الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية-موطن الخيبات- بقلم ناقد تونسي

العتابي فاضل

2023 / 5 / 10
الادب والفن


بين حريّة الذات و سجن الوطن: رحلة في متاهات الخيبة وتعرّجات الرّواية في “موطن الخيبات” لفاضل العتّابي.
بقلم الناقد : البشير الجلجلي


)فإذا أردتُّ المعرفةَ فقد أردت الصدقَ ، أعني الشدّة والتضييقَ على نفس ي والقساوةَ لا تلين(
)ف.نيتشه(

اختلف النّقاد في تحديد علاقة الرواية بالعالم الخارجي خاصة ما اتصل بالاطار المرجعيّ الذي بدا باعثا للحيرة في وشائج السيرةِ الذّاتية أدبا مرجَعيًّا بال رّوايةِ أدبا خياليا ، فإن الأمرَ لا يمثّل إحراجا للنّاقد الذي يلامسُ الفنَّ لا الواقعَ ، على أهميّة الواقعِ واجتراحاتِه... ذلك أنّ سارد العمل الروائيّ يبقي في حيرة كأنّه يمش ي في حقلِ ألغامٍ بين السير ي وبين الرّوائي ،ولكن كيف تتحدّد العلاقةُ اليومَ بين الر وايةِ والتاريخِ ؟


هذا ما دعانا إلى النّظرِ في روايةِ " موطن الخيبات" للروائي العراقي"فاضل العتابي"مدفوعينَ بدافعيْن: أوّلهما، لأهميةِ هذه التجربة الروائية الجديدة ،وثانيهما، لنتعرّفَ إلى الخطّ الروائيّ الشبابي في العراق وطموحاته في الألفيّة الجديدة.
فلا أظنّ أنّ الساردَ غير واع، وهو يتنقّل حذرا في مسارب تيه الشخصيات،بين خيباتها و بين آمالها ناقلا “تاج كيانها المركب من العشق والفناء “ إل،ى ساحة الرّواية التي وسمها صاحبها بـ”موطن الخيبات”...والموطن غير الوطن...رغم المادة الاشتقاقيّة المشتركة بينهما...فال وطن إلى الجَغرافية أقرب والموطن إلى المنشإ والمهد الأوّل المتصل بالشعور أميل ...
ولسنا نبالغ إنْ قلنا إنّ رواية “موطن الخيبات “رغم الخطيّة في زمن الأحداث فإنّ فصولها الأربعة عشر قامت على حلقات موصولة في كلّيتها بمادة)خ.ي.ب( في عديد المواطن ) الطفولة المرة /بدء الخيبات /موطن الخيبات / خيبات لا تنفكّ / العودة إلى وطن الخوف/ مهلكة جديدة ( ، عطفا على بعضها أو تجاوزا لها بين طفولة “سامي “ و شبابه وكهولته التي انتهت إلى إفريقية ) تونس( الموطن العاطفي تعويضا عن فقدان زوجته وأخذا بنصيحة صديقه نعمان،بعدما لفظه الوطن الجَغرافي )العراق(...
يقول السّارد في الفصل الأخير “سافر إلى تونس وهو يتوكّأ على عكّاز يُعينه على المسير”...فكانت الحلقة الأولى موصولة بالحلقة الأخيرة على شكل صورة مصغّرة لما كابده طفلا من والده وزوجته، فكفله عبد الرؤوفصاحب المطبعة بالحيّ المجاور، يقول السارد في الفصل الأول “الطفولة المرة:” يأتي أبوه آخر الليل ، وهو ثمل، لايعلم بما يجري في البيت ، وما يعانيه ولده البكر سامي ، دون أن يكلّف نفسه يوما بأن يسأله عن أحواله”...والحلّ وجده مع صاحب المطبعة في الحلقة الثّانية “مرحلة جديدة”يقول:“اصطحبه الأستاذ عبد الرؤوف بالسيارة وهو مبتهج بقدومه، وأخبره بأنهما سيذهبان إلى البيت أول الأمر وبعدها إلى المطبعة بعد الغداء”.
لذلك سار السّارد في هذه الفصول بين الظُّلمة وبين الإشراق...فكثرت الجمل الفعليّة انعكاسا لايقاع جريان السّرد وتقلّص الوصف في عديد المواطن و قام الحوار بدور التعريف وتعريّة الجانب الخفيّ في الشخصيّات بلغتها أو بلهجةٍ تميل إلى العواطف . فلأمّ فارس في حنوّها وعطفها على سامي لغة خاصة بها ”وليدي أيّ عمل هو خير وأحسن من العمل هنا”.فبان الموطن الحقيقيّ وهي تساعد يتيما كأنّها أمّه التي فقدها بسبب السّعال اللّعين ...
من هذه الزّاوية،واكبت متاهاتِ التّيه تعرّجاتُ الرّواية في رحلة الشخصية ...حيث جعل الروائيّ فاضل العتّابي أعوان روايته يمرّون على صراط البحث عن الذّات،فلو حاد أحدها عن الحقّ سقط في المجهول الذي لا عودة بعده، يقول في الفصل السادس:”بعد التشاور مع البعض و اللجوء إلى مكتب U N، همّ بالمغادرة إلى مكان أكثر أمنًا ومنه تبدأ رحلة الاستقرار الجديد”...وهي تعرّجات جابت تاريخ العراق المعاصر وتدبّرت الأسباب العميقة للسقوط المدوّي للأمّة ”وفي آخر الأمر حصل الاتفاق أن يتمّ تهريب سامي إلى كردستان العراق بعد حصولها على الحماية الأمريكيّة”. وهو تاريخ لا ينفصل عن تاريخ خيبات ذوات العرب وذوات الأفراد ، بينقسوة زمن ) موت الأم زنوبة( وبين قسوة الأب ) لامبالاة الأب عبد العظيم( وبين ظلم الآخر ) سجن “أبو غريب”(...و في الجهة المقابلة بان عطف الخالة أم فراس وصاحب المطبعة و تونس المستقرّ الأخير...فكأنّه يقول قول أحمد عاكف” فلشدّ ما تحمّل هذا القلب من ألم ، و لشدّ ما تجرّع من خيب ة !” ...
فبحث أحمد عن نوال كما بحث سامي عن شذا يقول السّارد “بعد انتهاء حبسه خرج من سجن “أبو غريب” مثل التائه الغريب .كان يحوم حول المطبعة من بعيد علّه يجد أثرا لشذا ”،وكما بحث سعيد مهران عن زوجته وعائلته حيث يقول سارد” اللّص والكلاب “: “ مرّة أخرى يتنفس نسمة الحرية ، ولكنّ الجوّ غبار وحرّ لا يطاق .وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط” . فاحتفظ أحمد عاكف وسعيد مهران بالموطن رغم ظلم الوطن ،كما احتفظ سامي بإنسانيته رغم ماعاناه من ظلم ذوي القربى..
فبانت معالم “الرواية المحفوظيّة “في “موطن الخيبات “، وهو واضح في ما أشرنا إليه وغيره ،ولكن التأثّر الأكبر كان بالرواية العراقية التي تعود أصولها إلى رواية “جلال خالد”سنة 1928 ميلاديّا، للصحفي “محمود أحمد السيّد”) 1903-1937م( ،ولكن البداية الحقيقية كانت مع المدّ اّلقومي في الخمسينيات ثم النضج الفنّي برواية“ النخلة والجيران “ سنة 1966ملـ”غائب طعمة فرمان”)1927-1990م( ...حتى يومنا الحاضر بمدّ روائي يجمع بين أصالة تاريخ العراق و قضاياه التي غزت العالم، من احتلال وتشدّد و خيانة وتقسيم وطن وغيرها...وبين خصوصيّة روائيّة من جماليات وصف تزييني و إيقاع سرد مشهدي وفضاء كرونوتوبي وحوار مركّب و شخصيات متصارعة وأصوات متعددة وانفتاح على الفنون والخطابات الأخرى...
بهذا المفهوم، لم تشذّ رواية العتابي عن ذلك بط رح قضايا الذات ووصلها بقضايا الوطن في مدّ سيري غلب عليه البعد التخييلي لبناء بواطن الشخصيّة وهي تعترف بخيباتها وتتمسّك بآمالها يقول سامي “نجيبة أتمنى أن تفهمي ما سأقوله لك بتر وّ وتفهم، كل ما مررت به من متاعب ومآس في حياتي أعلله بسوء الحظ الذي لازمني من يوم ولادتي إلى هذا الحين”.فشخصية “نجيبة “ قدّها من ذاتية سيرية كما بان في الإهداء” إلى نجيبة ... أنت نهر يقطن أرض ي كدجلة والفرات”...فترافع السيريّ مع الروائيّ...

والرّأي عندي أنّ العمل الروائ يّ مهما أُختلف في تأويله يبقى له السّلطةالكبرى في ابتناء أدبيته متى حصّنه صاحبه بأمارات تقود إليه دون أن تجعلمنه فريسة سهلة للتأ ويل .
ألم يشرْ إيكو في هذا الصّدد إلى أنّ اللّعب هو خاصيّة الكتابة المعاصرة وخاصّة بالنّسبة إلى المؤوّلين يقو ل" فالنّصّ في علاقته مع مؤوليه يُحدث تأثيرات كثيرة على مستوى المعنى لم تكن في حسبان المؤلّف)...( “ .
فالنصّ الروائي يخرج عن سلطة صاحبه متى غادر ساحة حاسوبه وسار بين القرّاء يمش ي ويحدّث عن كيت وكيت...حتى وصل سامي إلى تونس و وصل النصّ إلى ناقد تونس يّ ومتقبلين تونسيين وعرب و دار نشر عراقية تنشر من تونس...
فلا مِرية في القول إنْ زعمنا أنّ رواية “موطن الخيبات”،قد تحوّلت بفعل هذا المدّ نقدا ونشرا وقراءة ،إلى“موطن الانتصارات”...ألم يقل محمود المسعدي التونس ي بفعل الأدب الوجودي “الحياةُ كونٌ واستحالةٌ ومأساةٌ
، فإذا هي ارتدّت ظاهرةً وقرارا ورض ى ، فهي الخسرانُ ولعنةٌ على الزّائفين” ...؟!، ألا يتساوق ذلك مع ما قاله لي محمود درويش “الذاهب إلى المجهول هو الذي يبقى” ...؟!.
والبحث في المجهول هو عنوان الفصل السادس من الرواية “ الرّحلة إلى المجهو ل”،وصلا بين فصليْ ” الهروب “و”موطن الخيبات”، الفصلين الخامس والسابع، وكأنّ الرواية تطمح أن تجد مجازا ولو ضيّقا لتعبر الألمَ إلى الأملِ في صورة تتقاطر من نفس الشخصيّة الرئيسيّة و يتذوّقها بقية الشخصيات و حتى القراء كما أمل الكاتب في عتبة الإهداء حين قال” إلى قارئ قد يعيش هذا النّص”.
وبعدُ،تعتبر رواية “موطن الخيبات” للكاتب العراقي “فاضل العتابي” صورة خياليّة لعالم واقعي أراد أن يكون... فغلب الواقع الخيال في صورته الدنيا وانتصر المدّ الذاتي السيري على البعد الروائي الخياليّ ، في صراع العوالم الممكنة التي قد يكون الواقع فيها أكثر خيالا من الخيال نفسه ، بعدما ضُرب عنق الزّمان في هذه الرواية على شكل الشريط السينمائي، وبعدما باحت الشخصيّات بخباياها في اعتراف سريريّ ممسرح عبر حوار متراوح بين اليوميّ و الفصيح، في لغة - في مجملها - روائية ، رغم كلاسيكية البنية السّردية التي قامت على الخطيّة الحدثيّة. وهو إلى ذلك مشروع روائيّ هامّ ،متى تعهدّه صاحبه بتثقيف وسائله الفنيّة، بحثا عن آخر فتوحات الرّواية في العراق والوطن العربيّ والعالم، خاصّة ما اتصل بتياريْ الحداثة وما بعدها ((.
ربّما نتعهدُ هذه التجربة الروائيّة في زمن آخر ...ربّما !! ربّما !!
بقلم الناقد التونسي: البشير الجلجلي bechirjeljli@hotmail .fr
تونس في 14جانفي 2023











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال