياناً إلى حديقتنا، لأنزل إليها عبرَ درجاتها العشر، وكما لو بهدف تحدّي أشباحها. على أية حال، كانت مراتٍ قليلة ومتباعدة، تلك التي رأيتني فيها أسيرُ في نومي إلى أبعد من حجرة النوم: إحداها، أعقبت حديثي مع الأب حولَ شبح المَدْعو سلو فقير.
ولأنوّه بدءاً، أنّ منزل أحد جيراننا الكبير المساحة، كمعظم منازل الزقاق، كانت أرضُ دياره على نفس السويّة مع حديقته. وأعتقدُ أنّ ذلك كانَ سبباً لجعله مَعْقِدَ أفراح أقاربهم، إن كانَ عُرساً أو طُهوراً أو صُلحاً. في الليلة المذكورة، صدحت موسيقى صاخبة من منزلهم، تخللها إطلاقُ عياراتٍ نارية مبتهجة. كانَ عرساً، وأظنه استمرّ إلى منتصف الليل. لم أحضره؛ لكنني تابعته من موقفي فوق سطح منزلنا، لحين أن أمرني والدي بالنزول خشيةَ المقذوفات النارية الطائشة. توجهتُ عندئذٍ إلى سريري، لأتمتع بنوم هانئ على وقع الموسيقى وصدى الرصاص.
كانت ليلة صيف حارة، ويلوحُ أنّ النسيمَ تحرّك أخيراً بفعل انزعاجه من صخب العرس. بدَوري، تحركتُ قليلاً كي أشدّ الشرشفَ الخفيف حول جسدي غبَّ شعوري بالنسيم البارد. عندَ انتباهي أنّ العرسَ قد انقضى، انزلقتُ من السرير مغتاظاً بعض الشيء. راوحتُ في مكاني لبرهةٍ، أحاولُ التفكّرَ في الخطوة التالية. لكنّ فكري كان ما يني مُستغرقاً في النوم. هكذا مضيتُ خارجاً دونَ حاجةٍ إلى التفكير، ليلفحني العبقُ الشديد لعريشة " الكلونيا "، الذي لا ينشط إلا ليلاً كالأشباح! أحسستُ عند ذلك، كأنّ العبقَ يدعوني إلى الحديقة. إلا أنني التفتّ إلى ناحية الدهليز المظلم، لأعبرُهُ باتجاه باب الحوش. فتحتُ البابَ، وتوغلت من ثم في عتمة الزقاق. حتى أوقفني مشهدُ " عمّة " صديقنا برو، وكانت تسقي حديقتها من خلال نربيشٍ مُتّصلٍ مع صنبور السبيل. كانت مطرقة برأسها، ولعلها لم تنتبه إليّ وهيَ في غمرة أفكارها. مَدهوشاً، لحظتُ أن النربيشَ مُرقّشٌ بنقوشٍ بديعة، كما لو أنه ثعبانٌ هنديّ. فرأيتني أتابعُ سيرَ النربيش إلى داخل الدار، إلى أن احتوتني الحديقة المليئة بالظلال تحت ضوء القمر. ثمة في نصف الدائرة، المُشَكّلة من أشجار التوت، كان البئرُ ينتصبُ بدائرته الكاملة، المبنية من الطوب الأحمر. لما أنحنيتُ على البئر، رأيتُ صورةَ القمر منطبعة على المياه.
" عجباً! كيفَ جرى مُعين البئر، وكان ناضباً منذ زمن الأسلاف؟ "، خاطبتُ نفسي. كذلك أدهشني مرأى سلّم البئر، وقد آبَ حديدُهُ إلى الجدّة والمتانة بعدما كانَ صدئاً مُتخلخلاً. لما ألقيتُ نظرةً أخرى إلى الماء المُقمر، ميّزتُ شكلَ سلحفاةٍ كبيرة وكانت على ما يبدو تروي عطشها. قلتُ في نفسي: " هلمّ للنزول إلى القاع، لتظفر بالحيوان الجميل.. لا تكنْ أقلّ منه جسارةً! ". اختبرتُ أولاً سلامةَ السلّم، وذلك بجسّ درجتيه العلويتين الأخيرتين، وما أسرعَ أن استخدمته للنزول إلى قاع البئر. الرطوبة، كانت قد أنجبت في الجدران الدائرية النباتاتِ والطحالبَ، المُموَّه بعضها بشباك العنكبوت. كما واستُبدلت رائحةُ البستان الأليفة، برائحةٍ يشعر بها أنفُ من يمرّ بالمقبرة ليلاً. لما تناهيتُ أخيراً إلى القاع، وشعرتُ ببرودة الماء تلسع قدميّ الحافيتين، كانت السلحفاةُ قد اختفت. مُمسكاً جيداً بالسلّم، رحتُ أغوص شيئاً فشيئاً، وبحرص، في مياه البئر كي أقدّر مدى عمقها. طمأنني من ثم أنها بالكاد ناهزت ركبتيّ، فاندفعتُ فيها لمحاولة العثور على السلحفاة. وإذا بي أصطدمُ بأحدهم، وقد خيّل إليّ للوهلة الأولى أنه جدارُ المسراب.
" أنتَ تبحثُ عن هذه، أليسَ صحيحاً؟ "، خاطبني الرجلُ وهوَ يُومئ إلى الحيوان في حضنه. تكشيرته، أو ربما ابتسامته، انحسرت عندئذٍ عن فمٍ بلا أسنان. لحيته البيضاء، المُسترسلة إلى أسفل صدره العاري، جذبت نظري تالياً. بطبيعة الحال، عُقِدَ لساني من الرعب. لكنه لم ينتظر جوابي، وهوَ ذا يعطيني ظهره ليتحرك باتجاه مجاهل المسراب. قوةٌ قاهرة ( كأنها بَوْلةُ الضبع )، أجبرتني بعدئذٍ على تأثّر خطواته المائية من مكانٍ إلى آخر. عادَ إلى الالتفات إليّ، وكنا قد أضحينا تحت مضاءة إحدى الآبار: " أنتَ الآنَ في مركز المتاهة، وستحتاج إلى خريطتي كي تخرج من هنا ". سكتَ لبرهةٍ، قبل أن يُضيفَ بنبرةٍ أخرى يغلب عليها القنوط: " مكثتُ في هذه المتاهة مائة عام، ساعدتُ في خلالها كثيرين كي يهتدوا إلى طريق النجاة. أحدهم، لو لم تخنّي الذاكرة، كان صاحبَ الدار التي نزلتَ أنتَ من بئرها. هوَ أيضاً، حنثَ بوعده في أن يعثرَ على جثتي لدفنها؛ لكي تستريحَ روحي من التوهان الأبديّ. وأنتَ؟ هل ستكون مثلهم؟ "
" يا عم! أنا ولدٌ صغير.. "، قلتُ بصوتٍ مرتعش بالبكاء الصامت. وإذا به يُطلق ضحكة جنونية، بقيَ صداها يترددُ بين جدران المسراب. صامتاً على الأثر، استمر يروزني بعينيه الشبيهتين بعينيّ الكلب وكما لو أنه يرغب بالتأكّد من أنني طفلٌ حقاً. قال أخيراً وهوَ يدفع إليّ بالسلحفاة: " شكلكَ البريء، يوحي أنك طفلٌ طيّب ". ثم استطردَ نافخاً يأسه وتعاسته: " لن أُلزمكَ بأيّ وعدٍ، لكنني آملُ أنك عندما تكبر لن تدّخر وسعاً لمساعدة روحي ".
بحَسَب خريطته الذهنية، مضيتُ باتجاه المَخرج المُفترض للمسراب دونَ أن ألتفتَ مرةً إلى الخلف. ولعلني عثرتُ على الطريق الصحيح بعينيه هوَ لا بعينيّ. غبّ وقتٍ مديد أو مُبتسر، رأيتني مُجدداً في الزقاق وكان المؤذنُ يعلن بصوته المنكسر عن صلاة الفجر. " العمّة "، كانت ما تفتأ ثمة، عند مدخل منزلها، تحرسُ النربيشَ الذي يُنزح الماءَ إلى حديقتها. ما أن ميّزت هيئتي، حتى هتفت بصوتٍ عال: " ماذا تفعل في هذه الساعة، يا بنيّ؟ ". عندئذٍ، حَسْب، أحسستُ كأنني استيقظ من النوم. قادتني برفق إلى المنزل، وهناك أمام الباب تسلّمني والدي بعدما شكرها. قال لأمي تحت ضوء الدهليز الخافت، لما ظهرت مهتاجة في مدخل أرض الديار: " كان ذنبي، لأنني سهوتُ أمس عن قفل باب الحوش بالمفتاح ".
في الصباح التالي، على سفرة فطور يوم الجمعة المُحتفية بسلطانية الفتّة بالحمّص، استعادا ما جرى في ليلة الأمس. لما ذكرَ والدي أنني وصلتُ سائراً في نومي إلى مَجلس الجارة، لم يكن مني إلا أن هتفتُ بانفعال: " بابا، أنا لم أكن نائماً! ". ثم تابعتُ متحمّساً: " لقد نزلتُ أمس إلى أعماق بئر منزل جارتنا، وهناك التقيتُ مع سلو فقير وأعطاني سلحفاة كبيرة ". توقف أشقائي عن مضغ لقيماتهم، قبل أن ينفجروا مقهقهين. أما الوالد، فإنه اكتفى بالابتسام وسألني: " لم يكن معك سلحفاة حينَ أوصلتك جارتنا للمنزل؟ "
" فقدتها، والله، حالما خرجتُ من المسراب "
" المسراب..؟ "، قالها مُضيّقاً عينيه. ثم أضافَ، منحنياً عليّ هذه المرة، ليهمس في أذني: " إذاً، أضحى الآنَ لدينا مفقودان؛ سلو فقير والسلحفاة ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس