الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة ترصد خط التماس بين العبثيّة والبديهيّة في ديوان -يدٌ يتيمة- لمهيب البرغوثي.

سلمى جبران

2023 / 5 / 12
الادب والفن


سلمى جبران:

تتميَّز نصوص وأشعار مهيب البرغوثي بالحرّيّة المطلقة بالتعبير، حتّى أن القارئَ لا يتمكَّنُ من توقُّعِ أيّة كلمة أو فكرة أو صورة أو حَدَث! يكتبُ مهيب بِدَفْقٍ تَلقائيٍّ جريء وكأنَّه يكتبُ لنفسِهِ فقط في حين أنَّ المُخاطَبَ هو كلُّ العالم!
أحيانًا تكونُ المنازلة بينَهُ وبين العالم كنايةً شاملة مُركَّبة، فيها من الوعيِ والعُمق ما يجعلُها دراميّةً، وأحيانًا أُخرى يكونُ الالتصاق بالواقع والوجوديّة مُتَلازِمَيْن!!
لدى مُهيب رؤيةٌ ورؤيا لا محدودَتان تجوبانِ الكَوْنَ والعالم! أحيانًا يكونُ المسار فردانيًّا وأحيانًا جَماعيًّا، مثال على ذلك: قصيدتا: "كآبة" و "لا أحدَ يخشى خيانتَهُ".
في كثيرٍ منَ القصائد يسير كلُّ شيء نحوَ الهاوية ولكِنْ، يقول: لا شيءَ خارجٌ عن المألوف ولا شيءَ شاذّ في حياتنا المُمِلّة!
مُعظم القصائد بانوراميّة متعدِّدةُ المشاهِد. في قصيدة "الشاعر يرسُم نهاية الانحناءات" نرى نثرًا فلسفيًّا! أَقتبِس: "إنّها ثقافةُ مَن جاؤوا من وراء أطرافِ الثوبِ المُنتَهَك، إنها ثقافةُ كُتّابٍ وقادةٍ مهزومينَ بجولاتِهِم السياسيّة. تُرى متى يدركونَ أنَّهُم لا شيء"!
في قصيدة "قلق": "حتّى القلق يطرقُ رأسي كلّما غَفَوْتُ قليلًا... قلق قلق ...جعلني أتمنّى أن أكونَ ساعةً على الحائط". انتهى الاقتباس. هذه صورة كفكاويّة واضحة. العالم عند مهيب يبدو كشخصيّات وكوابيس كفكا في "المِسْخ" و"المحاكمة" و"القلعة" وحتّى في رسائل كفكا إلى والده، تتكرّرُ هذه الصور عند مهيب في كثيرٍ منَ القصائد وهيَ تعبِّرُ وتوحي بالشعور بالعبث حيث لا أصلَ ولا عدلَ في الأمور!!
يترنّحُ العالم عند مهيب بين الوجود واللّا وجود فيقول: "وكأنَّ العالمَ ذبابةٌ في كأسٍ فارغة".
قال درويش: "وأنت تحرِّرُ نفسَكَ بالاستعارات، فكِّرْ بغيرِكَ، من فقدوا حقَّهُم في الكلام!" ومهيب مبدع في تحرير نفسِهِ بالاستعارات وفي التفكير بمن فقدوا حقَّهُم في الكلام والتعبير عنهم! ونرى ذلك في قصيدة: خَلْفَ نعْشِ المدينة ص17 فيقول: "عاملُ القُمامة يقودُ سيّارةَ دفْنِ العاهرات، لا أحَدَ خلْفَ نعشي، جسدي يسيرُ وَحْدَهُ في الظلام ... لا أحَدَ سوى الفراغ يقودُ نعشي!"
تكثُر عند مهيب صوَرُ الحُطام والفراغ والخَراب، ولكنَّهُ، كمُعالِج تراوْما ماهر، يجمع كلَّ ما تحطَّمَ، بكلِّ شَذَراتِهِ الصغيرة، ويُركّبُها لتصبحَ الكُلَّ الذي كان قبلَ التراوْما!!
قصائد مهيب عن المدينة، وجه المدينة مثلًا، تؤَكِّدُ، إلى حدٍّ ما، الصورة التي كتبَها باسم خندقجي عن رام الله في روايتِهِ: "قناع بلون السماء"، ومهيب أضافَ لها تَوْريةً شاعريّة.
قصيدة: "كل شيء كانَ أجمل" مُفعمة بنفَحاتٍ وَوَمَضاتٍ وألوان خاصّة، وهذه القصائد تتنَفَّس حياة المدينة وتُراقِبُها بعينيّ حنظلة!
من أجمل الصور الشعريّة في المجموعة في قصيدة "في العتمة": اقتباس: "أهرُبُ من كلِّ شيء، يتبعُني الليلُ إلى غرفتي، أُطفِئُ المصباحَ علَّهُ يتوهُ في العتمة"!
في العديد من القصائد يعبِّر مهيب عن المشاعر الأوّليّة الذاتيّة بِحُرّيّة مُطلقة تمتدُّ إلى الفضاء العام بعفويّة راقية! مثلًا قصيدة "في رأسي حيوانٌ ما" وقصيدة "حُجرة في الظلام" هما فِعلًا، أقتبِس: "تلك الرواية المختصرة كالحياة"!
وفي موْقعٍ آخر أوقفتني جملة: "وحدَهُ الألم يجعلُني أستمرُّ في الحياة"! وهذه الجملة وحدَها هي وجبة تفكير دَسِمة وفيها تكثيف وتفكير عَفَوي عَميق! مواقع كثيرة من المجموعة تعتمد التكثيف والتفكير وبنفس القدر التناثُر! وهذه الديناميّة في القصيدة تجري أحيانًا من التناثُر إلى التكثيف، وأحيانًا أخرى من التكثيف إلى التناثُر! وهذا الأسلوب كفكاويٌّ مَحْض.
فالشعور بالعَبَث: لا أصل ولا عدْل في الأمور هو أسلوب كفكا. وهذه تقنيّة تثير الاهتمام والتفكير! عندَ مُهيب يظهرُ فجأةً، من بين الردم والخراب واللا شيء، وميضٌ يُذكِّرُنا بالحياة!
في قصّتِهِ القصيرة: رحلة إلى الجبال، يقول كفكا: لم أضُرّ أحَدًا واللا أحد لا يضرُّني، ولكنَّهُ يُساعِدُني، فأنا خَرَجتُ مع مجموعةٍ من اللاأحَد ((A pack of nobodies وكانَ الوضعُ جيِّدًا". ففي مقطوعة: "الخيانة...بداية حياة جديدة" يصف مُهيب مشهدًا عاديًّا مألوفًا ويحوّلُهُ إلى دراما وجوديّة!
"الضجيج" مقطوعة تصف مدينة "لا وقتَ للحياة فيها"! أمّا "موتُ الرجال" فعندما قرأتُها راوَدَني السؤال: هل هذا بُكاء على الأطلال؟ أم رجوع إلى الماضي يوحي بالتقدُّم إلى مستقبل!؟ لا أدري!
قصيدةُ "القاع" بدأَها بالمتناثر وانتَهَتْ إلى المكثَّف الساخر قائلًا: "حتّى يُتِمَّ العالمُ وجبتَهُ في حفلةِ الكراهيّة"! في نصوص مهيب النثْر يصبح شِعرًا والشِّعر نثرًا، فيجمع الأضداد والمتناقضات في لوحة Grotesque يتعاظَمُ فيها الفردُ فيصبحُ كوْنًا. قصيدة "جنون" تضربُ قِيَمَنا في مَقْتَل وتجعلُها قِيَمًا بلاستيكيّة، حيثُ تكثُر العبَثيّة والخَراب. وهذا الوضع لا يخلو من السخرية المُرّة. ففي "نشيد الأغبياء" تجتمعُ العبَثيّة والرّمزيّة معًا فتبعثُ على قهقهة مُرّة ساخرة، أقتبِس: "الأبقار تصطفّ في الطابور العسكري مترنِّحَةً طَرَبًا على النشيد الوطني، والكلاب لا تحبُّ الدماء، ولكنّها تلاحق بناتِ الجيران في طريقِهِنَّ إلى المدرسة"!!
اقتباس: "لا فَرْقَ إن نِمْتُ معَ الخطيئة أو نِمْتُ وحيدًا، فأنا لا أعرفُ ما أحبّ وما أكرَه"، أرى أنَّ الحديث عن السقوط القِيَمي هنا يؤدّي بالموبِقات إلى الارتفاع حتّى تَختفي أو تَتَبَخَّر!!!

تابعْتُ وَمَضَاتٍ كثيرة في المجموعة أُحبُّ أن أورِدَها كما هي:
القصيدة ص الصورة
خيانات 46 الرجال يملؤون الشوارع والنساء يغسِلْنً ما عَلِقَ على الحائط من العار
سأحلم بكلّ طمأنينة 51 أقطعُ الشارع دونَ انتباه، تمُرُّ السيّارة فوْقَ جُثَّتي، أرى السائق يبتسم، أسامحُهُ لأنَّهُ ثَمِلٌ وسعيد
مدن متلبِّسة بعلاقتنا 54 كانت أسماؤنا تحمل أسماء المُدُن الهاربة
حياة سابقة 70 حُبّ... حبيبتي، لا تبكي سنشتري حَرْبًا جديدة أقلّ تَكْلِفةً وأكثرَ بشاعةً
أنا لسْتُ هم 74 ما أغرَبَ تلك المدينة، كلُّ سُكّانِها رجُلٌ واحد والباقي نسخةٌ عنْهُ.
جلطة 78 إحذَرْ من الجلطات المُفاجئة فهي تأتي مثلَ غَدْرِ الأصدقاء دونَ استئذان
صباح شَتَوي 88 ونظلّ نتفَقَّد أمَّهاتِنا متوتّرين هذا الصباح كوطنٍ غادَرَ الخارطة

وكذلك في قصيدتيّ "عزلة" و"طريق المقبرة" توجد شذَرات عبثيّة مكثّفةّ! تحمل سخريةً مُرّة! قصيدة "بيت مليء بالجثث" نصّ صعب الهضْم مع أنَّ صورةَ القصيدة ككلّ واضحة وتتلاحَم مع الطبيعة. حتّى أستطيعَ هضمَها فكّرْتُ أنَّ البيت هو الوطن، ولعلّي أكون مُخطِئة!
قصيدة "أعوي في المدينة" تشير إلى سقوط كلِّ شيء في الحياة! وأنا أتساءَل: هل يمكن اكتشافُ الحياة وأسرار الوجود فقط في الخراب؟ هل يسطَعُ دائمًا دَفْقٌ إنسانيٌّ من الخراب كما حَدَثَ مع بوكوفسكي حيثُ احتَرَقَ في الماء وغَرِقَ في اللهيب وكانَ الحُبُّ لديهِ كَلْبًا منَ الجحيم!
هل فُقدان الثقة بالحياة يؤدّي دائمًا إلى الارتباط بالمَوْت كشكل من أشكال الحياة؟! هل نبتسِمُ ونُعلنُ مَوْتَ العالَم ونعيش التناقضات بكلِّ ما فيها من حياة؟ أم أنَّنا سنَهْجُرُ هذه اللعينة التي تُسمّى الأرض إلى سماءٍ مليئة بالأعشاب، كما ورَدَ في قصيدة "الأرض اللعنة"!
في مُعظم القصائد هناك تشريح وتشخيص دقيق للحياة كما يراها مُهيب حتّى أنّهُ قال: "لا تستطيع أن تُسمِّيَها الحياة" وهو عنوان قصيدة! ومعَ ذلك هناك رجُلٌ يُجري مراقبةً ثابتة ومتواصلة للحياة، ولكنَّهُ "ماتَ خوْفًا على الحياة!"
يقول مهيب: "أمشي في الشارع يلاحِقُني نشيدٌ وطنيّ" وهذه العِبارة جعلَتْني ألجأ إلى الصمت.... ويقول: "يمنيّون، عراقيّون، ليبيّون، سوريّون وفلسطينيّون يموتون في المنفى! وَحْدَهُم اللصوص والأعداء يتكاثرون في أوطاننا"!!!

مُهيب يفسحُ المجال لحضور بوكوفسكي وسلفيا بلاث ونيرودا، لكنَّه شاعِرٌ متفرِّد ومُبدِع وهو كفكا الفلسطيني في رام الله.
مُباركٌ هذا الإصدار بكُلِّ الأفكار والمشاعِر التي يبُثُّها.
هنيئًا لك يا مُهيب وهنيئًا لنا بك!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا