الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب شمس الرجاء (29) --- الفصل السابع والعشرون --- القصة السابعة والعشرون: رجاء المكتئبين

توماس برنابا

2023 / 5 / 12
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


كان كُلًا من رامي ومُحسن، العاملين لدىّ المهندس شادي الشريف صاحب ومدير مجلس إدارة مجموعة شركات الشريف، والذي لم يبلغ من العمر بعد 30 عامًا، يجلسان في عزاء المهندس شادي الذي انتحر في غرفة نومه الليلة الماضية، وتبادلا الحديث الأتي:

- ما الذي يجعل شخص ثري مثل المهندس شادي أن ينتحر؟ ما الذي ينقصه في هذه الحياة؟ فلديه المال والجمال والجاه والوجاهة الاجتماعية يحسده عليهم الجميع!

- إن الأمر مُحير يا رامي بالنسبة لي.. فلم أسمع من قبل عن مُنتحر بلا مشاكل. كان المهندس شادي إنسانًا مثاليًا بمعنى الكلمة.. لم يُدخن في حياته.. ولم يشرب الكحوليات.. ولم تكن له أي علاقات مشبوهة. لماذا يُمكن أن يرتكب شابًا ثريًا مثله مثل هذا الفعل الشنيع ضد نفسه؟!

كان جميع كل من أتى لتأدية واجب العزاء تحت تأثير الصدمة من جراء ما حدث.. وكان لسان حالهم يسأل سؤالًا واحدًا؛ "أَلم يوجد هناك ولوشيئًا واحدًا يعيش من أجله هذا الشاب الثري؟"

*****

قرأ مدحت هذه الرسالة وكله دهشة.. شاب مرموق وثري ورفيع المقام في مجتمعه يفعل بنفسه هكذا! ظل مدحت يُفكر في مُسببات الاكتئاب والانتحار في المجتمع المصري وعندما يصل تفكيره إلى المهندس شادي الشريف، كان ينتابه الشك في واقعية هذه القصة التي قرأها توًا..

في تمام الساعة السابعة كان لمدحت هذا الحديث مع الأستاذ نشأت:


حوار الليلة الثامنة والعشرون

- مساء الخير يا مدحت..

- مساء الخيرات يا أستاذ نشأت، لقد أثارت قصة اليوم تفكيري يا صديقي..

- إلى أي مدىّ؟

- كيف يُمكن أن تكون هذه القصة واقعية؟ أَيُمكن أن يحدث هذا؟ ما الذي يحتاجه هذا الشاب ويُمكن أن يتسبب في انتحاره؟

- ربما هذا الأمر نادر الحدوث في مجتمعنا المصري لأسباب دينية واقتصادية، لكنه مُنتشر في أغنى الدول قاطبةً حيث إرتفاع مستوى المعيشة لأعلى مستوياته.. وقد نَظَّرَ عالم النفس الأمريكي إبراهام ماسلو عام 1943، نظريته التي ترسم هرم الحاجات البشرية وأقترح فيها أن الحاجات البشرية تتدرج في هذا التسلسل الهرمي:

1. الحاجات الأساسية من الحياة من طعام وشراب ومسكن وجنس ودفء...،

2. الحاجة إلى الأمان والإنتماء إلى وطن أو عقيدة أو أسرة...،


3. الحاجة إلى الحب، سواء حب جنسي أو غير جنسي بين الأصدقاء،

4. الحاجة إلى الثقافة والإنجاز وتقدير الذات،


5. الحاجة إلى التذوق الجمالي،

6. الحاجة إلى تحقيق الذات.



فنجد الجائع الذي لا يجد حاجاته الأساسية في الحياة من مأكل وملبس وجنس، يتخذ من العقيدة أو الحب أو الثقافة أو التذوق الجمالي الظاهري وسيلة وليس غاية لتحقيق حاجاته الأساسية التي حُرم منها! لا يمكن لمثل هذا الإنسان أن يفهم معنى الحب بشكله الصحيح والصحي لأنه لم يشبع حاجاته الأولية أو حاجته للأمن والاستقرار والإنتماء أساسًا.. فمن أين يأتي له هذا الشعور بالحب.. من أين ستأتي له الحاجة إلى الثقافة والإنجاز.. من أين ستنمو قدرته على التذوق الجمالي أو الأدبي.. من أين ستنمو لديه الحاجة إلى تحقيق الذات؟ وإذا تصادف مرور هذا الشخص المحروم بهذه المفاهيم.. فهو ينتهزها كوسائل وليس غايات لإشباع حاجاته الأولية للأكل والسكن والجنس.. لا غير!


وقدرات هؤلاء الناس على الإنتماء وخاصة الإنتماء العقيدي الديني محدودة.. وحضورهم دور العبادة أو وصولهم لأعلى درجات التدين التي ربما تصل للتفرغ للخدمة الدينية ليست إشباعًا لحاجة روحية بقدر ما هي وسيلة انتهازية لإشباع الحاجة إلى الكسب والتربح لتسديد الحاجات الأولية من المأكل والزواج والمسكن والأمان!


ولكن من وصل لقمة هذا الهرم في إشباعه لحاجاته المختلفة في بداية حياته، لن يجد هدفًا أخر يعيش من أجله، لذا يرتكب الإنتحار!

- وكيف يكون لهؤلاء أي رجاء في الحياة بعد تحقيقهم كل ما يُمكن أن يبتغيه إنسان في حياته؟

- أولًا، يا مدحت، ينبغي أن يتمتع هؤلاء بوازع ديني يؤمنون به- وليس مرغمون عليه- يمنعهم من قتل أنفسهم. ثم يجب أن يُفكروا بطريقة مختلفة.. فهؤلاء الذين لديهم فلسفة وحيدة، أو طريق واحد، يسيرون وفقها مسيرة حياتهم، غالبًا لا يدرون أين يتجهون حينما يصلون إلى نهاية الطريق، أو إلى أقصى ما يُمكنهم فعله في هذا الإتجاه..

يجب أن يعي هؤلاء أنهم في مفترق طرق.. فيمكنهم الرجوع عن أي طريق يسيرون فيه في أي وقت، ولهم في ذلك أسبابهم الخاصة أيّ كانت، ثم يسيرون في أي طريق أخر يحبونه..

يجب أن يُدركوا أنهم عاشوا فقط سيناريو واحد ممكن من الحياة المليئة من السيناريوهات المُحتملة التي يمكن لهم أن يعيشوا فيها.. ولذلك عند الانتهاء من سيناريو من حياتهم يمكنهم البدأ في أخر مع تغيير ما يلزم من عمل أو مسكن أو حبيب.. حتى يصلوا لمُبتغاهم! وربما يَقنع البعض بسيناريو ما من المعنى الذي خلقه لحياته، وربما نجد البعض طَموح لا يشبع مما يخلقه لنفسه من سيناريوهات المعنى... وربما نجد البعض الأخر يمل سريعًا من حياة خلقها لنفسه وأراد التجديد وليعيش شبابه مرة أخرى وهكذا! ربما يشعروا-أو لا يشعروا- بيأس وإحباطات متتالية! ولكنهم سيشعرون بالحياة.. فمؤشر الحياة لقلب أي مريض يجب أن يتخذ مَنْحَى المنخفضات والمرتفعات.. ولكن إن سار في خط واحد مستقيم فهذا معناه الموت! أو في موضوعنا هنا بداية الموات بسبب شبح العبثية الذي قد يجثو على صدور البعض!

- هذا كلام ربما أسمع عنه لأول مرة يا صديقي نشأت.. فأنا تقريبًا لم أسمع عن شخص وصل لقمة طريقه في الحياة لهذه الدرجة!

- هناك الكثيرون من وصلوا لهذا على الأقل مرة واحدة في حياتهم مما قد يستتبع ذلك يأسًا.. ولقد قيل أن لا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة.. أما أنا فأقول أن الحياة الحقيقية هي التي تلي اليأس وهما (الحياة واليأس) في توالي دائم وهذا التعاقب يرفع مستوى الوعي إلى أعلى سقف ممكن له!

ومتعة أي إناء؛ بل هدفه ومبتغاه في الحياة أن يمتلأ! ولكن ماذا سيحدث إن امتلأ؟ سينعكس هدفه في الحياة من الامتلاء إلى الإفراغ وهكذا دواليك! هذا ينطبق على أي إناء مهما كان نوعه.. فنصيحة وتحذير لا تحاول أن تملأ ذهنك سريعًا بالمعارف والخبرات.. لأنك إن فعلت ستشيخ سريعًا في العقل ( وربما البدن)! ستصبح أحكم الناس ولكنك أقلهم إستمتاعًا بالحياة! فمُبتغى أي إنسان أن يَملأ إناء ذهنه.. ولكن إن إمتلأ لن تجد أي متعة في هذه الحياة إلا في إفراغ هذا الذهن.. أي أن تمنح معارفك وعلمك وحكمتك للأخرين..

فأطل من فترة ومدى ملئ ذهنك بخبرات ومعارف الحياة ولا تستعجل أبدًا.. لأنك إن فعلت وعرفت كل شئ في الحياة فهذا معناه أنك وصلت الى قمة Climax حياتك وبعدها فقط الإنحدار طال زمنه ومداه أو قصر! فهذا سر الشباب الدائم!

- إن العطاء والتطوع يا نشأت لمساعدة الآخرين، أو الأفراغ كما تدعوه، قد يُعين هؤلاء على التغلب على مشاعر العبثية والاكتئاب..

- نعم يا مدحت، هناك دائمًا رجاء للجميع!

- وماذا عن قصة الغد يا صديقي؟

- ستكون عن فتاة منطوية لا تخرج إلا نادرًا من بيتها وليس لها أي علاقات اجتماعية لها مع بني جنسها ولا مع الجنس الأخر..

- لا تنسى يا أستاذ نشأت أن غدًا يوم الجمعة ميعاد زيارتك الرابعة لنا..

- لا لم أنسى ولكن لديّ فكرة أخرى لهذا اللقاء الرابع؛ ما رأيك أن أعزمك أنت وزوجتك والصغير باسم يوم الأحد القادم بعد أن ننتهي من حوارات الثلاثين يومًا في أحد الفنادق لنتناول العشاء هناك؟!

- ستكون هذه فرصة رائعة يا صديقي.. إنك تتعب من أجلنا كثيرًا.. فشكرًا لك.. وسأخبر زوجتي بالأمر وستفرح بذلك بالتأكيد.

- إلى اللقاء غدًا يا مدحت..

- عمت مساءً يا صديقي وليلة سعيدة لك..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحدي اللهجة السودانية والسعودية مع اوسا وفهد سال ??????????


.. جديد.. رغدة تتحدث عن علاقتها برضا الوهابي ????




.. الصفدي: لن نكون ساحة للصراع بين إيران وإسرائيل.. لماذا الإصر


.. فرصة أخيرة قبل اجتياح رفح.. إسرائيل تبلغ مصر حول صفقة مع حما




.. لبنان..سباق بين التهدئة والتصعيد ووزير الخارجية الفرنسي يبحث