الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عائدٌ إلى «الضَّاحية»

نجيب علي العطّار
طالب جامعي

(Najib Ali Al Attar)

2023 / 5 / 12
الادب والفن


بينَ الواقِعِ والخيالِ وما بينهُما من خَيالٍ واقعيٍّ، أو واقعٍ خياليٍّ، أَترنَّحُ ومِثلي «لُبنانيُّون» يَزيدونَ ويَنقُصون. ولا غرابةَ إذا قيلَ أنَّنا، نحنُ «اللُّبنانيِّينَ منذُ أكثر من عشرِ سنواتٍ»، نعيشُ واقعًا مُتَعالِيًا عن كُلِّ تخيُّلاتِ الخيال. لا غرابةَ، لأنَّه كذلك. وعلى سبيلِ الخيال، وبعضُ الخيالِ مُحال؛ ركبتُ ذاتَ خيالٍ أحدَ «فاناتِ الرَّقمِ 4»، وسيلةَ النَّقلِ التي باتتَ مَعلَمًا ثقافيًّا مُتنقِّلًا بينَ ضاحيةِ بيروتَ الجَنوبيَّة، أو «الضَّاحية» على سبيل الإختصار، ومستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت. ركبتُ، كعادتي، بجانبِ السَّائقِ دون أن أنظُرَ إليه لأسألَه عن وجهتِه، إذ أنَّ وجهة «الخطَّ رقم 4» مُحدَّدةٌ ومُعترفٌ بها في مجلس الأمن.

امتلأَ «الفانُ» على مَهلٍ كعادتِه. وكعادتي، لم أنظرُ في وجوهِ الرَّاكبين، لا لشيء ولكن حتَّى لا تقَعَ عيْني على من أعرفُه ويعرفُني فيَضطرُّني لأن أتنازلَ عن عرشي بجانبِ السَّائقِ وأعودُ راكبًا من عامَّة الرُّكَّاب. بقيَ مقعدٌ واحدٌ لم يركبْ فيه أحدٌ بعد، لكنَّ المسؤول عنِ المَوقِفِ صاحَ بصاحبِ «الفانِ»؛ «انطلق وخذ راكبَك عن الطَّريق. هناك من ينتظر. يلّا إمشي».

إنطلقَ «الفانُ» في صمتٍ مهيبٍ لا يُمكنُ أن يرتاحَ له من خَبَرَ ضَجيجَ «الفانات» وهدوءَها على حدٍّ سَواء. وما إنْ وصلَ «الفانُ» إلى أمامِ مدخَلِ الجامعة اللُّبنانيَّةِ في اللَّيلَكي حتَّى مزَّقَ الصَّمتَ الغريبَ عنِ «الرَّقمِ 4» صوتٌ آتٍ منَ المقعدِ الأخير. كان ذاك صوتُ أرسطو يقولُ: «لقد رتَّبتُ عقلَ الإنسانيَّة منذُ ألفَيْ عام. لكنَّني الآنَ عاجزٌ تمامًا عن فهمِ عقولِ هذه النَّاس! كيف يَنظرُ عقلُهم إلى هذا الواقعِ البائس؟». بجانبِه كانَ أفلاطون الذي راحَ يُربِّتُ على كتفِه ويقول: «هذا الواقعُ ليسَ بائسًا. هذا واقعُ ما بعدَ البؤس. إنّه الميتابؤس. أتدري يا أرسطو؟ كنتُ أشعرُ بِحَيرَةٍ مُخيفةٍ حينَ هَمَمْتُ ببناءِ "المدينةِ الفاضلةِ"، لكنْ يَشْهَدُ اللهُ يا أرسطو أنِّي قد اهتديتُ إلى جُمهوريَّتي مُذ تجوَّلتُ في أزقَّةِ الضَّاحية. يكفي أنْ أَعُدَّ كُلَّ المظاهِرِ في الضَّاحيةِ وأزيدُ قبلَها عبارةَ: "لا تجبُ أن تكونَ". الضَّاحيةُ يا أرسطو هي أهمُّ مِثالٍ على التَّشوُّهِ الذي يُصيبُ روحَ الإنسانِ بعدَ أنْ تَنتقِل من عالمِ المُثُل إلى هذا العالَم». كان أفلاطون يُريدُ أن يُكملَ حديثَه لولا أنَّ لينين، الجالس عن يمينِه، صفعَه على رأسِه صفعةً أسكتَتْ لسانَه. ثمَّ انتفضَ لينين فارتطمَ رأسُه بسقفِ «الفان» المُنخفِض، ولولا أنَّه كان قصيرَ القامةِ لشُقَّ رأسُه شُقًّا عميقًا. عادَ لينين إلى مقعدِه وهو يتفقَّدُ رأسَه إنْ كانَ ينزِفُ ويَصيحُ: «ما العَمَل؟ ما العمل يا فلاسفة العالم؟». فاستدارَ فرويد، الذي كان يجلس قربَ النَّافذةِ في صفِّ المقاعدِ الثَّاني منَ الخلفِ، وقال: «لَأَنْ يَسيرَ خروتشوف في نَعْشِ الرَّأسماليَّةِ والإمبرياليَّةِ في جنازةٍ واحدةٍ أَهْوَنُ منْ أنْ يَثورَ هؤلاءِ المسحوقون على ساحقيهم. لقد تأخَّرَ الوقت. لا يُمكن إصلاحُ ما نشأتْ عليه أنفسُهم». مُباشرةً وضعَ كارل ماركس، الذي كان يجلسُ بجانبِه، يدَه على رُكبةِ فرويد وقال: «عزيزي فرويد، إنَّ الذي يَصنعُ الثَّورةَ ليس الفقرُ، وإنَّما وعيُ الفَقر هو الذي يصنعُها». نكَزَه أَنجْلِزْ الجالسُ إلى يمينِه فاستدارَ ماركس نحوَه، فقال أَنْجلِزْ؛ «أقترحُ أن نَستبدلَ الفَقر بالبؤس. البؤس أوسَعُ من الفَقر». فصاحَ فرويد: «إنَّ الحياةَ النَّفسيَّةَ لهؤلاء قد تشكَّلتْ على ما هي عليه الآن. لا يُمكنُكم أنْ تُغيِّروهم. أم أنَّكُم تُؤمنونُ بالتَّوبة؟». فبدأتْ أصواتُ الثَّلاثةِ تعلو وهُم يتجادلون ويَختَصِمونَ وكُلٌّ يؤيِّدُ رأيَه بأدلَّتِه.

كانَ نِيتشه يجلسُ وحدَه على صفِّ المقاعدِ الثَّالثِ منَ الخلف. فقدْ دَفعَ مئةً وخمسينَ ألفَ ليرةٍ، أُجرةَ ثلاثةِ رُكَّابٍ وطلبَ من السَّائقِ ألَّا يجلسَ أحدٌ قُربَه. وحين علا صوتُ الثَّلاثَةِ المُتخاصمين استدارَ نحوَهم ونظرَ إليهم نظرةً فيها قليلٌ من مُخلَّفات الإحتقارِ وقالَ: «لماذا تُهدرون طاقاتِكم على هذه الحُثالةِ منَ الضُّعفاء؟ أرى أنَّ الحلَّ هو في سَحقِهم. يجبُ التَّخلُّصُ منهم حالًا». فقال له ماركس: «أتُريدُ أنْ تُرسلَ علَيْهِم هتلرًا آخرًا؟»، فردَّ نِيتشه: «بل نُرسِلُ علَيْهِم ستالينًا من ستاليناتِك»، فصفعَه ماركس وقالَ: «لستُ ماركسيًا ولستُ شيوعيًا»، فأسرَّ نِيتشه الصَّفعةَ في نفسِه.
فجأةً طلبَ أرسطو منَ السَّائقِ أنْ يُنزِلَه قُربَ إحدى مقاهي شارعِ الجاموس. فاستدار نِيتشه نحوَه وقال له؛ «رتَّبتَ عقلَ الإنسانيَّةِ منذ ألفَيْ عام، ولم تستطعْ ترتيبَ مَحلِّكَ حَسبَ وِجهتِك؟ لماذا لم تجلسْ في المُقدِّمةِ إنْ كنتَ ستنزِلُ قبل أَنْجلِزْ؟ أنتَ تستحقُّ أن تُسحَقَ أيضًا». لم يُجبْه أرسطو ونزلَ بعدَ أنْ تركَ لأفلاطون «قلمَ BIC أزرق» ليكتبَ بعضَ التَّأمُّلاتِ حول جُمهوريَّته.

وبعدَ أن مشى «الفانُ» بقليلٍ إلتفتَ إميل سيوران إلى الثَّلاثةِ المُتخاصمينَ وقال لهم: « قبلَ أن أزورَ الضَّاحيةَ كنتُ أقول؛ "مثالبُ الولادة". أمّا الآن فأقول؛ "ولادةُ المَثالب". لقد وصلْنا الآنَ إلى "كنيسة مار مخايل". تعال يا نِيتشه معي، تعال نمشي باتّجاه "المْشَرَّفِيِّة"، هُناكَ جسرٌ جيِّدٌ للإنتحار». كانت الإشارةُ حمراءَ على الكنيسة فتوقّفَ «الفانُ» مُنتظرًا الضَّوءَ الأصفرَ فالأخضر. وبينما كان سيوران ونِيتشه ينزلانِ من «الفان» تابعَ ماركس حديثَه مع فرويد: «الدِّينُ أفيونُ الشُّعوبِ». فقالَ له رجلُ دينٍ كانَ قدْ صعدَ لتوِّهِ وجلس مكان نِيتشه: «أتريدُ أنْ تُمارسَ الدَّكْلَكْتِيكْ هُنا في الضَّاحية؟». فصاحَ ماركس برجلِ الدِّينِ؛ «أنتَ متى صعدتَ إلى هُنا؟ هيَّا انزلْ أيُّها المَعتوه». نزلَ "الشَّيخُ" بعد نِيتشه وسيوران وتابعَ ماركس حديثَه: «الدِّينُ، أو الأخلاقُ، من اختراعِ الأقوياءِ لكي يُهيمنوا على الضُّعفاء». فسمعَ نِيتشه الذي صارَ خارجَ «الفانِ» كلمةَ ماركس فاقتربَ راكضًا من ناحيةِ النَّافذةِ ومدَّ يدَه ليصفعَ ماركس لكنَّ فرويد منعَه، فصاحَ نيتشه: «الدِّينُ، أو الأخلاق، هو من اختراعِ الضُّعفاء لكي يَسرقوا إنجازاتِ الأقوياء. تَخلَّصْ يا ماركس منَ الرُّوح الدِّينيَّةِ التي نشأتَ تحتَ ظِلالِها». فأغلقَ فرويد النَّافذةَ بسرعةٍ تَحسُّبًا منْ أنْ يُطبِّقَ نِيتشه أخلاقَ القُوَّةِ على ماركس، ثمَّ قال: «أتوقَّعُ لهذا الرَّجل أن يُجنَّ عمَّا قريب. أنا سأنسحبُ منَ النِّقاشِ سيِّد ماركس، وأيًّا كُنتَ فاعلًا فتذكَّرْ أنَّ تَجريدَ شَعبٍ منَ الشُّعوبِ منَ الرَّجلِ الذي يَحتفي به على أنَّه أعظمُ أبنائِه ليسَ بمَهمَّةٍ يُنجزُها المَرْءُ بخِفَّةِ قلب»، ثمَّ عادَ يَتأمَّلُ المارَّةَ منَ النَّافذة.

وما إنْ همَّ «الفانُ» بالانطلاقِ حتَّى رأى عبرَ المرآةِ ثلاثةَ رجالٍ مُهابينَ يَمشونَ بسرعةٍ نحوَه وكانَ أحدُهُم يُلوِّح له مُشيرًا عليه بالتَّوقُّف. إنتظرَهمُ السَّائقُ حتّى يركبوا. ركبَ الإمامُ عليٌّ بنُ أبي طالبٍ أوَّلًا بعدَ أنْ أصرَّ عليه عُمرُ بنُ الخَطَّابِ الذي ركبَ ثانيًا، ثمَّ ركِبَ عُمرُ ابنُ عبد العزيز أخيرًا، ومشى «الفان».

بدأ عُمرُ بنُ الخَطَّابِ حديثَه فقال: «لقد أسمعَني اللهُ تخاصُمَكُم. أمَّا بعدُ، فإنَّه لمَّا فتحْنا بلادَ فارسٍ وسقطَتِ المدائنُ، كنتُ أنا وأخي عليٌّ في مجلسي، فجاءَ إليَّ أحدُ الجُنْدِ بِسِوارَيْ كِسرى وأعطاني إيَّاهُما. فقلتُ لأخي عليّ: إنَّ قومًا أدُّوا هذا إلى أميرِهم لَجَدَّ أُمَنَاء. أخبرْهم يا عليُّ بما أجبتَني يومَها». فقالَ عليٌّ: «قلتُ؛ يا أميرَ المؤمنينَ عَفَفْتَ فعَفُّوا، ولو رَتَعْتَ لَرَتَعوا». فاستدارَ عُمرُ بنُ الخَطَّابِ إلى عُمرَ بنِ عبد العزيز وسألَه؛ «وأنتَ، أليسَ عندَكَ ما يُهتَدى به؟» فأجاب عُمرُ بنُ عبدِ العزيز: «بلى يا جدّي. إنَّ النَّاسَ إنْ فَسدَ أمرُهم فليسَ السَّوطُ ما يُقوِّمُه. إنَّه لا يُقوِّمُه إلَّا العدل». فهزَّ الرُّكّابُ رؤوسَهم بالمُوافقة. وقالَ ماركس في نفسِه: «اللَّعنةُ على حَجَّاجِ هذا العصر». أمَّا سائقُ «الفانِ» فلم يُسمَعْ له صوتٌ ولم يُعرفْ له رأي.

كنتُ صامتًا أُنصتُ، على غير عادتي، إلى تحاورِ الرُّكابِ وتَخاصُمِهم حينَ استدارَ دانتي، سائقُ «الفانِ»، نحوي وقال لي: «وأنتَ؟ ألا تَعرفُ أنَّ أحلَكَ الأماكنِ في الجَحيمِ هي لأولئكَ الذينَ يُحافظونَ على حيادِهم في الأزماتِ الأخلاقيَّة؟». قلتُ له: رَغمَ أنِّي «لا شيءَ يُعجبُني» لكنِّي الآنَ سأبقى على الحِياد. فأنا أريدُ أنْ أرتاحَ قليلًا في «أحلَكِ الأماكنِ في الجَحيم». أنزلني عندَ مُستَديرةِ الجَحيم. سأرتاحُ فيها قليلًا. وحينَ عودتِكَ «مُرَّ بي» لتردَّني معَك إلى «الضَّاحية».








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية