الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور البنية الاقتصادية في تحديد التخصص والتقسيم الدولي الجديد للعمل

محمد شعباني
باحث دكتوراه في الاقتصاد السياسي والعلاقات الاقتصادية الدولية

(Mohammad Shabani)

2023 / 5 / 13
الادارة و الاقتصاد


حتى منتصف القرن العشرين كان التقسيم والتخصص الدولي للعمل يتركز في تبادلات المواد الخام الطبيعية من دول العالم الثالث مقابل البضائع المصنعة من دول المراكز الرأسمالية، إلا أن علاقة التبادل هذه قد طرأ عليها الكثير من التغير بسبب عدد من التحولات أهمها زيادة عولمة رأس المال، وتطور/تخلف البنى الاقتصادية لدول العالم الثالث، وأخيراً بفعل ميكانيزمات التكيف الرأسمالي. نسعى في هذه المادة إلى تقديم لمحة عن التقسيم والتخصص الدولي الجديد للعمل، وذلك على ضوء اطروحة سمير أمين في تحديد خصائص البنية الاقتصادية للدول المتخلفة والبنية الاقتصادية للدول النامية (المتقدمة)
حدد سمير أمين ثلاثة معايير لتصنيف البنية الاقتصادية المتخلفة والبنية الاقتصادية للدولة المتقدمة (1) التي تتمثَّل في مستوى التباين في إنتاجية القطاعات الاقتصادية، ودرجة تماسك البنية الاقتصادية، ودرجة الاعتمادية على الخارج. وبناءً على هذه المعايير وعلى ضوء اطروحة سمير أمين يمكن ان نحدد خصائص تلك البنيتين إلى جانب تقديم خصائص البنية الاقتصادية لما بات يعرف بالدول الصاعدة.
أولاً: الخصائص الاقتصادية للبنية الاقتصادية للدول المتخلفة:
1-تفاوت الإنتاجية في القطاعات الاقتصادية: تتسم الاقتصاديات المتخلفة بتفاوت كبير في إنتاجية القطاعات الاقتصادية، ففي حين يشكل سكان الريف ما بين ثلثي وأربعة أخماس العدد الإجمالي للسكان حسب الأقاليم والبلدان، فإنَّ الإنتاج الزراعي غالباً لا يتجاوز خُمس إجمالي الإنتاج المحلي، وهو قطاع ينتمي بقسم كبير منه إلى مرحلة الاقتصاد الطبيعي (المعيشي الساعي إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي) حيث يذهب جزء من الإنتاج الزراعي للاستهلاك الذاتي دون أن يدخل في حركة التبادل السلعي، في الوقت الذي تكون الإنتاجية مرتفعةً في الفروع الإنتاجية الاستخراجية والتي يشتغل بها عددٌ قليلٌ نسبياً من العمال بالنسبة إلى إجمالي أعداد القوى العاملة، في وقت تستحوذ فيه الصناعات الاستخراجية على الحصة الأهم من إجمالي الإنتاج المحلي.
2-تفكك البنية الاقتصادية: تظهر القطاعات الاقتصادية في الدول المتخلفة على أنَّها قطاعات متراصفة، غير متكاملة، فتكون حركة التبادل بين القطاعات غير ذات أهمية، فالثروات المنجمية التي تُستخرج ليست معدة لكي تغذي الصناعات المحلية بل إنَّ جزءاً يسيراً منها يذهب للاستهلاك النهائي في توليد الطاقة والنقل بينما يصدر القسم الآخر خاماً في معظمه، ويُعاد استيراده بعد معالجته، كذلك النشاط الزراعي المتخلف تقنيا والذي يستهلك خاماً ويصدر قسم منه ولا يرفد إلا على سبيل هامشي الصناعات المحلية الخفيفة ولأنه إنتاجٌ زراعيٌّ ضعيف التحديثِ فهو لا يعتمد على المخرجات الصناعية من أسمدة ومعدات وآليات زراعية، أي لا يرتبط إلا على سبيلٍ هامشي في الصناعة المحلية، أمَّا الصناعات المحلية فهي الأخرى تعتمد بشدة على استخدام المعدات والتجهيزات والمواد نصف المصنعة من الخارج، وهكذا الأمر بالنسبة لقطاع الخدمات كالنقل، والتجارة، والخدمات المصرفية..باختصار أنَّ البنية الاقتصادية للدول المتخلفة تفتقر لمفاعيل تكاملية فيما بينها، مما يضعف عامل الترابط السببي بين مختلف القطاعات التي يصعب معها وضع نموذج المدخلات- المخرجات في رسم السياسات الاقتصادية العامة.
3-الاعتمادية على الخارج: تتسم البنية الاقتصادية المتخلفة بالاعتمادية على الخارج فالقطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية تعتمد على صادراتها إلى الخارج فتتحد بطبيعة ونوعية الإنتاج على أساس الأسواق الخارجية لا على أساس تلبية احتياجات السوق المحلية وينتج عن ذلك اتساع حركة الاستيراد لغرض تلبية الاحتياجات الأساسية بما فيها الزراعية فتظل أسعار تلك المنتجات متعلقة بتقلباتها على المستوى العالمي، والأمر مماثل في قطاع الخدمات حيث تقوم الخدمات في السياحة والنقل والمصارف بالاعتماد على المستهلك الخارجي، ولا تقف الاعتمادية على مستوى التبادلات التجارية السلعية والخدمية بل تمتد إلى القروض والاستثمارات والمساعدات الخارجية.
ولا يقتصر الأمر على حجم معدلات التبعية الاقتصادية بل على نوعية التبادلات الاقتصادية، فمعظم الدول المتخلفة تحافظ على تخصصها الدولي منذ استقلالها، أي تصدير المنتجات المنجمية والزراعية الخام وفي بعض الأحيان الصناعية الخفيفة لاسيما المنسوجات، واستيراد السلع الغذائية الأساسية والمنتجات الصناعية وعالية التقنية. كما يترافق ذلك مع انخفاض القدرة على الاستيراد، فكميات المنتجات المصدرة من الدول المتخلفة أصبحت تساوي أقل من حجم المنتجات المستوردة من الدول الصناعية.
ثانياً الخصائص الاقتصادية للدول المتقدمة
1-بنية اقتصادية تكاملية: تتشكل البنى الاقتصادية في المراكز الرأسمالية (أوروبا، اليابان، الولايات المتحدة الأمريكية) من قطاعات اقتصادية مترابطة، كحلقات متكاملة في ما بينها، بحيث يمكن صياغة جدول المخرجات- المدخلات لتحليل الترابطات القطاعية من جهة والتنبؤ بمستقبل التشابكات الاقتصادية من جهة أخرى، فالصناعات الاستخراجية والطاقية توفر للصناعات الثقيلة وعالية التقنية موادها الأولية الأساسية، والتي توفر وسائل الإنتاج والمعدات والتجهيزات والمواد نصف المصنعة للصناعات الخفيفة والإنتاج الزراعي الخفيف، لتكتمل الحلقة عبر القطاعات الخدمية المختلفة في التجارة والتسويق والائتمان.
2-تقارب مستويات الإنتاجية: تتميز البنى الاقتصادية في الدول الصناعية المتقدمة بمستوى عالٍ من التقارب في الإنتاجية بين مختلف قطاعاتها الاقتصادية، أي إنَّ متوسط إنتاجية الفرد الواحد وكذلك مستوى الأجور ومتوسط التقانة المستخدمة في القطاعات الاقتصادية المختلفة تكاد تكون متساوية نسبياً في كل القطاعات، كما في الولايات المتحدة واليابان.
الاعتمادية على الخارج: تنخفض مستويات الاعتمادية على الخارج من حيث إمكانية توفير الأمن الغذائي ومستلزمات العمل الصناعي والزراعي والائتماني في الدول الصناعية، إلا إنَّ ذلك لا يعني انعدام حالة الاعتمادية فالأسواق العالمية مترابطة بشدة وأي أزمة اقتصادية تصيب الدول الصناعية الكبرى تؤثر في مجمل الأوضاع الاقتصادية العالمية، كما أنَّ الإنتاج الكثيف يعتمد على وجود أسواق دولية تستوعب هذا الإنتاج، وهي بالتالي تعتمد على الخارج، لكن الاعتمادية في الدول المتخلفة، وبمستوى أقل الدول الناشئة أعلى بكثير فهي كما أشرنا سابقاً أكثر ارتباطاً بالسوق العالمية، فهي بحالة تبعية متصاعدة لتلك السوق. أمَّا اعتمادية الدول المتقدمة فتكون مرتبطة بمنتجات لا يمكن توفرها في تلك الدول مثل المنتجات الزراعية التي لا يمكن انتاجها إلا في ظروف طبيعية خاصة كالبن والشاي التي تنتج بشكل حصري في الدول التي تقع في المدرات المناخية الاستوائية، أو كما في المواد الخام الطاقية كالنفط والغاز الطبيعي والفوسفات وغيرها. إذن هي نتيجة موضوعية تفرضها الجغرافية الطبيعية.
ثالثًا: الخصائص الاقتصادية للدول الصناعية الناشئة
مع منتصف الثمانينات بدأت تظهر ملامح تقسيم دولي جديد للعمل كأحد تداعيات الثورة العلمية التقنية وما يعرف بالموجة الرابعة لانتشار التصنيع على المستوى العالمي، حيث انصب تركيز عدد كبير من الاقتصاديين والمؤسسات الدولية على تجارب الدول التي حققت معدلات مرتفعة من النمو وقفزات سريعة في حجم الاستثمارات الأجنبية ومؤشرات التجارة الخارجية، ومثال ذلك مجموعة الدول الآسيوية التي عرفت باسم "الجيل الثالث للنمور الآسيوية" وهي تايوان وهونغ كونغ وسنغافورة وكوريا الجنوبية، ولاحقاً ووفقاً لمعايير تصنيفات مختلفة أخرى شملت مجموعة دول الاقتصاديات الناشئة كل من قطر والمغرب والأردن ومصر، وتشيكيا، وهنغاريا، والصين والهند وماليزيا، والبرازيل، وكولومبيا، وتشلي، والبيرو والمكسيك، وفي تموز من عام 2019 أُلحِقَت الكويت ضمن هذا التصنيف(2) .
وعلى خلاف التصنيف السابق الذي يشمل دولاً ذات اقتصاد ريعي متخلف، كما تم اعتبار كل من كوريا الجنوبية وتركيا والصين والبرازيل من الدول الناشئة/ الصاعدة إلا إنَّ هذه الدول نفسها ليست متساوية من حيث المعايير السابقة، فالصين تمتلك خصوصية فريدة، فالاقتصاد الصيني أكثر تمركزاً على الذات من الدول المذكورة أعلاه، عبر نموذج الخطط الخمسية، وتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي من حيث توجيه القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية وفقا لخططها، فالصين ليست مجرد مصنع كبير للدول الصناعية المتقدمة يستغل فيه انخفاض الأجور، وانخفاض المعايير المتعلقة بالبيئة، واتساع سوق التصريف، باختصار كل الدوافع التي تفعل عملية انتقال رؤوس الأموال إلى الدول الطرفية من الاقتصاديات الرأسمالية المركزية، بل إن الاستثمارات الأجنبية التي نشطت في الصين جاءت لأنَّ المشروع الاقتصادي في الصين حقق نجاحات كبيرة ولم تكن استثمارات في الثروات الطبيعية، كما أنَّ الاقتصاد الصيني غير مرتبط بالأسواق الائتمانية. فنظامها المصرفي وطني بالكامل ويركز على سوق الائتمان الداخلية، ولا يزال اليوان مسألة تخص صناعة القرار الصيني المستقل، وهو ليس خاضعاً للتقلبات الشديدة المرتبطة بالعولمة المالية(3) .
وبالعودة إلى المعايير السابقة، نجد أنَّ الاقتصاديات الصاعدة تتميز بمساهمة كبيرة للقطاع الصناعي في إجمالي الناتج القومي تصل في الصين إلى 47% أمَّا في تركيا فتصل إلى 30% وفي كوريا الجنوبية 37% وفي البرازيل إلى 28%، ماليزيا 46% (4)، فالمنتجات الصناعية تشكل معظم الصادرات، أمَّا عن مستورداتها فتتركز على مستلزمات الإنتاج من مواد خام تأتي من الدول الريعية والمتخلفة، ومواد عالية التقنية من تجهيزات ومعدات تستخدمها الدول الصاعدة في العملية الصناعية ويكون مصدرها الدول الصناعية المتقدمة. كما تظهر الإنتاجية بين القطاعات أقل تفاوتاً عما هو في الدول المتخلفة، لكنها لم تصل بعد إلى تلك الموجودة في الدول الصناعية المتقدمة، يُضَاف إلى ذلك أنَّ معدلات الفقر في معظم الدول المذكورة باتجاه الانخفاض، كذلك يلاحظ الميل العام للارتفاع في مستويات التعليم والصحة كمياً ونوعياً.
التخصص والتقسيم الدولي الجديد للعمل
بناء على ما سبق يمكن تحديد مواقع الدول في التخصص والتقسيم الدولي للعمل، بالآتي:
الدول الصناعية المتقدمة (المراكز الرأسمالية): تختص هذه الدول في انتاج وتصدير المنتجات عالية التقنية والمبتكرة، ليصار إلى تصنيعها في الدول الصناعية الناشئة. هذا إلى جانب حفاظها على احتكار تصنيع وسائل الانتاج خاصة للمنتجات عالية التقنية، وحفاظها على انتاج عدد من الصناعات الثقيلة، والمحاصيل الزراعية الرئيسية التي ارتفعت حصتها منا من إجمالي الانتاج العالمي منذ منتصف القرن العشرين، سيما الحبوب، وذلك عملا منها بمبدأ السيادة على الغذاء.
الدول الصناعية الناشئة: تختص في انتاج وتصدير السلع الاستهلاكية ومنتجات الصناعات الخفيفة، كما بات لديها حصة وازنة في الصناعات الثقيلة، إلى جانب محاولتها لتحديث صناعتها وللانتقال لابتكار تقنيات المنتجات بدلاً من استيرادها كما في حالة الصين.
الدول الريعية المتخلفة: يمكن تقسيم هذه الدول إلى فئتين دول ريعية غنية ومستقرة سياسيا مثل دول مجلس التعاون الخليجي، ودول ريعية فقيرة ومضطربة سياسيا مثل نيجيريا وليبيا وغيرهما إلى جانب دول اخرى لديها موارد طبيعية ومنجمية محدوده أو استنزفت في العقود السابقة. وما زال موقع الدول الريعية في التخصص والتقسيم ابدولي للعمل يقع في خانة تصدير المواد الخام إلى جانب نسبة محدودة من السلع الاستهلاكية الخفيفة.
إذا الفارق الرئيسي والنوعي الذي نشأ في ظل تحولات التخصص والتقسيم الدولي للعمل، هو في حالة الدول الصناعية المتقدمة وفي بزوغ دول صناعية ناشئة من بين دول العالم الثالث، فيما زال عدد كبير من دول العالم الثالث تقع في دور المصدر للخامات الطبيعية، وهي حالة لا يمكن أن تستمر لوقت طويل وذلك بسبب ضغوطات كبيرة ومتنوعة يأتي على رأسها استنزاف الموارد الطبيعية واستمرار الدول المتقدمة في ابتكار بدائل صناعية عنها، وانخفاض اسعارها، وكثافة الاستهلاك المحلي منها (حالة النفط والغاز على سبيل المثال)، إلى جانب الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الناجمة عن تخلف بنيتها الاقتصادية.
المراجع:
سمير أمين، التراكم على صعيد عالمي، ترجمة حسن قبيسي، دار ابن خلدون، بيروت، 1973، ص39-46.
Emerging Countries Index, On the following link: https://bit.ly/3p8uRgZ.
SAMIR AMI, FINANCIAL GLOBALIZATION: SHOULD CHINA MOVE IN? May 2018, On the following link: https://bit.ly/3vmrW5p.
World Development Indicators, 2019, On the following link: http://wdi.worldbank.org/table/4.2.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سباق كليبر.. منافسة بين بحارة بولاية واشنطن لجمع تبرعات لمنظ


.. أسعار الذهب اليوم الأربعاء 08 مايو 2024




.. الرئيس الصيني في ضيافة الإيليزيه.. وسط توترات جيوسياسية واق


.. البنك المركزى: ارتفاع احتياطى النقد الأجنبى لـ41 مليار دولار




.. سعر جرام الذهب الآن فى مصر يسجل 3100 جنيه لعيار 21