الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النظام الإشتراكي والوقاية من الأمراض

تمارا العمري

2023 / 5 / 9
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


المؤلّف: موقع IfDDR بالتعاون مع مجموعة من الباحثين الألمان

المُترجم: تمارا العُمَري

تدقيق الترجمة: مالك أبوعليا

كانت جمهورية ألمانيا الديموقراطية قادرة على بناء وتطوير نظام رعاية صحية مختلف تماما على الرغم من وجودها لمدة لا تزيد عن ال40 عاما، فقد أصبح النهج الطبي معروف باسم "الوقاية" الذي يسعى الى منع المرض قبل ظهوره، هو النهج السائد للسياسة الصحية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية آنذاك، وبناءا على التقاليد الطبية التقدمية وعلاقات الملكية الاشتراكية كانت جمهورية المانيا الديمقراطية قادرةً على تشييد نظام صحي موحد يعمل في جميع المجالات ويعمل أيضا على القضاء على الدافع الربحي من الطب. تبحث هذه الدراسة في التشديد السياسي على المجال الطبي-الاجتماعي في ألمانيا الشرقية، والذي سعى بشكلٍ منهجي إلى التعرف على ظروف المعيشة والعمل التي تساهم في (وجود أو انتشار) المرض ومكافحته بدلاً من مجرد التركيز على العلاج على المستوى الفردي فقط. بالإضافة إلى ذلك تبحث هذه الدراسة أيضا في المؤسسات التي دعمت هذا النهج مثل شبكة العيادات الخارجية التحويلية ومجال الطب المهني، جنبًا إلى جنب مع الرعاية الطبية الشاملة للأطفال والخدمات الصحية والأُممية الطبية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية.
أثبتت جمهورية ألمانيا الديمقراطية، في مواجهة الموارد الاقتصادية المحدودة والمنافسة الشرسة مع العالم الرأسمالي، أنه بالإمكان ضمان الرعاية الصحية الوقائية والعلاج الفعال وظروف العمل الكريمة لجميع الناس، وبالنظر إلى العوامل الكامنة وراء كل من النجاحات والتحديات التي واجهت ألمانيا الديمقراطية، تسعى هذه الدراسة إلى تكون إطاراً مرجعياً لأولئك الذين يُناضلون من أجل مجتمعٍ عُمّاليٍ يُنظمونه هم أنفسهم لأجل مصالحهم.

1. رعاية صحية في نظامٍ مريض
إن الطريقة التي يَنظُرُ بها المُجتمع الى قضايا الصحة، كثيرًا ما تكشف عن طابعه العام. فالأولوية الممنوحة لصحة الناس ودرجة حماية الأفراد ومعاملتهم على قدم المساواة، ومدى توجيه الرعاية الصحية نحو تلبية الاحتياجات الفعلية للأفراد، هذا كله يكشف عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة.
ومع ذلك، لا يمكن اختزال السياسة الصحية الى نظام الرعاية الطبية وحده. انها (أي السياسة الصحية) تتعلق كذلك بظروف العمل والتغذية والسكن والتعليم وطبيعة العلاقات الاجتماعية وأوقات الفراغ والسلوك الثقافي وعدد من العوامل الأخرى التي تشكل الأساس الذي تقوم عليه الصحة الجسدية والعقلية للناس. كانت العلاقة المتبادلة بين هذه العناصر قيد المناقشة في ألمانيا خلال التطور المبكر للرأسمالية. ومثال على ذلك عمل الطبيب الألماني رودولف فيرشو Rudolf Virchow (1821–1902)، مؤسس علم الأمراض الحديث ورائد في ما كان يُشار إليه فيما بعد باسم "النظافة الاجتماعية" (Sozialhygiene). هذا المجال، مرتبط الآن بمصطلح الطب الاجتماعي او الصحة العامة الذي يبحث في التفاعل ما بين صحة الاشخاص وظروف معيشتهم، كما قدم فريدريك إنجلز أيضًا دليلاً على هذا الارتباط في عمله المبكر عن حالة الطبقة العاملة في إنجلترا.
في ظل الرأسمالية، يجب النضال ضد المصالح الاقتصادية في كفاحٍ مستمر لأجل تحصيل حق الحماية الصحية. تتحدد السياسات المتعلقة بالصحة من قبل القطاع الخاص بشكلٍ أساسي وتقوم قُوى السوق بإعادة تشكيلها بشكلٍ مُتزايد. فقد كشفت جائحة كورونا COVID-19 بشكلٍ صارخ عن أوجه قصور أنظمة الرعاية الصحية اليوم والتحديات غير المحلولة التي تُواجهها، وتفتقر العديد من الدول إلى هياكل صنع القرار الواضحة والمرتكزة على أسسٍ علمية، وتُقرر المصالح الاقتصادية الخاصة قبل كُل شيء أُسس التعاون والتضامن المحلي والعالمي بين الدول، إذ أنه لا مشكلة لدى القادة السياسيين ورجال الأعمال من إرتفاع معدّل الوفيات مقابل إمكانية الحدّ من الخسائر الاقتصادية. وفي جميع أنحاء العالم، تجعل الظروف المعيشية والعملية أصحاب الدخل المتدني أكثر عُرضةً للوباء، ويُحرمون في كثير من الحالات، من الحصول على اللقاحات والأدوية بينما تحظى حماية حقوق براءات الاختراع بالأولوية على الرعاية الشاملة للأشخاص. لقد تُركَ سكان الجنوب العالمي خاليي الوفاض تماماً.
تُروَّج الفعالية الإجمالية لأنظمة الرعاية الصحية في شمال الكرة الأرضية على أنها مؤشر على تفوق هذا الشمال، ومع ذلك لم يتم استغلال إمكاناتها بالكامل، كما أن فعاليتها لا ترجع فقط إلى القوة الاقتصادية أو التقاليد الطبية الإيجابية، بل يرجع أيضاً لنضال النقابات والقوى الديمقراطية الاخرى المستمر لعقودٍ طويلة والذي أملى وضع الحدود الدنيا من الرعاية الاساسية، حتى نفس تلك القُوى المذكورة اضطرت لاحقاً للدفاع عن هذه المكتسبات من ضعوط القطاع الخاص المُستمرة. ومن ناحية أخرى تعمل الأنظمة الصحية في البلدان الأكثر ثراءً على جذب العاملين في المجال الطبي بعيدا عن الدول الفقيرة. هذا إلى جانب الإستغلال المستمر للجنوب العالمي الذي يزيد من تفاقم التنمية غير المتكافئة بين الشمال والجنوب. يعمل القطاع الرأسمالي الخاص اليوم، على ترسيخ قبضته على أنظمة الرعاية الصحية وخاصةً في الاقتصادات الغربية، مما يؤدي إلى التسليع المُتزايد للصحة والمرض، واخضاعهما الى الربح بشكلٍ أساسي.

ازدادت نسبة المستشفيات الخاصة والأسرّة أيضا بشكل كبير في المانيا منذ عام 1991، مُتابعةً بشكلٍ متزايد النهج الذي بدأ في جمهورية ألمانيا الاتحادية (يشار إليها عادة بـ ألمانيا الغربية) في منتصف الثمانينيات، المُتمثل في إخضاع رعاية المرضى في المستشفيات الى معايير السوق والتجارة. اكتسب هذا التطور زخمًا إضافيًا في عام 2003 مع طرح نظام فوترة مستوحىً من الولايات المتحدة الامريكية استنادًا إلى التشخيص الطبي؛ يتم بموجب هذا النظام، تصنيف حالات المرضى في المستشفى إلى مجموعاتٍ مختلفة لتحديد "المنتجات الطبية" التي يتلقاها المرضى وتحديد قيمة الدفع. على هذا النحو، يتم اتخاذ القرارات المتعلقة بالعلاج وطول الإقامة في المستشفى إلى حد كبير على أساس ما هو مُربح وليس على أساس المعايير الطبية -أي ما احتاجه المريض فعلا-، وبالتالي تتآكل جودة الرعاية الصحية، بقدر ما يعتمد العلاج أكثر فأكثر على دخل المريض وبقَدَر ما ينخفض مُستوى الخدمات الصحة العامة.
كان التناقض بين مصالح القطاع الخاص والرعاية الصحية الشاملة لجميع أفراد المجتمع قد تم واضحاً في الأيام الأولى لجمهورية ألمانيا الديمقراطية (يشار إليها عادة باسم ألمانيا الشرقية). كانت ألمانيا الديمقراطية طوال الأربعين عام -فترة وجودها- قادرةً على بناء وتطوير نظام رعاية صحية مختلف جذرياً. على الرغم من الظروف الإقتصادية السيئة التي ترافقت مع نشأتها، صُنفت جمهورية ألمانيا الديمقراطية بين أكبر 20 دولة صناعية من حيث الإنتاج الاقتصادي ومستويات المعيشة بحلول نهاية الثمانينيات، حيث انعكست رفاهية سكانها البالغ عددهم 16 مليون نسمة في ارتفاع مقادير نسبة الأطباء إلى السكان، ونسبة وفيات الرضّع المُنخفضة، والحد من مرض السل وهي بعض المعايير التي تضعها مُنظمة الصحة العالمية لقياس مدى جودة النظام الصحي. كان هذا هو الحال، على الرغم من الحالة الهيكلية دون المستوى للعديد من المرافق الصحية، وندرة الإمدادات الطبية، والقيود المفروضة على استيراد الأدوية والتكنولوجيا نتيجة العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب.

كانت جمهورية ألمانيا الديمقراطية قادرةً على تحقيق تقدم كبير في مجال الرعاية الصحية لسببين أولاً تأثير التقاليد التقدمية المتوارثة من القرن التاسع عشر وجمهورية فايمار (1918-1933) وثانياً، التحول الجذري للظروف الاقتصادية والسياسية فيها، هذا التحول مكّن الدولة الفتية من إعادة توجيه أهداف بُنية الرعاية الصحية حول المبادئ الاجتماعية، مع إنشاء علاقات اشتراكية جديدة داخل وخارج مكان العمل مما أدى إلى تحسين صحة السكان.

تقيّم هذه الدراسة نظام الرعاية الصحية في برنامج جمهورية ألمانيا الديموقراطية وتتبع العديد من عناصره المركزية، وتتفحّص دور الطابع الاشتراكي للجمهورية في بناء نظام رعاية صحية قائم بشكل أساسي على المبادئ الوقائية. لم يستمر هذا التقدم دون صعوبات وتناقضات، ويمكن أن تُصبح الأفكار المكتسبة من هذا النهج لبناء نظام رعاية صحية فعال ومتاح للجميع ضمن الموارد الاقتصادية المحدودة بمثابة مرجع للنضال في جميع أنحاء العالم. يعود الاقتباس المشهور – الاشتراكية هي أفضل وقاية- الى مكسيم زيتكين Maxim Zetkin (1883-1965) -وهو طبيب وسياسي وابن الناشطة والشيوعية الدولية في مجال حقوق المرأة كلارا زيتكين (1857-1933)- والذي صار شعاراً لجمهورية ألمانيا الديمقراطية. تماشيا مع تركيز جمهورية المانيا الديمقراطية على نظام الرعاية الصحية، صار هذا الشعار يُشير الى النهج الطبي الوقائي، الذي يسعى الى منع المرض قبل ظهوره.

2. الظروف التاريخية لجمهورية المانيا الديمقراطية

نشأت الظروف الاجتماعية والصحية المُزرية للبروليتاريا الحضرية على خلفية التصنيع في الإمبراطورية الألمانية (1871-1918). بعد سنواتٍ من الحملات، نجحت الديمقراطية الاجتماعية الثورية في إستدخال التأمين الصحي الاجتماعي في عام 1883. في حين يُذكر المستشار الألماني أوتو فون بسمارك على أنه الأب المؤسس للتأمين الاجتماعي الذي تنظمه الدولة ، الا أن نضالات نضالات الطبقة العاملة في الحقيقة، هي التي طالبت وفازت بتنازلات الحكومة. لم يُخفِ بسمارك أبدًا حقيقة أنه سعى إلى صد التأثير السياسي للحركة العمالية الاشتراكية. لقد أشارَ خلال جلسة للرايخستاغ أنه: "بدون الديمقراطية الاشتراكية وبدون الخوف من أنها تضم الكثير من الناس ، لما قمنا بالإصلاحات الاجتماعية الشحيحة التي يجب علينا أن نقدمها اليوم". ساعد إستحداث نظام التأمين الصحي هذا، على تغطية تكاليف العلاج جزئيًا، ولكن ظلت أوجه القصور قائمةً، حيث لم تتحسن ظروف العمل واضطر العمال إلى دفع ثُلثَي الأقساط. نتيجةً لذلك، ظهرت منظمات رعاية صحية ذاتية التنظيم مثل اتحاد العمال السامري Workers’ Samaritan Federation (ASB) وخدمات الصحة البروليتارية the Proletarian Health Service (PGD) لتكمّل عمل الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني (SPD) والحزب الشيوعي الألماني (KPD) على التوالي خلال فترة جمهورية فايمار، وطالبت هذه المنظمات بشكل كبير، بمزيدٍ من التوسع في الرعاية الصحية العامة.
بدأ النازيون، بعد تسلّم الفاشية السُلطة في ألمانيا عام 1933، بإساءة استخدام الطب لفرض أيديولوجيتهم العنصرية والمعادية للسامية ضد الأشخاص الذين زعموا أنهم أقل شأناً منهم، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية على نطاقٍ غير مسبوق. بعد الهزيمة التامة لألمانيا النازية في عام 1945، أصاب سكان ألمانيا أزمة صحية كارثية. لقد اتضّحَ أن الحروب تُسبب انتشار الأوبئة والأمراض والإصابات وتستمر سلسلة خسائرها (الحرب) حتى بعد فترةٍ طويلةٍ من انتهائها. ففي المنطقة التي أصبَحَت تُعرَف بـ"منطقة الإحتلال السوفييتي" SOZ، تدمرت المستشفيات والمصحات وانهارَ نظام الرعاية الصحية بأكمله. انهارت إمدادات الأدوية، وانتشرت الأوبئة بشكل لا يمكن السيطرة عليه، وازداد تعقّد الأمر بسبب التدفق الكبير للاجئين والأشخاص الوافدين من أوروبا الغربية الذين أُعيدَ توطينهم. كانت الوفيات بسبب مرض السل في هذه الفترة أعلى بمرتين مما كانت عليه قبل الحرب، التيفوس والكوليرا والدوزنطاريا والأمراض التناسلية وأمراض الطفولة التي اجتاحت السكان، كما انخفض عدد الأطباء إلى النصف مقارنة بمستويات ما قبل الحرب، وتم إغلاق الجامعات وبالتالي توقف تدريب الأطباء الجدد.
تمت صياغة السياسات الصحية لـ"منطقة الاحتلال السوفييتي" بناءً على ثلاثين أمرًا صادرًا عن الإدارة العسكرية السوفيتية Soviet Military Administration (SMAD) في الفترة ما بين هزيمة النظام النازي في عام 1945 إلى تأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية في عام 1949-وهي الادارة التي حكمت في تلك الفترة. تم تنفيذ هذه الأوامر من قِبَل اللجنة الاقتصادية الألمانية (الهيئة الإدارية المركزية الألمانية في SOZ) جنبًا إلى جنب مع الإدارة المركزية للرعاية الصحية المنشأة حديثًا والحكومات الإقليمية الخمس في شرق ألمانيا. كان السؤال الفوري الذي يواجه الإدارة العسكرية السوفيتية هو كيفية التعامل مع الأطباء وغيرهم من المهنيين الصحيين الذين دعموا النظام الفاشي، حيث كان ما يقارب 45% من الأطباء أعضاءً في الحزب النازي، وكان الكثيرون منهم مُتورطاً في القتل الرحيم والفظائع الأخرى التي وقعت في معسكرات الاعتقال. هرب العديد من هؤلاء الأفراد من منطقة SOZ، مُدركين أنهم سيُعامَلون بشكلٍ أكثر تساهلاً في الغرب. أما من بقي في شرق ألمانيا فقد واجهتهم مُعضلة سياسية وأخلاقية صعبة: فقد تم فرض الفصل الشامل للمهنيين الصحيين –كما تم تنفيذه كذلك بين القضاة والمعلمين لسببٍ وجيه- وليس بسبب الأزمة الصحية التي تواجه البلاد فقط، ووفقاً لهذا الفصل، سُمح للأطباء الذين لم تثبت إدانتهم بارتكاب أي جرائم بمواصلة عملهم، وتأقلَمَ العديد منهم لاحقا مع العمل في ظل النظام الصحي الجديد.
كان العديد من الأطباء والعاملين الصحيين الذين عُهد إليهم بمناصب إدارية في الإدارة العامة لمنطقة الوجود السوفييتي، هم أولئك الذين هاجروا أو سُجنوا أو انخرطوا في المقاومة في ظل النظام النازي. تحددت مهامهم الفورية من خلال قرارات قوات الحلفاء في اتفاقية بوتسدام لعام 1945 والأحزاب السياسية التي تم إضفاء الشرعية عليها حديثًاً، في منطقة الوجود السوفييتي. تأسس الحزب الاشتراكي الألماني الموحّد (SED) في عام 1946، من اندماج حزبي الطبقة العاملة - الحزب الشيوعي الألماني (KPD) والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني (SPD) - وادرَكَ الحاجة الى بُنىً صحية جديدة، وخاصةً رعاية المرضى اللذين لا يحتاجون الى اقامة في المشفى، استندت السلطات في منطقة الوجود السوفييتي، عند صياغتها برامج السياسة الاجتماعية والصحية لألمانيا جديدة وديمقراطية، إلى المطالب والتجارب التقدمية في فترة جمهورية فايمار.
كانت المهمة الراهنة، إقامة نظام رعاية صحية فعال، وقد تطلب ذلك تأميم مؤسسات الرعاية الصحية وضمان الحق في الرعاية الصحية للجميع. تم توفير العلاج الطبي المجاني من خلال نظام رعاية صحية شامل، وكانت مهمة حماية الصحة، مطروحةً أمام جميع قطاعات المجتمع. كان فصل الاحتياجات الطبية للناس عن المصالح الخاصة لرأس المال، هي الفكرة المركزية الحاسمة لتوفير الرعاية الصحية للجميع؛ وأُخِذَ بالاعتبار أن ممارسات الاطباء المستقلين العاملين في العيادات الخاصة تقف بالتعارض مع التطور التقدمي للطب. كانت هذه الملاحظة قد وضعتها مُسبقاً عصبة الأمم، وهي رابطة دولية تأسست بعد الحرب العالمية الأولى وهي التي سبقت الأمم المتحدة.
كانت خبرات الاتحاد السوفييتي ونظامه الصحي، المُستلهَم من المواقف السياسية لليسار الألماني خلال فترة فايمار (1918-1933)، هي التي ساعدت في تشكيل نظام الرعاية الصحية الجديد في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. من بعد الثورة الروسية عام 1917 والحرب الأهلية (1917-1922)، أصبح الاتحاد السوفيتي الفتيّ أول دولة في تاريخ العالم يبني نظاما للرعاية الصحية يضمن فيه الرعاية الصحية الشاملة والمجانية لجميع السكان، وتكريس حق الحصول على خدمات طبية مجانية في الدستور السوفياتي لعام 1936 كأحد الحقوق الأساسية للشعب السوفياتي. بموجب النموذج الذي قدمه نيكولاي سيماشكو (مفوض الشعب للصحة من 1918 إلى 1930)، تم تمويل المرافق والخدمات الطبية بالكامل وإدارتها بشكل مركزي، وتم تشغيل نظام متعدد المستويات من المستشفيات والعيادات المتخصصة والمصحات على المستوى الوطني والإقليمي وفي كل مدينة ومقاطعة. صحيح أن النموذج السوفيتي أثّر في تحول نظام الرعاية الصحية في منطقة الوجود السوفييتي في ألمانيا، لكن لم يكن الأمر مُجرّد استنتساخ بسيط عنه، حيث كان هناك فروقات ميّزَت نظام جمهورية ألمانيا الديمقراطية الصحي عن النظام السوفييتي، على سبيل المثال، درجة التنظيم المركزي وحقيقة أنه لم يتم تمويله من قِبَل الدولة وحدها.

3. مُقاربة جمهورية ألمانيا الديمقراطية الشاملة للرعاية الصحية

كان إقامة علاقات الملكية الاشتراكية شرطاً مسبقاً حاسماً للمُقاربة الوقائية التي اتخذتها الجمهورية تجاه الرعاية الصحية، وبالتالي، أصبحت إدارة الأمور المتعلقة بالصحة مثل ظروف العمل والإسكان والتغذية والتعليم تتم من قِبَل الدولة ومؤسسات صنع القرار الديمقراطية فيها. أتاح التخطيط الشامل للمؤسسات ذات الملكية العامة إمكانية التحقيق في المخاطر الصحية اليومية ومعالجتها. وانطلاقاً من هذا السعي، وَضَعَت الجمهورية برنامجاً يقوم على تقاليد السياسة الطبية الاجتماعية، التي تناولت الصحة من منظور اجتماعي سياسي وركزت على التفاعل بين رفاه الشعب وظروف معيشتهم وعملهم بشكلٍ عام. لقد أظهَرَ التركيز بشكلٍ خاص على الرعاية الوقائية للأطفال وفي مكان العمل، جنبًا إلى جنب مع مفهوم رعاية المرضى الحديث الخاص بأولئك الذين ليسوا بحاجة الى الاقامة في المستشفى بالاضافة الى الفحوصات المنزلية، نقول، أظهَرَ شُمولية السياسات الصحية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية.
كان من شأن تنظيم مؤسسات الرعاية الصحية ككيانات مملوكة للدولة، أن تغلّبت جمهورية ألمانيا الديمقراطية على الفجوة بين الخدمات الصحية الممولة من القطاع العام وبين قطاع العيادات الخارجية والرعاية الصحية الذي يُنظمه القطاع الخاص، وهي الفجوة الموجودة في العديد من البلدان الرأسمالية اليوم. مكّنَ القضاء على أشكال الملكية الخاصة من دمج الإجراءات الوقائية والعلاجية والرعاية ما بعد العلاجية، التي أسفرت عن نتائج أفضل للمرضى. ومن ناحية أخرى، صار يبإمكان المؤسسات الطبية الكثيرة والمتنوعة في البلاد - من المستشفيات والعيادات إلى الصيدليات ومراكز الأبحاث- أن تتعاون مع بعضها البعض كجزء من شبكة موحدة تقودها وزارة الصحة.
توسّعَت شبكة المستشفيات في جمهورية ألمانيا الديمقراطية بشكلٍ مطرد لتحسين إمكانية تمتع إليها مواطني جميع البلاد بخدماتها. سعى النظام المتدرج، المكون من الأقسام الإدارية الشعبية والبلدية والإقليمية، إلى توفير الرعاية الأساسية في المستشفيات في المُقاطعات، في حين تمت إدارة العلاج المتخصص في المستشفيات الإقليمية أو المؤسسات الوطنية والجامعات. قبل الحرب العالمية الثانية، لعبت الكنائس دورًا مهمًا في صيانة وتشغيل المستشفيات في جميع أنحاء ألمانيا، وبدلاً من تفكيك هذه الهياكل، عملت إدارة الجمهورية مع رجال الدين لضمان توفر الرعاية الصحية الطارئة في جميع مناطق البلاد. وهكذا، من بين 539 مستشفى في ألمانيا الديمقراطية في عام 1989، بقي 75 مستشفى تحت سلطة الكنائس، ولكنها كانت أيضاً مدموجة في نظام تخطيط الدولة.
سعت ألمانيا الديمقراطية للتغلب على التوزيع غير المُتكافئ تاريخياً للأطباء عبر المناطق الريفية والحضرية من خلال إلتزام يتم التعهد به من قبل الأطباء في بداية دراستهم حيث أن على كل طبيب بعد تخرجه وحصوله على رخصة ممارسة العمل وعلى أجره، أن يعمل لعدة سنوات في أحد المناطق التي يندر وجود الأطباء فيها. هذه السياسة، التي يشار إليها باسم توجيه الخريجين (Absolventenlenkung)، كانت الحل الذي طرحته ألمانيا الديمقراطية لمشكلة خطيرة لا تزال تعصف بالعديد من البلدان حتى يومنا هذا.
لتمويل نظام الرعاية الصحية الخاص بها، طَرَحَت الجمهوية مخططًا واسعًا للضمان الاجتماعي يغطي الصحة والحوادث والتأمين على المعاشات التقاعدية وكان يديره العمال بأنفسهم من خلال الاتحاد النقابي الألماني الحر. هذا النموذج المتكامل الذي تنظمه الدولة حل محل أنظمة التأمين المجزأ والموجه نحو الربح والتي لا تزال تعمل في العديد من البلدان الرأسمالية اليوم. دفع الأفراد في ألمانيا الديمقراطية ما يصل إلى 10%من أجورهم الشهرية للبرنامج، على أن لا تتجاوز مُساهمة العمال 60 ماركاً في الشهر. ثم تقوم المشاريع الصناعية والزراعية بحساب مساهمات موظفيها، ثُم تتكلف الدولة بدفع أي عجز.
يتضح الوزن السياسي الذي تمنحه ألمانيا الديمقراطية للرعاية الصحية من خلال القوانين المشرّعة بهذا الخصوص. تم تكريس حق الرعاية الصحية الشامل بغض النظر عن الوضع الاجتماعي للفرد (والذي تم تثبيته مُسبقاً في أول دستور للجمهورية في عام 1949) وظل قائماً في دستوري أعوام 1968 و 1974 اللاحِقَين. وبهذه الطريقة حققت ألمانيا الديمقراطية المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، والذي ينص على أن لكل إنسان "الحق في مستوىً معيشي ملائم لضمان الصحة والرفاه ... بما في ذلك المأكل والملبس والمسكن والرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية والحق في الأمن في حالة البطالة أو المرض أو العجز أو الترمل أو الشيخوخة أو أي نقص آخر في سبل العيش في ظروف خارجة عن إرادته ".
لم تضمن ألمانيا الديمقراطية الحقوق والواجبات الأساسية المتعلقة بالصحة في مجال الرعاية الطبية وحسب، بل وضمنتها أيضًا في مجالات العمل والتعليم، مثل المساواة في الحقوق بين النساء والرجال والحماية الصحية للأطفال والشباب وكبار السن، وشمل ذلك التشريعات التي تمت الإشادة بها دوليًا والتي ألغت تجريم الأفعال المثلية الجنسية في عام 1968 (على الرغم من أنها أُعفِيَت مُسبقاً من الملاحقة القانونية منذ الخمسينيات) وإجازة الإجهاض في عام 1972. وتضمنت التشريعات الهامة الأخرى تحمّل مسؤولية الدولة عن الأضرار الصحية الناجمة عن الإجراءات الطبية (1987)، و نموذج موافقة "الانسحاب الناعم" لزراعة الأعضاء (1975)، وهذا يعني أنه إذا لم يتخذ المواطن قرارًا بالتبرع بأعضاءه بوضوح، فسيتم التعامل معه كمواطن مسجل في قائمة المُتبرعين، وأنه يُريد المشاركة في عملية التبرع بالأعضاء، ما لم يُوقّع على نموذج صريح يطلب منه الانسحاب من التبرع، وهذا أدى الى زيادة عدد المُتبرعين.
كان نظام الرعاية الصحية في الجمهورية قطاعًا شديد التعقيد تم تطويره تدريجيًا ومنهاجياً على مدار أربعة عقود، عَمِلَ فيه ما يقرب من 600000 شخص - ما يقرب من 7 في المائة من إجمالي القوى العاملة - بحلول عام 1989. شَمِلَ هذا القطاع، بالإضافة إلى المستشفيات والعيادات الخارجية، مرافق التعليم والبحث الطبي ومعاهد متخصصة وجمعيات العلمية ودور النشر ومجلات طبية ومرافق التثقيف الصحي وخدمات الطوارئ، وصناعاتٍ دوائية على نطاقٍ واسع.
أنتجت مؤسسة Kombinat GERMED - والتي تعني "مُجمّع" وهي نوع من الشركات الاشتراكية – مع ثلاثة عشر شركة، وثلاثة معاهد بحثية، وما يقرب من 15000 موظف، أنتَجَت حوالي 1300 منتج طبي مختلف، مُلبيةً 80-90% من الاحتياجات الدوائية للجمهورية، وقامت أيضاً بتصدير المنتجات الطبية إلى الاتحاد السوفييتي ودول اشتراكية أخرى. أما بالنسبة للطلب المحلي للأدوية فكان يتم إبلاغ الموردين بناءا على حسابات صيادلة المناطق وليس بناءاً على قُوى السوق. كان الصيادلة والأطباء متحررين من الاعتبارات الربحية في عملهم، حيث تم توفير الأدوية مجانًا لجميع المواطنين. مكّنَ التعاون الوثيق بين الصيادلة والأطباء من تنسيق رعاية المرضى وتعديل الأدوية في حالة حدوث نقص في الإمدادات.

4. التحديات والتناقضات
لم يكن تطوّر نظام الرعاية الصحية في ألمانيا الديمقراطية خاليًا من النزاعات والتحديات. كانت التناقضات بين أهداف الرعاية الصحية في الدولة، وقدرتها الاقتصادية، تعني أنه لا يُمكن تحقيق الأهداف والتطلعات المُعلَنة دائمًا، فالصعوبات الإقتصادية التي واجهت البلاد والتحولات في الأولويات السياسية انعكست على السياسات الصحية، على سبيل المثال، عندما تم إدخال وحدة السياستين الاقتصادية والاجتماعية في عام 1971 لزيادة قدرة الافراد على شراء السلع والخدمات الاستهلاكية، حيث استفاد قطاع الصحة في البداية من التمويل الإضافي. ومع ذلك، فإن هذا التحول في سياسة الاستثمار بعيدًا عن القطاع الصناعي خلق اختلالات في الاقتصاد المخطط الذي أثّرَ في نهاية المطاف على قطاع الصحة أيضًا. كان هذا واضحاً، على سبيل المثال، في التهالك المُتزايد للمُستشفيات ونُدرة بعض الإمدادات والمعدات الطبية، مما جعل المهام اليومية للعاملين الصحيين أكثر صعوبة. وفي سنواتها الأخيرة، لم تعد ألمانيا الديمقراطية قادرةً على إستيراد التكنولوجيا الطبية الحديثة التي تم تطويرها في الدول الصناعية الغربية بالقدر المطلوب، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الحظر الذي فرضه الغرب، في حين أن الأساليب التشخيصية والعلاجية المبتكرة مكنت الجمهورية من إحراز التقدم ضد بعض الأمراض التي ثبت سابقًا صعوبة أو استحالة علاجها بالطرق التقليدية، إلا أن هذه الجهود أعيقت في كثير من الأحيان بسبب نقص المعدات الطبية.

أدت الاختناقات في توريد المواد الطبية في الثمانينيات، بالإضافة إلى اختلاف وجهات النظر حول كيفية مُعالجة القضايا الصحية المُلحة، أدت إلى مناقشات سياسية مُكثّفة. ظلّت المُقاربة الوقائية للرعاية الصحية والإيمان بأن جميع القطاعات الاجتماعية تلعب دوراً في الصحة العامة، قابعةً في أساس السياسات الحكومية. ومع ذلك، نشأت نزاعات حول مسألة الظروف التي يمكن أن تسبب الأمراض وينبغي إعطائها الأولوية، فمثلاً، كان هناك تركيزاً في فترةٍ ما، على التدابير التي تهدف إلى تغيير السلوكيات غير الصحية من أجل مكافحة مشاكل مثل السمنة وتعاطي الكحول وزيادة التدخين بين الشباب. تم انتقاد هذا النهج المتمثل في التركيز على السلوكيات الفردية التي تساهم في المشكلات الصحية من قِبَل متخصصي الطب الاجتماعي الذين ركزوا بدلاً من ذلك، على تحسين ظروف معيشة وعمل السكان بشكلٍ عام. تكشف مثل هذه المناقشات أن الصعوبات اليومية والمسائل الاستراتيجية كانت مفتوحةً للنقاش السياسي، والتي غالبًا ما كانت تجري في اجتماعات الأطباء الإقليمية التي تعقد كل شهرين ومؤتمرات أطباء البلدية النصف سنوية وغيرها.
أثر عداء الغرب تجاه ألمانيا الديمقراطية على تطور نظامها الصحي بطرق عديدة، مُمارساً تأثيراً ايديولوجيا وسياسياً واقتصادياً على بُنى القطاع الصحي في الجمهورية وعامليه. كان لهذا تأثيراً ملحوظاً بشكلٍ خاص على إمكانية البلاد في الحصول على المواد الطبية والتقنية بالإضافة الى قيام الغرب بحجب ما توصّلت اليه البحوث الدولية في هذا المجال عن الجمهورية. بالإضافة إلى ذلك، قامت ألمانيا الغربية بملاحقة الأطباء الألمان الشرقيين بنشاط وشجعتهم على الهجرة غربًا، حيث تم إغراء الأطباء الذين تمتعوا بتعليم وتدريب مجانيين في ألمانيا الديمقراطية بأن يُهاجروا إلى الغرب من خلال عرض أجورٍ أفضلَ عليهم أو بسبب عدم رغبتهم أصلاً بالمشاركة في التحولات الاجتماعية الجارية في الشرق. أثرت هذه الديناميكية على برنامج الجمهورية منذ البداية: حيث كان نزوح الأطباء بعد الحرب العالمية الثانية ضخمًا جداً لدرجة أنه كان يتطلب على الأقل خمسة فصول إضافية لتخريج أطباء من جميع كليات الطب للتعويض عن هذه الخسارة، كان هذا مشابها لما حصل في كوبا، حيث – بالاضافة الى عددٍ من الأطباء الذين التزموا بالثورة مثل تشي جيفارا - غادر الجزيرة العديد من الأطباء إلى الولايات المتحدة بعد عام 1959. هذه هي ظاهرة "استنزاف الأدمغة" - حيث يهاجر الأطباء وغيرهم من المهنيين المتعلمين أو المهرة من تلك البلدان التي بحاجه الى أطبائها ومتعلميها - ويتم تحميل عواقب هذه الظاهرة على الجنوب العالمي بشكل عام أو يتم الترويج لها على أنها جانبٌ إيجابيٌ من العولمة.
في عام 1961 تم إغلاق الحدود بين ألمانيا الشرقية والغربية وكانت جمهورية ألمانيا الديمقراطية حتى ذلك الحين مُستمرةً في برنامجها الصحي الرائد في "منافسة" مع ألمانيا الغربية والتي حافظت على نموذج الملكية الخاصة وتعمدت في دفع أجور مُرتفعة وتقديم امتيازات عالية لأطبائها لتحفيز الأطباء على مغادرة ألمانيا الديمقراطية. وهكذا واجهت ألمانيا الديمقراطية نفس الصعوبات التي واجهها البلاشفة بعد ثورة أكتوبر، والتي طَرَحَت مسألة كيف يُمكن أن نكسب الى جانبنا المهنيين المتخصصين والمثقفين الذين كانوا يتمتعون بامتيازٍ في ظل الرأسمالية، لكي ينخرطوا بناء الاشتراكية؟ نظرًا لارتفاع مستويات الهجرة، قرر الحزب الاشتراكي الألماني الموحّد تقديم تنازلات إلى الانتلجنسيا الطبية في أواخر الخمسينيات باستخدام الحوافز المادية لتشجيع الأطباء على العمل والعيش في الجمهورية. وبالرغم من تلك التحديات، استمرت ألمانيا الديمقراطية في السير قُدُماً نحو مزيدٍ من التحولات من الممارسات الطبية الخاصة الى توظيف الأطباء في القطاع الصحي العام تحت إشراف الدولة في السنوات التالية. على الرغم من مُغادرة عدة آلاف من الأطباء الجمهورية قبل بناء الجدار في عام 1961، إلا أنه بحلول عام 1988 تضاعف عدد الأطباء في البلاد (حوالي 41000) مما يعني أنه تضاعَفَ ثلاثة مرات منذ عام 1949، مما جعل نسبة الأطباء إلى السكان في الجمهورية على قدم المساواة مع نظيراتها من الدول الصناعية الأوروبية الأُخرى.

كشفت تجارب جمهورية ألمانيا الديمقراطية وغيرها من الدول الاشتراكية، أن الإنتقال المجتمعي إلى ما بعد الرأسمالية لم يكن أبدًا تطورًا خطيًا بسيطًا، أي أنه لا يمكن أن يتم بناء نظام رعاية صحية شامل وشعبي بين عشيةٍ وضُحاها، حيث يجب على التحولات الجذرية أن تتعامل ليس فقط مع القدرات الاقتصادية المحدودة للبلد المعني، ولكن أيضًا يجب أن تُعالج المفاهيم الموروثة حول الأدوار والوضع الاجتماعي. أدى حجم هجرة العقول من الجمهورية إلى قيام الحكومة على سبيل المثال بتقديم تنازلات معينة على الطريق لكسر احتكار الانتلجنسيا الذي طال أمده لمهنة الطب. عند استخلاص الدروس للمستقبل، لا يمكننا فصل مثل هذه التنازلات وأوجه القصور عن سياقها التاريخي، وهذا هو ما يميز التحليلات البناءة والتقدمية عن تلك التي تسعى فقط إلى تشويه الاشتراكية والنيل منها.

5. العيادات الخارجية: نهج حديث لرعاية المرضى الخارجيين (أو الإسعاف أو المرضى الذين لا يحتاجون الى دخول المشفى)
أ- من العيادات الخاصة إلى العيادات الخارجية الشاملة
في ظل النموذج الرأسمالي للرعاية الصحية، عادة ما يتم توفير رعاية المرضى الخارجيين من قِبَل أطباء مستقلين في عياداتهم الخاصة المنتشرة في جميع أنحاء المدن والبلدات. ومع ذلك، فقد انتقدت التقاليد الطبية التقدمية ذلك النمط لوقتٍ طويل لإنه يحتوي على قصورين هامين. أولا، يعتمد الأطباء العاملون لحسابهم الخاص مالياً على المرضى الذين يبحثون عن العلاج، أي أن حافزهم في المُداواة هو المال، وليس لمنع المرض بل لعلاج الأعراض بعد ظهورها. ثانيًا، أدى التقدم السريع في العلم إلى تحسّن التشخيص الطبي وقدرات العلاج بشكل كبير، لكن هذه الأساليب الجديدة تتطلب توافر الخبرة وأحدث ما توصلت اليه التكنولوجيا، ونظرًا لأن الممارسات الفردية في العيادات الخاصة لا يمكنها استيعاب المعدات المتنوعة والموظفين الذين يتطلبهم الطب الحديث فبالتالي تتم إحالة المرضى إلى متخصصين أو مراكز تشخيص منفصلة، مما يؤدي غالبًا إلى عدم كفاءة التشخيص وتناقضه. تم تطوير العيادات الخارجية الشاملة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية للتغلب على هذه المشكلات في رعاية المرضى الخارجيين.
وكما يوحي اسمها فعلاً، كانت العيادات عبارة عن منشآت تتعاون فيها العديد من التخصصات الطبية تحت سقفٍ واحدٍ لعلاج مجموعةٍ متنوعةٍ من الأمراض والوقاية منها. تم تعريف العيادات الشاملة على أنها مرافق مملوكة للقطاع العام تحتوي على الأقل على الأقسام المتخصصة الستة التالية: الطب الباطني وطب الفم وأمراض نسائية والجراحة وطب الأطفال والطب العام، واحتوت العديد من مختبرات التشخيص السريري وأقسام العلاج الطبيعي ومرافق التصوير الطبي. بالإضافة إلى ذلك، تجسدت في العيادات الشاملة القناعة المُتمثلة بأنه إن كان على الرعاية الطبية أن تكون فعّالةً للمرضى الخارجيين، فإن عليها أن تنفصل عن الاعتبارات الاقتصادية الشخصية، حيث كان الأطباء والموظفون العاملون في العيادات الشاملة يعملون في القطاع العام وبالتالي تحرروا من اعتمادهم الاقتصادي التقليدي على المرضى، وكان يُمكن للأطباء بالتالي، التركيز أولاً وقبل كل شيء على الرعاية الوقائية، مع وجود وظيفة مضمونةٍ ودخلٍ معقول.
كان الابتعاد عن شكل الملكية الخاصة هو الذي مكّن من إعادة التوجيه الأساسي لقطاع العيادات الخارجية، والذي لعب دورًا مهمًا إن لم يكن حاسمًا في قدرة نظام الرعاية الصحية على خدمة السكان جميعًا. تضمن الرعاية الصحية الفعالة للمرضى الخارجيين أن تكون المساعدة الطبية متوفرة للجميع بشكلٍ مباشرٍ وسريع في مكان معيشتهم، فمن الوقاية والعلاج إلى الرعاية اللاحقة وإعادة التأهيل، وهذا كله يساعد على تقليل إقامات المرضى في المستشفيات ويمنع المرض بشكلٍ أفصل في المقام الأول. ساعد وضع الأقسام الطبية والتكنولوجيا والمختبرات تحت سقف واحد في التغلب على العقبات البيروقراطية والمالية التي ابتُلِيَت بها العيادات الخاصة، وسهّلَ هذا التصميم في الوقت نفسه، تعاونًا أكثر فاعليةً بين الأطباء من مختلف المجالات.
كانت المؤسسات الأصغر التي جسدت نفس النهج المتبع في العيادة الشاملة تُسمّى مراكز العيادات الخارجية Ambulatorien والتي كانت تحتوي عادةً على ثلاثة أقسام مختلفة على الأقل: الطب العام والطب الباطني وطب الأطفال. وكان أكثر من ثُلث مرافق العيادات الخارجية تابعة للمستشفيات والعيادات الجامعية لتعزيز التعاون الطبي، كما عَمِلَت مراكز الاستشارات والممارسات الفردية المملوكة للدولة في المزيد من المواقع النائية والتي ارتبطت من الناحية التنظيمية بالعيادات الطبية للحصول على الدعم.
طرح التحول في قطاع العيادات الخارجية تحديات فريدة من حيث متطلبات البنية التحتية والأدوار الجديدة للعاملين في مجال الرعاية الصحية، على عكس نظام المستشفيات الذي كان تحت المُلكية العامة لتاريخٍ طويل، فعلى سبيل المثال، كان هناك شك كبير وحتى مقاومة لفكرة العيادات الشاملة بين الأطباء، فقد كانت الفكرة الراديكالية حول توظيف الأطباء الأخصائيين في قطاعات مملوكة للدولة للعمل معاً تحت سقفٍ واحد، تتناقض مع التصور الذاتي المتجذر المُتمثّل بالطبيب المستقل الذي يعمل لصالح نفسه.
كانت دار الصحة في برلين House of Health التي أنشأت عام 1923 خلال فترة جمهورية فايمار وغيرها العديد من رواد المجمعات الطبية الكبيرة مصدر إلهامٍ لنظام العيادات الخارجية الشاملة في جمهورية المانيا الديمقراطية، حيث بدأ المهندسون المعماريون لـ(أكاديمية الهندسة المدنية) DDR Bauakademie في تطوير وتحسين مشاريع مماثلة في الخمسينيات تحت اشراف رئيس الأكاديمية آنذاك كورت ليبكينيشت Kurt Liebknecht. عندما تم الإعلان عن برنامج بناء المساكن الضخم في الجمهورية في أوائل السبعينيات حددت أنه سيتم دمج العيادات الشاملة أو مراكز العيادات الخارجية في العقارات الجديدة، كما تم بناء عيادات أكبر في برلين وكذلك في مدن كبيرة أخرى، عمل ما يزيد عن 50 طبيباً في كلٍ منها.
بدأت جمعيات الأطباء المحافظين في السابق، في الوقوف بشكلٍ منهاجي ضد الدعوات لإنشاء عيادات متعددة التخصصات خلال حقبة فايمار، واستأنفوا هذا الهجوم بعد نهاية الحرب في عام 1945. سعى السياسيين في جمهورية ألمانيا الديمقراطية إلى إظهار مزايا النموذج الجديد من خلال توسيع القدرات التقنية والمعامل والمُختبرات في العيادات الخارجية. كانت هذه عملية تدريجية، حيث استمرت العيادات الخاصة في توفير جزء كبير من رعاية المرضى الخارجيين لسنواتٍ عديدةٍ في السابق.
لقد ثبت في النهاية أنه من الممكن اقناع المهنيين الطبيين تدريجياً بمفهوم العيادة الشاملة: بحلول عام 1970 كان 18% فقط من أطباء العيادات الخارجية يعملون في عيادةٍ خاصة، مقارنة بأكثر من 50% في عام 1955. إن البناء السريع لمرافق العيادات الخارجية الفعالة في جميع أنحاء البلاد جعل المزايا العملية الكبيرة للنظام الجديد واضحة. اتسع التناقض بين الرعاية الصحية للمرضى الخارجيين بين ألمانيا الديمقراطية وألمانيا الغربية تدريجيًاً على مدى العقود الأربعة التي تلت تأسيس الجمهورية، حيث أنه بحلول عام 1989 كانت الغالبية العظمى من أطباء العيادات الخارجية في ألمانيا الغربية لا يزالون يعملون في عياداتٍ خاصة، في حين أن جميع نظرائهم في ألمانيا الديمقراطية تقريبًا كان القطاع العام مُوظفاً لهم بحلول ذلك الوقت.

ب- طريقة عمل العيادات الخارجية الشاملة
دَفَعَت عملية توظيف الأطباء والموظفين العاملين في العيادات الشاملة ودفع أجورهم من قِبَل الدولة دفعت هذه العملية الى ازالة الدوافع الاقتصادية الشخصية بين الطبيب والمريض وتحسين عملية اتخاذ القرار الطبي. وعلى عكس العيادات الخاصة، أقامت العيادات الشاملة تعاونًا بعيداً عن البيروقراطية بين جميع التخصصات. في ظل أنظمة الرعاية الصحية الرأسمالية كان أطباء العيادات الخارجية العاملين لحسابهم (وما زالوا في كثير من الأحيان) هُم وحدهم فقط المسؤولين عن القرارات الطبية، في حين أن العيادات الشاملة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية جعلت الأمر أسهل بالنسبة للأخصائيين بمختلف مجالاتهم لمناقشة الحالات المعقدة أو مثلا لوصف الأدوية الجديدة والتوصيات لأنواع العلاج الجديدة. كما قدّمَ هذا التعاون بين التخصصات، إطارًا يمكن من خلاله تعزيز العلاقة والتواصل بين الإجراءات الوقائية والعلاجية وتدابير الرعاية اللاحقة والتقريب فيما بينها، وكان يُمكن أيضاً طلب خدمات المختبر والتصوير الطبي على الفور وعادة ما كانت مُتاحةً في غضون فترةٍ زمنيةٍ قصيرة أو حتى أثناء الاستشارة نفسها. كانت العيادات أيضًا قادرةً على توفير وتشغيل معدات طبية فائقة الجودة، ويرجع ذلك أساساً إلى أن التشغيل المجموعي في المؤسسات كان أكثر فعاليةً من استخدامها الفردي وتشغيلها في العيادات الخاصة من حيث التكلفة، كما تم تشغيل نظام حفظ سجلات موحّد للمرضى للرجوع اليها بكفاءة وتفادي سوء التواصل بين الأخصائيين.
عَمِلَ في العيادات الشاملة حوالي 18 إلى 19 طبيبًا، مما سمح لهم بتمديد ساعات العمل ومواصلة تقديم الرعاية حتى عندما يكون الأطباء الأفراد مرضى أو في إجازة، على عكس العيادات الخاصة. كما سمح هذا للأطباء بتقديم رعاية أكثر شمولاً لمرضاهم، حيث كان يمكنهم الجمع بين ساعات الاستشارة العادية والزيارات في الموقع، أي دون الحاجة للعمل لساعات اطول. فعلى سبيل المثال، كان أطباء الأطفال قادرين على إجراء فحوصات منتظمة في مراكز رعاية الأطفال بينما تولى أطباء آخرون مسؤولية الاستشارات في العيادات الشاملة.
أدى نموذج التوظيف الجديد في رعاية المرضى الخارجيين إلى تحسين جو الزمالة في قطاع الصحة بشكل كبير، حيث تم ضمان ساعات عمل ثابتة للموظفين، الرعاية الصحية المنزلية، ووجبات الطعام المنظمة بشكل جماعي ومرافق العطلات المشتركة لهم ولعائلاتهم. ساعدت هذه التدابير تدريجياً في تآكل التسلسلات الهرمية المهنية.

جـ نظرة عامة على قطاع العيادات الخارجية
كانت رعاية المرضى الخارجيين مكونًا رئيسياً لمُقاربة ألمانيا الديمقراطية للطب، ويمكن القول إن توسعها ونجاحها في ضمان حصول جميع المواطنين على تغطية طبية ليس فقط أثناء حالات الطوارئ، ولكن طوال حياتهم، يمثل الجانب الأكثر ثوريةً في نظام الرعاية الصحية في البلاد. ومن أجل تحقيق ذلك، تم تطوير شبكة واسعة من البنية التحتية في الأحياء وأماكن العمل ومراكز رعاية الأطفال والمواقع الريفية. أصبح من الممكن، من خلال المُلكية العامة وطبيعة الاقتصاد المُخطط، إقامة الظروف المعيشة والعمل على أساس الاعتبارات الصحية.
بحلول عام 1989، كانت هذه الشبكة تتكون من 13690 مرفقًا خارجيًا، كان 626 منها عبارة عن عيادات متعددة التخصصات، وتقريبا واحدة من كل أربعة من هذه العيادات الشاملة تعمل داخل المؤسسات الصناعية، مُستخدمةً مكان العمل كموقع لتوفير رعاية صحية متسقة وعالية الجودة ومُتاحة للعمال. بحلول عام 1980 كان عدد العاملون في قطاعات العيادات الخارجية تقريبا 19000 طبيب، كان 60% منهم يعملون في العيادات الشاملة، و18.5% في مراكز العيادات الخارجية الأصغر حجما، و11% فقط يعملون فردياً.
تم بناء مراكز العيادات الخارجية الريفية وتزويدها بما يصل إلى ثلاثة أطباء من أجل توسيع نطاق الرعاية الوقائية إلى المناطق الريفية والقرى المتناثرة، حيث ارتفع عدد هذه المرافق من 250 في عام 1953 إلى 433 بحلول عام 1989. في العديد من المدن، عمل الأطباء في الأماكن الطبية الحكومية أو المكاتب الميدانية المجهزة مؤقتًا لتزويد السكان بساعات الاستشارة والزيارات المنزلية، بينما عملت عيادات الأسنان المتنقلة على زيارة القرى النائية لتزويد جميع الأطفال بالرعاية الوقائية. بالإضافة إلى ذلك، تم تطوير مهنة التمريض المجتمعي في أوائل الخمسينيات للتخفيف من النقص المبدئي في عدد الأطباء في الريف، مما زادَ عدد الممرضات المجتمعية من 3571 في عام 1953 إلى 5585 بحلول عام 1989. ساعدت هذه البنية التحتية الريفية الواسعة على تزويد المناطق ذات الكثافة السُكّانية الأقل بخدماتٍ طبيةٍ تُماثل تلك التي كانت مُتوفرةً في المناطق الحضرية.
لقد ذَهَبَت الثورة التي أحدثتها جمهورية ألمانيا الديمقراطية أبعَدَ من مُجرّد إقامة البنى التحتية، فقد تم تنفيذ الإصلاح الشامل في النظام التعليمي لكسر الحواجز والتسلسلات الهرمية التقليدية في هذا الميدان، شَمِلَ هذا من بين أمورٍ أُخرى:
• توفير التعليم المجاني والرواتب الثابتة لتغطية تكاليف معيشة الطلاب والتأكد من أن الطب أصبح في متناول الطبقة العاملة والفلاحين.
• تنفيذ تدابير اجتماعية وسياسية مثل رعاية الأطفال الشاملة وبرامج التعليم عن بُعد لجعل المهن الطبية أكثر سهولة بالنسبة للنساء، اللواتي كنَّ في كثيرٍ من الأحيان يشكلن منذ أواخر السبعينيات فصاعدًا أكثر من 50%من طلاب الطب في البلاد.
• تحويل التمريض والرعاية إلى مهنٍ مُحترمة وذات كفاءةٍ عاليةٍ من خلال برامج التدريب الأكاديمي المكثف.
• إتاحة التعليم العالي في التخصصات الطبية لجميع الأطباء.
ومع ذلك، بعد عام 1990 فَرَضَت ألمانيا الغربية على ألمانيا الشرقية نموذج الممارسة الطبية في القطاع الخاص بصرامة، مما أدى إلى التراجع عن مُنجزات برنامج ألمانيا الديمقراطية في قطاع العيادات الخارجية، في حين تم تجريد العديد من المهنيين من ألمانيا الديمقراطية من أوراق اعتمادهم بعد دمج الألمانيتين، الا أن أحداً لم يكن يجرؤ على التشكيك بجدية في مؤهلات المهنيين الصحيين في ألمانيا الشرقية: في الحالات التي مُنعوا فيها من الممارسة، فقد كان الدافع دائمًا سياسيًا تقريبًا. علاوة على ذلك، مثلت تصفية نظام العيادات الشاملة "أكبر خطأ فادح في السياسة الصحية" بعد التوحيد (القسري-المُترجم)، كما جادل الدكتور هينريك نيمان Heinrich Niemann أمام لجنة الصحة بالبرلمان الألماني في عام 1991 - وهو تقييم أيدته حالة النظام الصحي في ألمانيا غير المستقرة حالياً. في حين جعلت جمهورية ألمانيا الاتحادية عمل أطباء العيادات الخارجية ممكننا كموظفين بدلاً من العمل لحسابهم الخاص في أواخر التسعينات، الا أن هذه العيادات خَضَعَت بشكل حصريٍ تقريبًا للملكية الخاصة وافتقرت إلى هيكل موحد، وصارَ توجهها التجاري يُمثّل تراجعاً كبيراً عن العيادات الخارجية المتكاملة التي كانت ممولةً من القطاع العام في ألمانيا الديمقراطية.

6. الحماية الصحية في مكان العمل
حظيت صحة العمال بأهميةٍ كبيرةٍ منذ البداية في ألمانيا الديمقراطية. خلال الفترة التي كانت ألمانيا لا تزال محتلة من قبل الحُلفاء، أصدرت الإدارة العسكرية السوفيتية في عام 1947 الأمر رقم 234، الذي نصَّ على أنه يجب على أماكن العمل التي يعمل بها أكثر من 200 موظف أن تُنشئَ محطاتٍ طبية، في حين أن تلك التي تضم أكثر من 5000 موظف فقد تم إنشاء عياداتٍ شاملة مؤسسية. تم إنشاء 36 عيادة شاملة في غضون ثلاث سنوات، ووصل عددها عام 1989 الى أكثر من 150، حيث كانت هذه المؤسسات نفسها مسؤولةً عن صيانة الغرف والمفروشات وتكاليف تشغيل هذه المرافق الصحية بينما كان النظام الصحي الحكومي يوفر ويشرف على الطاقم الطبي والمعدات. تقف هذه النُقطة على نقيضٍ حاسمٍ مع الرعاية الصحية المهنية التي تطرحها بعض الشركات الخاصة اليوم: في جمهورية ألمانيا الديمقراطية تم توظيف المتخصصين الطبيين المشرفين على الصحة والسلامة المهنية بواسطة القطاع الصحي الحكومي، وليس من المؤسسة التي يعملون فيها، وعلى هذا النحو، كانت مصالح العمال هي التي وجهت قراراتهم الطبية، وليس أصحاب العمل.
في أول دستور لجمهورية ألمانيا الديمقراطية في عام 1949، تم وضع الحماية القانونية لصحة العمال جنبًا إلى جنب مع نظام التأمين الاجتماعي الشامل. تم توسيع هذه الحماية في الدساتير اللاحقة في عامي 1968 و 1974، وأشرف العمال أنفسهم على تنفيذها: فقد تم تكليف الاتحاد النقابي الألماني الحر الموجود في جميع مؤسسات الجمهورية، بمراقبة إنفاذ الأحكام القانونية والإبلاغ عن مدى فعاليتها. بموجب القانون، يمثل مكان العمل أكثر بكثير من مجرد مصدر دخل. فقد قدمت المؤسسات الإطار الذي يمكن للموظفين من خلاله متابعة الاهتمامات الثقافية والفكرية إلى جانب الأنشطة الترفيهية وتم تشجيع العمال على حضور الأحداث الثقافية والرياضية، ومناقشة التطورات السياسية، وزيارة المخيمات السياحية التي تديرها المؤسسات. فعلى سبيل المثال، احتوى قانون العمل في برنامج جمهورية ألمانيا الديمقراطية لعام 1977 على بنود لحماية وتعزيز الصحة البدنية والعقلية للموظفين. هذا التشريع يوضح أن مصالح العمال هي التي تحدد اتجاه الاقتصاد.
كما هو الحال مع قطاع العيادات الخارجية، تم توسيع نظام الصحة المهنية تدريجياً، بحلول عام 1989 غطت 7.5 مليون عامل من 21550 مؤسسة، أو 87.4 في المائة من جميع العاملين في ألمانيا الديمقراطية. وظّفَت المؤسسات المخصصة على وجه التحديد لهذا المجال - مثل العيادات الشاملة ومراكز العيادات الخارجية والمحطات الطبية العاملة داخل الشركات - وظفت حوالي 19000 متخصص في الرعاية الصحية، وتم أيضًا جعل طب أمراض المهنة كمبحث رئيسي للدراسة، مع ما يقرب من واحد من كل سبعة أطباء خارجيين تخصصوا في هذا المجال. وظف المعهد المركزي للطب المهني أطباء وعلماء لبحث الأمراض المتعلقة بالعمل ووضع تدابير وقائية، وتتضح أهمية هذا القطاع في ألمانيا الديمقراطية من حقيقة أن عدد أخصائيي الصحة المهنية في ألمانيا الغربية كان نصفهم فقط، على الرغم من أن قوة العمل هنا كانت أكبر بثلاث مرات من نظيرتها في الشرق.
كان يتعرض الموظفين، في بعض المِهَن لموادٍ خطرة و/أو ظروف بدنية شاقةٍ بشكلٍ خاص. قام مسؤولو الصحة بحملة لتقليل عدد هذه الوظائف، وأُجبِرَت المؤسسات على الإبلاغ عن التدابير التي تتخذها لمكافحة الظروف الضارة، ومع ذلك، ففي قطاعات معينة من اقتصاد ألمانيا الديمقراطية، مثل الصناعات الثقيلة، شكلت عمليات الإنتاج تهديدات لا مفر منها لصحة العمال. بحلول عام 1989، ظل ما يقرب من 1.69 مليون عامل معرضين للملوثات والضغوط الضارة مثل الحرارة الزائدة أو الضوضاء أو الاهتزازات. لتقليل الإصابات التي غالباً ما نَجَمَت عن مثل هذه الوظائف، قدمت جمهورية ألمانيا الديمقراطية رعايةً مستهدفةً للعمال المعرضين لذلك، فمن بين 7.5 مليون عامل خضعوا للمراقبة في إطار نظام الصحة المهنية في عام 1989، تلقى حوالي 3.34 مليونًا رعايةً مصممةً وفقًا للظروف التي يعملون فيها. على سبيل المثال، أُجرِيَت اختبارات سمعية منتظمة للعاملين في البناء، بينما أُجرِيَت فحوصات الرئة المنتظمة للعاملين في المصانع الكيماوية. وإلى جانب هذه الإجراءات، قامت إدارات تفتيش الصحة المهنية المتخصصة بمراقبة امتثال المؤسسات لمعايير السلامة والحدود المحددة للمواد الضارة أو ضغوط العمل.
كان مجال الصحة المهنية مهمًا بشكل خاص في سياق الحظر التجاري الذي فَرَضته ألمانيا الغربية، والذي تسبب في اعتماد ألمانيا الديمقراطية بشدة على مصدر الطاقة الوحيد المتاح لديها: الفحم البنّي، وهو مادة أساسها الليغنيت ينبَعثُ منها قدراً كبيراً من التلوث عند الاحتراق. أدت هذه الضرورة الاقتصادية، إلى جانب أوجه القصور في التحديث الفني في بعض المؤسسات إلى منح استثناءات خاصة فيما يتعلق بالتعرض للمواد والظروف الضارة في بعض أماكن العمل. وهكذا أصبحت الصحة والسلامة المهنية مجالاً مثيراً للجدل حيث ناقش المسؤولون الأولويات التي يجب تحديدها. أدرك لودفيج ميكلنجر Ludwig Mecklinger، وزير الصحة في ألمانيا الديمقراطية من عام 1971 إلى 1989، هذه المعضلة مشيراً إلى أن السياسات الصحية تحُدّها الضرورات الاقتصادية والعوامل الخارجية بشكلٍ حتمي.
كان الإجهاد النفسي المرتبط بالعمل مشكلة رئيسية أخرى في الجمهورية، وأصبح محوراً لمبحث علم النفس المهني. تم التوصل هنا إلى نتائج مهمة من قِبَل الباحث وينفريد هاكر Winfried Hacker، الذي ركز بحثه على التنظيم النفسي للنشاط العمالي في سياق المجتمع الاشتراكي، حيث يتطلب تلبية احتياجات الناس المُتزايدة زيادةً في إنتاجية العمل. وفقًا للباحث هاكر، يجب تصميم العمل بطريقة لا تحافظ على صحة العمال فحسب، بل تعزز أيضًا تطورهم النفسي: العمل الممل والمنفصل عن واقع حياة العمال سيؤدي إلى الاغتراب، في حين أن العلاقة الصحية مع العمل يجب أن تكون متعددة الأبعاد وتسمح للعمال بتطوير أنفسهم ومنتجات عملهم في نفس الوقت. من أجل تحرّي هذه الأفكار، طوّر هاكر وفريقه من الباحثين طرقاً لتحديد خصائص مكان العمل الموضوعية التي تؤثر بشكلٍ إيجابي على الصحة والنمو النفسي، وقياس مدى تأثيرها على التصورات الذاتية. وعلى الرغم من عدم تنفيذ مقترحات هاكر على نطاق واسع ، إلا أن أبحاثه وضعت المعيار في علم النفس المهني. اختلف عمل هاكر عن الأساليب السائدة في علم النفس المهني في ظل الرأسمالية، والتي تعطي الأولوية لزيادة كفاءة عمليات العمل بدلاً من تطوير صحة الموظفين وحالتهم العقلية.
اليوم، أدى ضعف قوة النقابات العمالية وظهور العمالة غير المستقرة إلى تدهور ظروف العمل في معظم الدول الرأسمالية. في حين كان هناك تقدم في عمليات الإنتاج نفسها، كانت تظهر باستمرار في الوقت نفسه أعباء صحية جديدة لا سيما فيما يتعلق بأماكن العمل الرقمية، إلى جانب الزراعة والصناعات الغذائية. على هذا النحو، لم يحدث سوى أن ازدادت أهمية الصحة المهنية، ولا تزال تجارب ألمانيا الديمقراطية في هذا المجال ذات صلة ليس فقط من وجهة نظر طبية، ولكن أيضًا من خلال إثبات إمكانية اتباع نهج مختلف جذريًا لحماية الصحة في مكان العمل.

7. الرعاية الصحية للأمهات والأطفال
تمتعت النساء في ألمانيا الديمقراطية برعايةٍ صحيةٍ من الدرجة الأولى، وعلى رعاية أطفال شاملة، وتوظيف مضمون. هذه الإنجازات الاجتماعية تعني أنه بحلول عام 1989، بلغ معدل التوظيف بين النساء 92%. في الوقت نفسه، كان مُعدّل المواليد في ألمانيا الديمقراطية منذ السبعينات، أعلى منه في الغرب، ويرجع ذلك إلى حدٍ كبير إلى التوسع المستمر في البنية التحتية الاجتماعية والصحية في البلاد مما مكّن النساء من متابعة العمل وتكوين أسرة صحية.
تم إنشاء وتطوير هذه البنية التحتية في تشريعات جمهورية ألمانيا الديمقراطية، والتي أثبتت باستمرار أنها أكثر تقدمًا مما كانت عليه في ألمانيا الغربية، حيث عكست القوانين الأبوية مفاهيم الأسرة البرجوازية مثل الأم المقيمة في المنزل. نص قانون جمهورية ألمانيا الديمقراطية لعام 1950 بشأن حماية حقوق المرأة والأمومة والطفولة، على سبيل المثال، على توسيع نطاق مرافق الرعاية النهارية والرعاية الصحية للأطفال، والدعم صريح للأمهات العازبات والعاملات، بينما التحق 10% فقط من الأطفال بمرافق رعاية الأطفال عام 1956، التَحَقَ ما يقرب من 80% من الأطفال المؤهلين الى الحضانات (من سن 0 إلى 3 سنوات) و 94% حضروا رياض الأطفال (من سن 3 إلى 6 سنوات) بحلول عام 1990. في ذلك الوقت، كانت هذه بعضًا من أعلى معدلات تغطية رعاية الأطفال في العالم. كانت اللجان النسائية داخل النقابات العمالية مفيدة في سنّ قوانين جديدة والإشراف عليها لتحقيق التوازن بين مسؤوليات الأسرة والعمل. كانت إحدى نتائجها (اللجان) على سبيل المثال، إنشاء رياض أطفال مؤسسية متصلة مباشرةً بمكان العمل. كانت الأمّهات، فمن خلال عملية نقل مسؤولية رعاية الأطفال الى الدولة، قادرات على العمل وتربية الأطفال أيضاً وبالتالي تطوير الاستقلال الاقتصادي عن شركائهن، وقد انعكس هذا في معدل الطلاق في ألمانيا الديمقراطية، والذي ظل أعلى بكثير مما كان عليه في ألمانيا الغربية طوال الـ40 عاماً من وجود جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وقد تراجع هذا الاتجاه بشكلٍ كبيرٍ بعد عام 1990، عندما انخفضت مستويات توظيف النساء بشكلٍ حاد في جمهورية ألمانيا الديمقراطية سابقاً.
كما لعبت مرافق رعاية الأطفال دورًا مركزيًا في السياسات الصحية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية، فقد خضعت هذه المؤسسات لرقابة نشطة من قبل وزارة الصحة، حتى دور الحضانة، التي وُضِعَت تحت رقابتها بدلاً من وزارة التربية والتعليم. جعل ذلك من الممكن وضع معايير اجتماعية وصحية متكاملة لتعزيز رفاهية الأطفال مثل زيارات الأطفال المنتظمة إلى دور الحضانة لإجراء التطعيمات والفحوصات الطبية الدورية التي تم إجراؤها مباشرةً في نفس مكان رياض الأطفال والمدارس، مما جعلَ الرعاية الصحية جزءاً لا يتجزأ من حياة الأطفال اليومية. وبهذه الطريقة، أصبح الحفاظ على صحة جيدة واكتشاف المشكلات الصحية المحتملة مسؤولية اجتماعية لم تعد متروكةً للآباء وحدهم.
في عام 1965، جعل قانون نظام التعليم الاشتراكي الموحد، من مسألة الصحة، ركيزةً أساسيةً للتعليم، ووضع شروط التأهيل للعاملين في دور الحضانة ورياض الأطفال والمدارس، فقد تم التأكيد على علم نفس الطفل وعلم أصول التدريس في برامج التدريب لموظفي الحضانة. كان المُعلمون يُراقبون تطور الطفولة المبكرة بدقّة، لكي يُقيّموا، مثلاً، تكيّف الأطفال مع بيئتهم الأسرية والاجتماعية. وكان موظفو الحضانة، عند الضرورة، يعقدون اجتماعاتٍ لإجراء مشاوراتٍ مع أولياء الأمور لمناقشة التوصيات العملية للرعاية اليومية. عقدت جمعية طب الأطفال المهنية (Medizinischen Fachgesellschaft für Pädiatrie) أيضًا مجموعات عمل منتظمة متعددة التخصصات مع موظفي رعاية الأطفال لتقييم حالة دور الحضانة ورياض الأطفال، وقد أعدت هذه المجموعات مقترحاتٍ سياسية وتعديلات تشريعية بالإضافة إلى اقتراحات لمشاريع تجريبية.
بالإضافة إلى توفير رعاية مجانية للأطفال لجميع العائلات، سعت المانيا الديمقراطية لكسر المحرمات الثقافية وتعزيز صحة النساء والأطفال، بغض النظر عن ظروفهم، فمثلا، ألغى قانون الأسرة لعام 1965 التصنيف القانوني التمييزي "للأطفال المولودين خارج إطار الزواج" مع التأكيد على دور كلا الوالدين في تربية الطفل، كما ساهم قانون إنهاء الحمل لعام 1972 في مساعدة المرأة في أن تستقل بذاتها، وساهَمَ أيضاً في تنظيم الأُسرة من خلال توفير الوصول المجاني والقانوني إلى وسائل منع الحمل والسماح بالاجهاض خلال الأسابيع الـ 12 الأولى من الحمل. على النقيض من ذلك، احتوى دستور ألمانيا الغربية على بند يجرم الإجهاض حتى يومنا هذا، وكان يُطلَب من النساء، ومنذ عام 1976، حضور جلسة استشارية إلزامية من أجل الحصول على إعفاء لإتمام هذا أجراء الاجهاض.
تم ضمان حصول النساء الحوامل في ألمانيا الديمقراطية على استشارات شاملة قبل وبعد الولادة لمساعدة ومتابعة الأمهات وأطفالهن بصرف النظر عن ظرفهن. بحلول عام 1989، كان هناك أكثر من 850 مركزًا استشارياً للحمل في جميع أنحاء البلاد لتوجيه الأمهات الحوامل في المسائل الطبية والاجتماعية. وكان حوالي 9700 مركز استشاري للأمومة يقوم بعد الولادة، بفحص الرُضَّع بانتظام ومساعدة الوالدين في أدوارهم الجديدة، ثم يتم إجراء فحوصات طبية دورية للأطفال حتى سن الرشد. الأهم من ذلك، تم دمج رعاية الأسنان في الفحوصات الوقائية في رياض الأطفال والمدارس، ومرةً أخرى على عكس معظم الأنظمة الصحية اليوم حيث لا تكون صحة الأسنان مضمونة للجميع وتُترَك بدلاً من ذلك لتقدير الوالدين ومدى توافر الموارد المالية لديهما. ساعدت هذه الهياكل والسياسات مجتمعةً على ضمان تنظيم الأسرة وتنمية الطفولة بصرف النظر عن الاعتبارات الاقتصادية.


8. استراتيجيات التطعيم
كشف جائحة COVID-19 عن أوجه اللامُساواة وعدم الكفاءة في إنتاج التطعيم وتوزيعه في العالم الرأسمالي اليوم. من ناحية، تم إعطاء الأولوية لحقوق الملكية الفكرية على الصحة العامة، مما أدى إلى الفصل العنصري في التطعيم حيث جمعت بلدان في شمال العالم جرعات كافية لتطعيم سكانها أكثر من ثلاث مرات، في حين أن معظم البلدان في الجنوب ممنوعة من إنتاج نفس اللقاحات بنفسها. لولا التعاون بين بلدان الجنوب بقيادة بلدان مثل كوبا والصين ، لكانت معدلات التطعيم في الدول الفقيرة أقل بكثير مما هي عليه الآن. من ناحيةٍ أخرى، وفي تطور مثير للسخرية، كافحت الدول نفسها التي تخزن اللقاحات في شمال العالم لإقناع ربع أو حتى ثلث سكانها بفاعلية وأمان التحصين ضد COVID-19.
كما هو الحال في العديد من الدول الاشتراكية الأخرى، تمكنت ألمانيا الديمقراطية من تحقيق معدلات تطعيم عالية بشكل خاص خلال أربعة عقود من وجودها، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الحملة ضد فيروس شلل الأطفال، ففي عام 1961، بينما كانت ألمانيا الغربية لا تزال تسجل أكثر من 4600 حالة إصابة بشلل الأطفال، خفضت ألمانيا الديمقراطية عدد حالاتها إلى أقل من خمس حالات. استخدمت ألمانيا الديمقراطية لقاح يؤخَذ عن طريق الفم تم إنتاجه في الاتحاد السوفيتي، عُرِضت 3 ملايين جرعة على ألمانيا الغربية لكنها رفضت إستلامها. في حين سجّلَت ألمانيا الديمقراطية آخر حالة شلل الأطفال عام 1962، استمر تسجيل الحالات في ألمانيا الغربية حتى نهاية الثمانينيات.
تعاملت الدولتان الألمانيتان مع شلل الأطفال بنهجين مختلفين جوهريا للتحصين مما أدى الى تباين الاختلافات بالسرعة والفعالية، حيث أنه في جمهورية ألمانيا الديمقراطية كما هو الحال في معظم الدول الاشتراكية الأخرى وبعض الدول الغربية، كانت تطعيمات الأطفال إلزامية منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وتلقى جميع الأطفال سلسلة من التطعيمات المعتمدة من قبل وزارة الصحة، تم إعطاء هذه اللقاحات للأطفال مباشرة في دور الحضانة والمدارس، بينما تم تلقيح البالغين في مكان العمل، وكان يُمكن للأفراد الذين لم يرغبوا في التطعيم أو في تطعيم أطفالهم (الذي يحدث في الأساس لأسباب دينية) الحصول على إعفاء بعد التشاور مع الطبيب والمسؤولين الصحيين الإقليميين. وهكذا تم التعامل مع التطعيمات والرعاية الصحية على نطاق أوسع على أنها مهمة اجتماعية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وقد ضمنت مجموعة كبيرة من الفاعلين المجتمعيين، سواء كانوا أطباء أو مدرسين أو أولياء أمور، تلقي جميع الأطفال الرعاية الوقائية.
على النقيض من ذلك، في ألمانيا الغربية، تمت التوصية بالتطعيمات ولكنها لم تكن إلزامية وكانت العائلات هي المسؤولة عن ترتيب المواعيد مع أطباء الأطفال للحصول على اللقاحات. كانت اللجنة الدائمة للتطعيم (STIKO)، وهي لجنة فخرية من الخبراء الطبيين، تٌقدّم توصيات التطعيم للأطباء، التي كان هؤلاء الأخيرين يطلبونها ويدفعون مُقابلها، ولكن لم يكن يتم تنفيذ برامج التطعيم الحكومية في المدارس أو في مكان العمل.
غالباً ما يفشل تركيز الخطاب السياسي اليوم الذي يدور حول شرعية أم عدم شرعية التطعيمات الإلزامية، في إدراك المسألة العملية الحاسمة المُتعلقة بكيفية وفاء الدولة بالتزامها بتنظيم التطعيم لجميع المواطنين بطريقة فعالة وآمنة. ومع ذلك، لا يزال هناك سؤال حول ما إذا كانت الشروط الأساسية لبرنامج التطعيم الشامل قد تم إنشاؤها في مجتمع معين أم لا. وتشمل هذه:
• تأمين الموارد لضمان تطعيم جميع المواطنين، ويتطلب هذا إنتاج أو الحصول على جرعات كافية، والتأكد من أن المرافق آمنة ويُمكن وصول جميع المواطنين اليها، وتوظيف عدد كافٍ من العاملين الطبيين لإدارة اللقاحات.
• تنسيق ومراقبة التطعيمات في نظام متكامل، حيث أن أحد أسباب استمرار انتشار بعض الأمراض على الرغم من حملات التطعيم هو أن الأفراد ينسون إجراء التطعيم الثاني أو الثالث اللازم للتحصين الكامل، وهذه محدودية خطيرة لاستراتيجية التحصين الطوعية التي يجب على الأفراد بناءاً عليها أن يتتبعوا ويتذكروا جرعاتهم المعززة بأنفسهم.
• الحفاظ على ثقة الجمهور في التطعيمات وفي المؤسسات والجهات الفاعلة التي توفرها - أي الدولة ومنتجي الأدوية والمهنيين الطبيين. مثلاً، هل الأمر أن الشركات الخاصة تتلقى تمويلًا حكومياً لتطوير لقاحات ستحصل على براءة اختراعها وتربحَ منها، أم أن الدولة هي التي تبحث وتطور لقاحات يمكن الوصول إليها ومفيدة للجميع؟

تمت التطعيمات الإلزامية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية في نهاية المطاف من قِبَل الجمهور الذي كان على استعداد تام لذلك، حيث أن الإكراه على تلقي التطعيمات لزيادة معدلات التطعيم - وهي قضية نوقشت بشدة اليوم – لم تكن مشكلةً في ألمانيا الشرقية. تتجلى ظروف مماثلة في كوبا اليوم، حيث يعد معدل التطعيم ضد فيروس كورونا COVID-19 (حوالي 90 في المائة من السكان) من أعلى المعدلات في العالم، ومع ذلك لم يتم استخدام أي تدابير قسرية.
تم فهم التطعيم الإلزامي في ألمانيا الاشتراكية ليس باعتباره التزاماً قانونياً وحيد الجانب من قِبَل المواطنين، ولكن باعتباره واجبًا على الدولة ومؤسساتها الطبية. كانت مراقبة وتحقيق تغطية التطعيم إلى أقصى حد ممكن أولوية مركزية لمتخصصي الرعاية الصحية، خاصةً الأطباء والسلطات على مستوى البلدية. إلى جانب خدمات التطعيم التي تم دمجها في أماكن العمل ورياض الأطفال ودور الحضانة والمدارس، تم إنشاء مراكز التطعيم الدائمة حيث يمكن حصول المواطنين منها على المعلومات وتحديد مواعيد التطعيمات الطوعية الثانوية، مثل فيروسات الأنفلونزا. وحتى يومنا هذا، لا تزال الرغبة في التطعيم ضد الأنفلونزا أعلى بشكل ملحوظ في شرق ألمانيا منها في الغرب.
على الرغم من الصعوبات المؤقتة في إنتاج اللقاحات أو استيرادها، فقد كفلت جمهورية ألمانيا الديمقراطية التحصين الشامل للأطفال حتى حلها عام 1990. علاوةً على ذلك، انخفض عدد حالات الدفتيريا بشكلٍ كبير، وتقدّمَت مكافحة الحصبة من خلال الحقن التعزيزية على الرغم من الانتكاسات المؤقتة، وساعد إدخال تطعيم ضد مرض السل لجميع المواليد الجدد على تقليل عدد الحالات بشكلٍ كبير. تمكنت ألمانيا الغربية، التي كانت دائمًا في وضع مالي أقوى من ألمانيا الديمقراطية، من القضاء على العديد من أمراض الطفولة، ولكن حملاتها غالبًا ما كانت تتقدم ببطء أكبر بكثير مما كانت عليه في ألمانيا الديمقراطية، كما يتضح من فيروس شلل الأطفال.
ترافق تفكيك نظام الرعاية الصحية في ألمانيا الديمقراطية بعد عام 1990 مع انخفاض في الرغبة في التطعيم وانتشار متزايد للأمراض التي كانت في السابق في انخفاض. مع الانتقال إلى نظام رعاية صحية موجه نحو القطاع الخاص، أصبح التطعيم مرةً أخرى مسؤولية فردية تُركت لتقدير المرضى ومُعالجيهم بدلاً من مؤسسات الدولة المنظمة مركزياً، فعلى الرغم من أن العوامل المختلفة تساهم في ظهور الأوبئة، فإن عودة ظهور حالات السل والحصبة في شرق ألمانيا الموحدة بعد عام 1990 هي دليل مأساوي على فعالية استراتيجية التطعيم الخاصة جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وكذلك أيضًا معدل التطعيم المنخفض بشكل خاص ضد COVID-19 في ألمانيا الشرقية اليوم، والذي هو إلى حدٍ كبير نتاج أزمة ثقة في الحكومة والقطاع الصحي الأوسع.

9. التعاون الدولي والتضامن الطبي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية
في 8 أيار 1973، أصبحت جمهورية ألمانيا الديمقراطية عضوًا معترفًا به ومتساويًا وفاعلًا في منظمة الصحة العالمية (WHO) جنبًا إلى جنب مع 145 دولة أخرى. كانت ألمانيا الغربية عضواً في منظمة الصحة العالمية منذ عام 1951 ومع ادعاءها بأنها الممثل الوحيد للشعب الألماني أعاقت التعاون الدولي لجمهورية ألمانيا الديمقراطية في مجال الصحة وقُدرتها على الحصول على الموارد الدولية. بعد قبولها في عام 1973، أصبحت جمهورية ألمانيا الديمقراطية مُساهماً فعّالاً في منظمة الصحة العالمية، حيث استضافت اجتماع المُنظّمة الأقاليمي الأوروبي لعام 1981 لأوروبا جنبًا إلى جنب مع العديد من وُرش عمل منظمة الصحة العالمية، كما شاركت بنشاط في البرنامج الذي طَرَحته مُنظمة الصحة العالمية بعنوان (استراتيجيات توفير الصحة للجميع بحلول عام 2000) خصوصاً فيما يتعلق بمفهوم الرعاية الصحية الأولية في المؤتمر الدولي لعام 1978 في ألما آتا. تم إرسال خبراء من ألمانيا الديمقراطية إلى منظمة الصحة العالمية كمندوبين، بينما جاء الطلاب الأجانب للدراسة في ألمانيا الديمقراطية من خلال المنح الدراسية التي توفرها منظمة الصحة العالمية. بالاضافة الى ذلك، تم اعتماد خمسة عشر مؤسسة ومشروعاً طبياً في جمهورية ألمانيا الديمقراطية كمراكز مُختصة في التعاون مع منظمة الصحة العالمية، والتي دعمت برامجها من خلال إجراء البحوث وجمع البيانات وتعزيز تبادل الخبرات العلمية والعملية.
بالإضافة إلى ذلك، كان التعاون بين الدول الاشتراكية مكثفاً ولكنه أيضاً كان محدوداً بسبب اختلاف قدرات كل دولة، فعلى سبيل المثال، قدمت جمهورية ألمانيا الديمقراطية العديد من الأدوية والمعدات الطبية إلى الاتحاد السوفيتي وحلفائه، بينما تلقى عدة آلاف من الأطباء من جمهورية ألمانيا الديمقراطية تدريبًا متخصصًا في هذه البلدان.
شمل تضامن ألمانيا الديمقراطية الأُممي مع بُلدان جميع أنحاء جنوب الكرة الأرضية العديد من المشاريع في قطاع الصحة. كانت هناك اتفاقيات تعاقدية مع أكثر من 40 دولة وحركات تحرر وطنية، مثل المنظمة الشعبية لجنوب غرب إفريقيا (سوابو) والمؤتمر الوطني الأفريقي (ANC). عملت ألمانيا الديمقراطية على توسيع نطاق التعاون الأُممي الطبي من خلال توفير الأدوية والمعدات، ونشر الأطباء والممرضات في الخارج، وتدريب الكوادر الدولية وزيادة تثقيفهم، وبناء المستشفيات وتشغيلها. على سبيل المثال:
• مستشفى الصداقة الفيتنامية-الألمانية الديمقراطية، وهو مستشفى فيت دوك (الألماني الفيتنامي) Viet-Duc، في هانوي، المُستشفى اليوم مُزوّد بالمواد الطبية من ألمانيا الديمقراطية منذ بداية عام 1956.
• بُنِيَ مستشفى كارلوس ماركس في نيكاراغوا في الثمانينيات وأداره إلى حدٍ كبير خبراء ألمانيا الديمقراطية وفنيوها. بحلول عام 1989، كان هناك ما يقرب من 90 موظفًا يعملون هناك، من بينهم 25 طبيباً و23 موظفاً طبياً من المستوى المتوسط من جمهورية ألمانيا الديمقراطية.
• قام أكثر من 50 طبيباً وأخصائيًا من ألمانيا الديمقراطية ببناء وتشغيل "مستشفى ميتيما الاستوائية" (The Metema Tropical Hospital) في إثيوبيا من عام 1987 إلى عام 1988 لعلاج ضحايا الجفاف.
• تلقت أنغولا 27 سيارة إسعاف من خلال تبرعات التضامن من جمهورية ألمانيا الديمقراطية في عام 1975، وفي مركز إعادة التأهيل في العاصمة لواندا، عالج موظفو ألمانيا الديمقراطية الجرحى من مقاتلي الحركة الشعبية لتحرير أنغولا (MPLA)، كما عمل المركز كمدرسة لتدريب الممرضات والأطباء المحليين.
• أرسلت ألمانيا الديمقراطية متخصصين إلى مستشفى 17 أبريل (the 17 April Hospital) في كمبوديا، وموزمبيق (مدينتي شيمويو وتيتي)، والجزائر (فريندا ، المهدية ، وعوران)، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (عدن)، وغينيا (المركز التقني لتقويم العظام في كوناكري) The Orthopaedic-Technical Centre In Conakry، كما عالج أطباء الأطفال في جمهورية ألمانيا الديمقراطية المرضى في عيادة الاتحاد الوطني لعمال تنجانيقا في دار السلام في تنزانيا.
علاوة على ذلك، تلقى الأطباء من بُلدان جميع أنحاء إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية تدريباً متخصصًا في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وتم علاج حوالي 700 مريض من الخارج في الجمهورية كل عام. كما تلقت الممرضات وغيرهم من المهنيين الطبيين ذات المستوى المتوسط تدريباً في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، في أغلب الأحيان في مدرسة دوروثيا كريستيان إركسليبن الطبية Dorothea Christiane Erxleben Medical School، التي اجتذبت ما يقرب من 2000 طالب من أكثر من 60 دولة وحركة تحرر وطنية خلال وجودها الذي دام 30 عامًا. تميزت أُممية ألمانيا الديمقراطية الطبية بالمساعدات الفورية والالتزام بدعم التنمية طويلة المدى للخدمات الطبية ذاتية الاستدامة في الدول الوطنية الفتية.

10. لماذا الاشتراكية هي الخيار الأفضل للوقاية من الأمراض؟
في عام 1990 تم دمج شطري ألمانيا الشرقي والغربي، وبذلك انتهت مساعي جمهورية ألمانيا الديمقراطية لبناء نظام رعاية صحية مختلف تمامًا والذي استمر لمدة 40 عامًا. لقد ابتَلَعَ النظام الألماني الغربي البنية التحتية الطبية في جمهورية ألمانيا الشرقية السابقة، والتي كانت هي نفسها (المانيا الغربية) عالقةً في موجةٍ نيوليبرالية منذ منتصف الثمانينيات. في العقود التي تلت ذلك ظهرت سلاسل مستشفيات الشركات في جميع أنحاء ألمانيا وأعيد فرض نموذج العيادات الخاصة لرعاية المرضى الخارجيين في الشرق. جاء دافع الربح للسيطرة على مهنة الطب مرةً أخرى، كما ذكرت إيرين، وهي ممرضة سابقة تعمل في إحدى العيادات الشاملة في جمهورية ألمانيا لشرقية: " بدأ الأطباء بحلول عام 1993، بإقامة عياداتهم الخاصة. بعد أن حضرت رئيسة الأطباء صفاً عن العمل الحر، قالت لنا، "لقد تعلمت اليوم أن هناك ثلاثة مبادئ للعمل الحر في النظام الجديد، أولاً، يجب أن نكون دائمًا لطفاء مع المرضى ليعودوا إلينا في المرات القادمة، ثانيًا، يجب أن نكتشف ما يمكن أن نكسبه من المريض، أي ما مقدار الإيرادات التي سيولدونها لنا؟ والمبدأ الثالث: لا يمكننا السماح لهم أن يصحّوا". كانت تلك تجربتي مع تغيّر النظام بعد عام 1990، وكان هذا هو شعوري العام في قطاع الصحة منذ ذلك الحين".
أدت إعادة تطبيق الممارسات الطبية ذات التوجه التجاري في شرق ألمانيا الى جعل الفرق بين الرعاية الصحية الرأسمالية والاشتراكية أكثر وضوحاً. في حين يُحوّل الاقتصاد السوقي الأمراض الى سِلَع والمرضى الى زبائن، يسعى الطب الاشتراكي الى الوقاية من المرض، جاعلاً حياة الانسان الكريمة هي المبدأ المحوري. ظلّت الوقاية، كما هو الحال في الدول الاشتراكية الأُخرى مثل كوبا، هي المبدأ المحوري لمُقاربة ألمانيا الديمقراطية لمسألة الطب طوال فترة وجودها. ما أن تم القضاء على دافع الربح من الطب والاقتصاد، فلم يتبقَّ هناك أي سبب لما يُمكن الابقاء على مرض الناس.
تم التركيز السياسي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية على الطب الاجتماعي -أي الاعتراف المنتظم بالمحددات الاجتماعية والاقتصادية للصحة والمرض ومكافحتها بدلاً من اتباع نهج يركز فقط على كيفية ظهور هذه العوامل على المستوى الفردي. بينما يقدم كل من الطب الاجتماعي والفرد وجهات نظر حاسمة للوقاية من المرض وعلاجه، فلن تُفلِح حتماً السياسات التي تهدف إلى تحسين صحة السكان في حال تم تجاهل السياق الاجتماعي العام والأسباب الجذرية للمرض.
تعكس رعاية المرضى الخارجيين، التي كانت المحور الرئيسي لهذه الدراسة، بشكلٍ لافتٍ للنظر التمييز بين نظام الرعاية الصحية الرأسمالي والاشتراكي. كانت المؤسسات الطبية المختلفة في البلاد مُرتبطةً في شبكةٍ متكاملة عززت التعاون بدلاً من المنافسة، وعَمِلَت هذه البنية التحتية الواسعة كنظام للإنذار المبكر أمكنه تحديد ومواجهة التطورات الضارة أينما وحيثما ظهرت. لقد كان مجال الرعاية الصحية المهنية مهمًا بشكل خاص في هذا الصدد لأنه سمح بفحص الروابط بين العمل والمرض ومعالجتها، وبالمثل، فإن دمج الرعاية الوقائية في مؤسسات رعاية الأطفال والتعليم حول القضايا الصحية إلى مسؤولية اجتماعية يتحملها الآباء والأطباء والموظفون الحكوميون أيضاً.
ما يبرز في سياق تاريخ ألمانيا الديمقراطية هو الإنجازات في سياسة الرعاية الصحية على الرغم من الصعوبات التي واجهت مجتمع الجمهورية، فهي كانت على الخطوط الأمامية للحرب الباردة، حيث كانت البلاد تخضع لعقوبات شديدة وتكافح لاستيراد التكنولوجيا والمعدات الطبية الحديثة. في الوقت نفسه، كانت ظروف العمل مجهدة بسبب ضرورات إعادة البناء بعد عام 1945، والتي غالبًا ما تطلّبت العمل الشاق والتعرض لتلوث الفحم البني. تميزت السنوات الأولى لألمانيا الديمقراطية أيضًا بنقص خطير في العمالة في قطاع الصحة حيث تم إغراء المهنيين الطبيين باتجاه الغرب، ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه التحديات كلها، كانت الدولة الاشتراكية قادرةً على الاستفادة من مواردها المحدودة لتحسين الوضع الاجتماعي وصحة السكان بشكل تدريجي، وفي هذه العملية، تم إحداث ثورة في مهنة الطب لتحطيم التسلسلات الهرمية التقليدية، حيث تم فتح مجال الطب أمام الطبقة العاملة والفلاحين، وساعد الانتقال من العيادات الخاصة إلى العيادات الشاملة على إضعاف ما كان في السابق امتيازاً للأطباء على الممرضين والمُساعدين، حيث أصبح أرباب العمل والموظفون السابقون زملاءً وليس عامل ورب عمل.
تحققت هذه النجاحات خلال تطورين سياسيين رئيسيين، أولاً، أصبحت الصحة أولوية مجتمعية في ألمانيا الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية. بينما كان على النقابات العمالية في زمن فايمار أن تُناضل من أجل السياسات الصحية ومن ثًمَّ تتنازل عنها الطبقة الرأسمالية، كانت جمهورية ألمانيا الديمقراطية دولةً للعمال والفلاحين؛ حيث الحقوق الصحية والاجتماعية والثقافية مكرسة في دستور البلاد، وقد تم الإشراف على إنفاذ هذه الحقوق من قبل العمال أنفسهم. أما العامل الثاني فهو خلق علاقات المُلكية العامة، أو جعلها اشتراكية في ألمانيا الديمقراطية، مما خلق إطارًا لنظام رعاية صحية متكامل. كان التنظيم المركزي للدولة للصناعة والإسكان والطب والتعليم يعني أنه يمكن مناقشة الأهداف الصحية وتنفيذها فيما يتعلق بالأهداف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأُخرى. وهكذا تم إنشاء رابط شامل بين السياسة الصحية وجميع مجالات المجتمع، مما خلق لأول مرة أساسًا عملياً لمثل هذه المناقشات (على الرغم من المناقشات السياسية العنيفة في كثير من الأحيان).
اليوم، ولتبرير خصخصة أنظمة الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم، هناك فكرة سائدة أن الأسواق تضمن توزيع فعال للموارد في المجتمع، ومع ذلك، نظرًا لأن فيروس COVID-19 يودي بحياة الملايين ويدمر القطاعات الصحية الضعيفة حتى في أغنى الدول، فإن عدم كفاءة السوق وعدم إنسانية الملكية الخاصة أصبحا أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. أظهرت جمهورية ألمانيا الديمقراطية أن البديل ممكن، بديل يضع رفاه الإنسان في صميمه، مدفوعًا ومُداراً من قبل العمال. أثبتت الاشتراكية حتى في ظل ظروف القيود الاقتصادية الشديدة، أنه يُمكن ضمان الرعاية الوقائية والعلاج الفعال والعمل في ظروف إنسانية للجميع. وبالفعل، تواصل كوبا المُحاصرة إثبات هذه النقطة اليوم، ليس فقط بتقديم رعاية صحية نموذجية لشعبها ولكن أيضًا في خدمة المحتاجين في جميع أنحاء العالم. سوف تجد أنظمة الرعاية الصحية المُستقبلية نماذج عملها تجارب المجتمعات الاشتراكية مثل كوبا وجمهورية ألمانيا الديمقراطية.

شكر وتقدير

تم إعداد هذه الدراسة بالتعاون مع الدكتور هاينريش نيمان Heinrich Niemann (مواليد 1944)، الذي عمل كأخصائي في الطب الاجتماعي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية وعمل كمستشار محلي للصحة في مارزان هيلرسدورف، برلين Marzahn-Hellersdorf, Berlin ، خلال التسعينيات. كما شارك في تأليف القسم الخاص بعلم النفس المهني الدكتور كلاوس موتشا Klaus Mucha، عالم النفس المهني. وتلقينا أيضًا مدخلات مهمة من المقابلات التي أجريت مع الدكتور هربرت كريبيش Herbert Kreibich (مواليد 1943)، وهو متخصص في الرعاية الصحية المهنية، والذي قاد المعهد المركزي للطب المهني التابع لجمهورية ألمانيا الديمقراطية من عام 1983 حتى عام 1990، والممرضة إيرين Irene (مواليد 1940)، التي عملت سابقاً في جمهورية ألمانيا الديمقراطية كممرضة في عيادة متعددة التخصصات في مجال الطب الوقائي الرياضي وفي عيادة خارجية للمرضى (طلبت عدم ذكر اسمها لأسباب شخصية)، والدكتور روديجر فيلتز Rüdiger Feltz (مواليد 1958)، متخصص في جراحة الأعصاب وكان طبيباً ممارساً في جمهورية ألمانيا الديمقراطية واليوم في جمهورية ألمانيا الاتحادية. تم إجراء جميع المقابلات بين مايو ونوفمبر 2021 في برلين.


المصادر والمراجع
Bismarck, Otto Von. Stenographische Berichte Über Die Verhandlungen Des Reichstags, VI. Legislaturperiode, I. Session 1884/85 [Stenographic Reports On The Negotiations In The Reichstag, VI. Legislative Period, I. Session 1884/85]. In Geschichte Der Deutschen Arbeiterbewegung, Band I [History Of The German Labour Movement, Volume I]. Berlin: Karl Dietz-Verlag, 1970.

Bündnis Krankenhaus Statt Fabrik, Eds. Das Fallpauschalensystem Und Die Ökonomisierung Der Krankenhäuser – Kritik Und Alternativen [The German Diagnosis Related Groups And The Economisation Of Hospitals – Criticism And Alternatives]. Maintal: Bündnis Krankenhaus Statt Fabrik, 2020.

Deutsche Demokratische Republik [German Democratic Republic]. Arbeitsgesetzbuch Der Deutschen Demokratischen Republik [Labour Code Of The German Democratic Republic]. 16 June 1977. Http://Www.Verfassungen.De/Ddr/Arbeitsgesetzbuch77.Htm.

Deutsche Demokratische Republik [German Democratic Republic]. ‘Befehle Der Sowjetischen Militäradministration In Deutschland Zum Gesundheits- Und Sozialwesen’ [Orders Of The Soviet Military Administration In Germany On Health And Social Services]. In Veröffentlichungen Des Koordinierungsrates Der Medizinisch-Wissenschaftlichen Gesellschaften Der DDR [Publications Of The Coordination Council Of The DDR’s Medical-Scientific Societies]. Berlin: Verlag Volk Und Gesundheit, 1976.

Deutsche Demokratische Republik [German Democratic Republic]. Verfassung Der Deutschen Demokratischen Republik [The German Democratic Republic’s Constitution]. 9 April 1968. Http://Www.Verfassungen.De/Ddr/Verf68 I.Htm.

Deutsche Demokratische Republik [German Democratic Republic]. Statistische Jahrbücher Der DDR [Statistical Yearbooks Of The DDR]. Berlin: Staatsverlag Der DDR, 1956–1991.
https://www.digizeitschriften.de/search?access=all&-dir-ection=asc&filter%5BZeitschriften%5D%5B4%5D=514402644%7Clog1&from=&mainFrom=1956&mainTo=2003&q=Statistisches%20Jahrbuch%20der%20Deutschen%20Demokratischen%20Republik&scope=all&sorting=_score&to=.

Engels, Friedrich. The Condition Of The Working Class In England. London: Panther Books, 1969. https://www.marxists.org/archive/marx/works/download/pdf/condition-working-class-england.pdf.

Feltz, R. (Specialist In Neurosurgery Who Was Practicing Physician In The DDR And Today In The Federal Republic), In Discussions With The Authors. 28 July 2021. IF DDR Office, Berlin.

Feltz, R. (Specialist In Neurosurgery Who Was Practicing Physician In The DDR And Today In The Federal Republic), Zoom Interview With The Authors. 25 May 2021. Berlin/Erfurt.

Reden Zur Weimarer Gesundheitskonferenz, Februar 1960. [Speeches At The Weimar Health Conference, February 1960]. In Für Das Wohl Des Menschen. Band 2: Dokumente Zur Gesundheitspolitik Der SED [For The Good Of The People. Volume 2: Documents On The Health Policy Of The SED], Edited By Fischer, Erich, Lothar Rohland, And Dietrich Tutzke. Berlin: Verlag Volk Und Gesundheit, 1979.

Irene (Former Nurse In The DDR Who Worked In A Polyclinic, In Sports Medicine Prophylaxis And In An Enterprise Outpatient Clinic), In Discussion With The Authors. 21 June 2021. Berlin-Treptow.

Kreibich, H. (Specialist In Occupational Health Care Who Led The DDR’s Central Institute Of Occupational Medicine From 1983 Until 1990), In Discussion With The Authors. 30 November 2021. Eichwalde.

Kupfermann, Thomas. Ärzte, Poliklinik, Und Gemeindeschwester [Doctors, Polyclinic, And District Nurse]. Augsburg: Weltbild, 2015.

Lown, Bernard. The Lost Art Of Healing: Practicing Compassion In Medicine. New York: Random House, 1999.

Mecklinger, Ludwig, Günter Ewert, And Lothar Rohland, Eds. ‘Zur Umsetzung Der Gesundheitspolitik Im Gesundheits- Und Sozialwesen Der DDR’ [The Implementation Of Health Policy In The DDR’s Health And Social System]. In Interessengemeinschaft Medizin Und Gesellschaft E.V. [Interest Group Medicine And Society], No. 13–16. Berlin: Eigenverlag, 1998.

Niemann, H. (Former Specialist In Social Medicine In The DDR And Served District Councillor For Health In Marzahn-Hellersdorf, Berlin), In Discussion With The Authors. 2 June 2021. IF DDR Office, Berlin.

Rapoport, Ingeborg. Meine Ersten Drei Leben. [My First Three Lives]. Berlin: Edition Ost, 1997.

Schubert-Lehnhardt, Viola And Klaus Thielmann. ‘Das Einfache, Das So Schwer Zu Machen Ist: Gute Allgemeinmedizin. Zum Verhältnis Von Öffentlicher Zu Individueller Gesundheitsversorgung’ [Good General Practice: The Simple Thing That Is So Difficult To Do. On The Relationship Between Public And Individual Health Care]. Ethica, No. 22 (2014): 163–181.

Seidel, Karl. Im Dienst Am Menschen – Erinnerungen An Den Aufbau Des Sozialistischen Gesundheitswesens [In The Service Of People – Memories Of The Building Of The Socialist Health System]. Berlin: Dietz-Verlag, 1989.

Spaar, Horst. ‘Dokumentation Zur Geschichte Des Gesundheitswesens Der DDR, Teil I–VI (1945–1989)’ [Documentation On The History Of The Health System In The DDR, Part I–VI (1945–1989)]. In Interessengemeinschaft Medizin Und Gesellschaft E.V. [Interest Group Medicine And Society], No. 3 5 17/18 29/30 37/38 46/47. Berlin: Eigenverlag, 1996–2003.

World Health Organisation. Declaration Of Alma-Ata. International Conference On Primary Health Care, Alma-Ata, USSR, 1978.
https://www.who.int/teams/social-determinants-of-health/declaration-of-alma-ata.

Zentralsekretariat Der SED [Central Secretariat Of The SED]. Gesundheitspolitische Richtlinien Der SED [SED Health Policy Guidelines]. Log No. 87, Meeting Of The Central Secretaries, 31 March 1947. http://www.argus.bstu.bundesarchiv.de/dy30zspr/mets/dy30zspr_077/index.htm?target=midosaFraContent&backlink=/dy30zspr/index.htm-kid-11ee9da7-4419–481f-8301-b9e989422683&sign=DY%2030/IV%202/2.1/77#7.

ترجمة لمقالة:
“SOCIALISM IS THE BEST PROPHYLAXIS”
The German Democratic Republic’s Health Care System
https://ifddr.org/en/studies/studies-on-the-ddr/socialism-is-the-best-prophylaxis/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ما المقصود
مالك ابوعليا ( 2023 / 11 / 4 - 12:20 )
ما المقصود من تعليقك؟ ديماغوجيا من؟

اخر الافلام

.. هل وبخ روبرت دينيرو متظاهرين داعمين لفلسطين؟ • فرانس 24 / FR


.. عبد السلام العسال عضو اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي




.. عبد الله اغميمط الكاتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم التوجه


.. الاعتداء على أحد المتظاهرين خلال فض اعتصام كاليفورنيا في أمر




.. عمر باعزيز عضو المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي