الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حسين سرمك حسن: حين تلتحم الرؤيا بالرؤية.

وليد الأسطل

2023 / 5 / 15
الادب والفن


كنتُ أعتقدُ أنني – بعد قراءة مجموعة الصديق الشاعر وليد الأسطل مخطوطةً – سوف أكتفي بكتابة “تقريظ” قصير يضم بتركيزٍ وعجالة آرائي في نصوصها شكلا ومضمونا. لكنني لم أستطع الوفاء بذلك لنفسي رغم اني في محنة كتابية موسوعية أبعدتني عن الكتابة النقدية الأدبية منذ سبع سنوات حتى اليوم وقد تستمر لسنوات أخرى.

لقد نصب وليد فخ الاستغواء والاستدراج في صورة مقدّمةٍ جمع فيها مصائد لا فرار من الوقوع فيها. ومن معاني الجذر “غوى” في لغتنا العظيمة المقاوِمة هو التجمع على الشرّ وهو هنا شرٌّ شعري جميل. فوليد ليس شاعراً فقط بل هو ناقد بارع أيضا دفعته براعته إلى صياغة مقدمة/فخ لم أستطع القفز عليه. كانت مقدمته “كلمة بسيطة جدا” زيادة في الإغواء ولكنها “مهمة جدا” خلط بها السمّ النقدي الحاد في العسل الشعري المنعش إمعانا في تغييب انتباه “القارىء العادي” الذي وجّه كلمته إليه في الأساس. فقد أحالنا إلى آراء له ذكرها في بداية ديوانه السابق “لسنا شعراء.. إنّه الحُبّ” تقول إن قصيدة النثر فن “لامعياري” –بلا ضوابط- وهو ما يجعل – كما يقول- تعريف الناقدة الفرنسية الرائدة في هذا المجال “سوزان برنار” لقصيدة النثر تعريفا كلاسيكيا.
تعريف سوزان برنار لقصيدة النثر في كتابها “فصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا” هو أنها: «قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور…خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية” .
وكنتُ ومازلتُ أقول دائما إنّ على أي شاعر كي يصبح شاعرا مجيدا أن يجيب – طبعا عبر اشتغاله الشعري الإبداعي النصّي الضروس– على سؤالين:
الأول هو/ سؤال الرؤيا : لماذا أكتب الشعر؟ (الجدوى من الشعر/ فلسفة الشاعر/المضمون)
والثاني هو سؤال الرؤية: كيف أكتب الشعر؟ (التقنية/ الشكل/ النص)
وعادة لا نرى الابتسامة أمام الوجه ولا خلفه بل “في” الوجه.. وبهذا يلتحم الشكل بالمضمون.
وليس شرطا أن يطرح الشاعر الإجابة الأولى في صورة تنظير نقدي كما فعل أدونيس مثلا وهو امتياز حاسم ، ولكن أن يحمل الهم الوجودي الكوني وتلوب في روحه أسئلته الحارقة. أمّا الثاني فهو مرتبط بالشكل الذي قد يعتقد الشاعر أنه “لامعياري” لكن حين تطالع نصوصه بتأمل وعمق تجدها نصوص تخضع لضوابط جديدة لم تعتدها عينك وأذنك لكنها تبقى “ضوابط” مثلما خرج الهايكو العربي على ضوابط الهايكو الياباني، وبرغم مدّ مابعد الحداثة الأدبي الغربي الذي تأثر بأطروحات بيئته الغربية القائمة على “الإباحية المعرفية” إذا ساغ الوصف والتي تخلط الإنسان بالطبيعة فتجعله “جزءا” منها لا سيدا عليها وهو ما يٌسمّى بـ “السيولة” المعرفية وحديثها طويل وشائك.
في سؤال الرؤيا طرح وليد “فكره” و “فلسفته” عن وجود تلتم فيه دفعات الحياة والموت.. الأمل واليأس .. النور والظلام.. النماء والخراب.. العقل والجنون.. بدءاً من نَصّه الذي جاء مصادفة وهو يحمل عنوان: “رؤيا”:
“يتساءَلُ الشَّاعِرُ/ مَنْ أكون؟/ أعرّافٌ أنا/ أم مجنون؟/ آخُذُ مِنْ كلِّ شيءٍ/ سِرَّه/ ثُمَّ أُذِيعُ على المَلإِ/ أمْرَهْ/ أسرِقُ مِنَ الفَرَحِ قِشرَهْ/ وَمِنَ الحُزنِ عُمْقَهْ/ ألمحُ صُوَراً واضِحةً، وغائِمةْ/ كَعَجوزٍ تنظُرُ/ مِنْ نافِذةِ منزِلِها/ ساعَةَ الغروب/ أُحاوِلُ معانَقةَ سِعَةِ المدى/ كشَجَرَةٍ فضحَها الخريف/ فَفَرَدَتْ أغصانَها العارِيةَ”.. (قصيدة “رؤيا”)
هذه الوصفة “الطبّية” الشعرية الوجودية تمتد – وبضوابط – كخيط أزرق سماوي يلظم حبّات مسبحة نصوص المجموعة البيض المشرقة ذات الباطن الكامد. وصفة تقوم على تعريف للشعر أردّده دائما وهو :
“إنّ فنّ الشعرِ هو فنّ تقطيع القلب “
و وليد جرّاح شعري قاسٍ وبتلذّذ .. بارع و بارع جدا في تقطيع القلوب. فمن المرّات القليلة التي أقرأ فيها نَصّاً يمكن وصفه بأنه “ما بعد الخيبة” أو “ما بعد الحزن” ؛ والحزن ضروري للشعر أكثر من الفرح بمراحل. قالها أجدادانا. هذا النص هو: “لا رجوع” الذي سيتكفل بصدم رؤوسنا حيث يبدو للوهلة الأولى أنه يتحدث عن حقائق الاغتراب ؛ الداخلي والخارجي، حتى لو كان المنفى فردوسا إلهيا (لهذا تركه آدم!!)، في حين أنه يتحدث عن الحبيبة التي هجرت ثم شاءت أن تعود، و لكن لا رجوع. اقرأها سيدي القارىء وأعدها عشرات المرات ووزّعها على مسؤوليتي.. نص كبير مكتوب بضوابط الرؤيا والرؤية الحديدية:
“لا رُجُوعَ لَكَ إلى الوَطَنْ/ فَفِي بُعْدِكَ ضاقَ الوَطَنْ/ قَلَّصَتهُ أيّامُ بُعْدِك/ فَعَشِقَ في بُعْدِكَ بُعْدَكَ/ وأبَاحَ لَهُ أن يُؤَثِّثَهُ وِفْقَ ذَوقِهْ/ فَأَثَّثَهُ بِذاكرَةٍ/ لا وُجُودَ لَكَ في مُكَوِّنَاتِهَا/ فَأَصبَحَ يَنظُرُ إِلَيكَ/ بِعَيْنَيْنِ مُحَايِدَتَيْن/ عَلَّمهُ أن يَراكَ فلا يُبَالِي/علّمه أن لا يغالي/ و أعاد له عرشه المسلوب/فَلَيسَ لِأَعدائِهِ مِنهُ اليَوم/
أكثر منَ النّظَرِ إلَيهِ/خَارجَ الحدود/وَ ليسَ لِمُحِبِّيهِ/غير السّباحةِ على شاطئِه/غير الزّيارةِ ثُمّ الرّحيل/ لقد أصبح وطناً / يَستَوطِنُ ذاتَه، لا ثغرَةَ في دفاعاتِه/ صَدِّقنِي لا مكانَ لكَ / في هذا الوَطَنْ/ قَلبِي القديم كان لَكَ الوَطنْ”
الشعر المُفرح خدعة.. “مكسّرات” شعرية.. لا تعلق في ذهنك أغلب هايكوات “باشو” الياباني المحتفية –طبعا انعكاسا لمقررات فلسفة الزن عن الكون والحياة- بالطبيعة والأمل. لكن تتأجج الاستجابة يقول:
” قمرٌ رائع/ أخيرًا جاءت، والحمد لله/ الغيوم السوداء/ كي تريح أعناقنا”
الموت هو الحي الذي لا يموت وهو أعظم مبدع للمعلقات والملاحم منذ الأزل إلى الأبد. وهو ما أدركه وليد منذ “رؤيا” ه.. وطرق عليه حتى النهاية .. وكل ذلك لأنّ فنّه مرتبط بنا وبأقسى وأحرّ همومنا المهلكة وليس فنّاً خالصاً لوجه الشعر أو اللعب الجمالي بالكلمات على أهميته:
“أَذُلٌّ بَعدَ عِزّ؟!/ بعدَ المَطَر/ تَتَأَمَّلُ بِرَكُ الماءِ السَّمَاءَ”
“الحُزن/ مَوسِمُ نُضجِ/ الدُّمُوع”
“من دُونِ سُمٍّ/ لَدَغَاتُهَا تَقُودُ إلى المَوت/ عَقَارِبُ السّاعَة!!”
قد تكون “الكلمات –كلمات وليد- وحدها التي تفهمه” ، وهذا ديدن الشاعر ودينه إلى أن يأتي الناقد اللعين ليفسد كل شيء، ولكن كلمات وليد أحيت فينا ولو بمقدار مجموعة شعرية وهذا ليس بالقليل إحساسنا بضرورة الانهمام بالكوني الجوهري الحقيقي العاصف والتعالي على اليومي الجزئي الصدئ.. لقد التحم لديه أطروحة الرؤيا بطباق الرؤية لتنتج –إذا جاز استعارة الجدل الهيغلي- “تركيباً” سيؤسّس مستقبلا بصمة روحه الشعرية الخاصة الباهرة. . فتحية له..

الدكتور حسين سرمك حسن.
بغداد المحروسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب