الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السادس عشر من أيار: الحق في السلام بين الأيديولوجيا والثقافة الحقوقية

سعيد هادف
(Said Hadef)

2023 / 5 / 16
الارهاب, الحرب والسلام


كان لي عام 2019، في خضم الحراك الشعبي السلمي، شرف تأطير مداخلة تحت عنوان "الحق في السلام بين الأيديولوجيا والثقافة الحقوقية"، تم تنظيمها في إطار برنامج الاحتفال بالذكرى الثانية لليوم العالمي «العيش معا في سلام»، والبرنامج أشرف على تنظيمه تكتل جمعوي من وهران طيلة الأيام الممتدة من 1 إلى 16 ماي. وقد أطر هذه الندوة التي نظمتها جمعية الجزائريات المدافعات عن حقوقهن (فارض)، كل من الفاعل الجمعوي وأستاذ العلوم القانونية، الراحل مسعود بابادجي، وأستاذ الفلسفة الدكتور منير بهادي والأستاذ سعيد هادف وتنشيط الدكتورة فاطمة بوفنيق.

السلام: المعنى والمفهوم ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
السلام هو حالة الهدوء والسكينة التي ينشدها أو يستمتع بها الفرد والمجتمع: الفرد في علاقته بنفسه و/أو في علاقته بمحيطه الاجتماعي والمجتمع في علاقته بمكوناته و/أو في علاقته بمحيطه الإقليمي والعالمي. وحالة السلم هي الحالة التي تخلو من الحرب وأعمال العنف. ولأن الكائن البشري يسعى إلى توفير شروط السعادة، يجد نفسه أمام إكراهات ذاتية/نفسية كما يجد نفسه أمام إكراهات اجتماعية؛ فهل وجوده في مجتمع تسوده ثقافة اللاعنف والحوار والتضامن يضمن له السلام الداخلي؟ هل كل فرد في مجتمع كهذا يكون قادرا على الاستمتاع بحياة سعيدة والعيش في سلام مع ذاته؟ ثمة علاقة جدلية بين الفرد ومحيطه الاجتماعي، ومثلما يحتاج المجتمع إلى تدبير نسيجه الاجتماعي من أجل أن يعيش في سلام، فكذلك الفرد يحتاج إلى جهد ذاتي في سبيل أن يحقق حالة الطمأنينة الباطنية مع ذاته. لقد حاولت الفلسفة أن تنير الطريق إلى السعادة. ولعل الفلسفتين الأبيقورية والرواقية، نهاية القرن الرابع قبل المسيح، كان لهما اهتمام بالإكراهات التي من شأنها أن تحرم الإنسان من مشاعر البهجة والسعادة من منطلق أن الإنسان يفقد حالة السكينة تحت وطأة الشعور بالخوف والألم، وبسبب عجزه عن التحرر من تلك المشاعر التي تنغص حياته، ولاسيما المشاعر الغامضة الناجمة عن الثقافة السائدة المثقلة بالأيديولوجيا والمفتقرة إلى منابع الجمال والحق والخير.
على المستوى السوسيولوجي يعني السلام حالة التفاهم بين أفراد المجتمع. التعايش السلمي بين مكونات المجتمع أو بين المواطنين لا يعني بالضرورة تطابق وجهات النظر حول مختلف الأمور والقضايا التي تهم المواطنين، كما لا يعني غياب الخلاف والاختلاف بقدر ما يعني نسقيا التدبير العقلاني والهادئ للخلافات والإكراهات الناجمة عن حياة الجماعة، عن طريق الحوار بشكل خاص.في هذا المنحى، ظل السلام بين الأمم غاية عدد من الأشخاص والمنظمات على غرار منظمة الأمم المتحدة التي جعلت السلام من أولوياتها.
إن التمفصل بين السلام وأضداده: الحرب، الصراع، العنف... يشكل أحد المفاتيح الأساسية في فهم عدد من المذاهب: الدينية أو السياسية. مفتاح أساسي يحتاج إلى توضيح. ومما يتبين من التاريخ جنوح الغالبية الى صنع السلام ومحاولة إحلاله كحالة طبيعية وعادية يجب أن تستمر في مسار التطور والنماء الإنساني، منافية بذلك للحرب والعنف كحالة شاذة ومعاكسة للحالة الطبيعية وهي السلام، الأمر الذي لا يتماشى مع الازدهار والرقي الإنساني.
يمثل حكم القانون في المجتمعات المتحضرة أحد أهم العوامل الرئيسية لتحقيق السلم الاجتماعي من خلال تحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين مختلف الجماعات والأفراد، ويعني حكم القانون أن الناس متساوون بغض النظر عن الاختلاف في الجنس أو الدين أو اللون أو العرق، وبغض النظر عن الموقع الاجتماعي او النفوذ السياسي. كما يتحقق السلم الاجتماعي من خلال إعلاء صوت العقل وسيادة الحكمة، واحترام الاختلاف وتعزيز العيش المشترك، والإقرار بالتنوع الذي يصون حريات الإنسان وحقوقه.
يعد السلام في مقدمة القيم الإنسانية العظيمة، وهناك العديد من الأقوال المأثورة والمتواترة في هذا الشأن، والتي شاعت في أعمال وأقوال الفلاسفة والشعراء والأدباء والباحثين على مر العصور، تمجد جميعها السلام وتجعل منه قيمة أساسية عليا ومحورية في حياة الشعوب والأمم، وحين يغيب السلم الاجتماعي في أي مجتمع تغيب معه الحقوق الأخرى. لا توجد أي مبررات منطقية تدفع في اتجاه العنف بدل الحوار والحرب بدل السلام.
- السلام، يوتوبيا؟ يتساءل كلود فابر (في كتابه معاً من أجل السلام، 2006)، يتعلق الأمر بنقاش حقيقي لدى المتخصصين أو الفلاسفة. البعض تساءل عن الخاصية اليوتوبية للسلام (اليوتوبيا تعني أي مشروع لمجتمع مثالي وفاضل)، بالنظر إلى أن السلام الكامل (الجماعي والفردي) ليس أبدًاممكنا.
- العيش في سلام مع النفس؟ هل يعاني الناس من الضغوط والتوترات؟ بالتأكيد. لكن العيش في عالم يسوده السلام لا يضمن العيش في سلام مع الذات، وقد يفشل الأفراد في التخلص من التوترات التي يعانون منها، فإن السكينة التي تسود العالم ستساعدعلى استرضاء غالبية الناس. وهذا هو التقدم.

تاريخ السلام في مظهره السياسي: من الإسكندر المقدوني إلى منظمة الأمم المتحدة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يمثل السلام اليوم مقصدا من المقاصد الكبرى التي يناضل من أجلها دعاة السلام، نساء ورجالا، من مفكرين وفنانين وأدباء وحقوقيين وأيكولوجيين، فضلا عن كونه من القضايا الأممية الأساسية جنبا إلى جنب مع قضايا الهجرة والتنمية والصحة والبيئة.
وكان السلام هاجس البشرية منذ القدم حيث لم يتوقف المؤمنون به عن نضالاتهم الرامية إلى نبذ العنف والحروب بحثا عن الشروط المؤسسة للتعايش السلمي والعلاقات القائمة على الحوار والوئام والتعاون والتضامن. ويسجل التاريخ تلك المساعي ذات النزوع السلمي محليا داخل الجماعة البشرية الواحدة أو إقليميا بين الجماعات البشرية والكيانات السياسية المتجاورة. ولعل أبرز مشروع أممي سجله التاريخ في هذا المنحى هو مشروع الوئام الذي سعى من ورائه الإسكندر الأكبر إلى إعادة بناء فضاء الحضارات القديمة كفضاء جيوسياسي خال من النزاعات والحروب. حدث ذلك في القرن الرابع قبل المسيح وكان هذا الفضاء يشمل أقاليم شاسعة من العالم القديم (غرب أوروبا وشرق آسيا وشمال أفريقيا)، وكان يمتد من مقدونيا غربا إلى حدود الهند شرقا ومن آسيا الصغرى شمالا إلى مصر جنوبا. مشروع الوئام جاء في غمار الحرب الفارسية الإغريقية وكما استند على الحوار والنقاش، اتخذ من القوة العسكرية وسيلة للقضاء على القوى المقاومة لهذا المشروع. بل حتى الفريق الذي رافق الإسكندر عاش حالة من التصدع جراء تضارب وجهات النظر. لقد حاول الإسكندر أن يؤسس لنظام عالمي قائم على تعايش الثقافات والأمم، وهي المرحلة التي اشتهرت بعد موته بالهيلنستية وقد دامت ثلاثة قرون إلى غاية نشوء الإمبراطورية الرومانية. ذلك الفضاء الجيوسياسي الذي حاول الإسكندر إعادة تشكيله على أسس سلمية، ظل إلى اليوم فضاء للحروب الهمجية، ولم ينجح في تلمس طريقه إلى التعايش السلمي.
من نافل القول أن أسرد كرونولوجيا المحطات الأممية التي تأسس في سياقها مفهوم السلام وأصبح مطلبا أمميا. ولاسيما التحولات التي عرفها العالم بعد الحرب العالمية الأولى. وبعد الحرب العالمية الثانية نشأت الأمم المتحدة بأهداف ومبادئ تسعى بصورة خاصة إلى إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحرب. وكان أحد هذه الأهداف هو بناء تعاون أممي لحل المسائل الأممية ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإنساني، وتعزيز احترام حقوق الانسان والحريات الأساسية للناس جميعًا دون أي تمييز سواء كان عرقيا أو جنسانيا أو دينيا أو لسانيا.
وكان السلام بين الأمم هو المهمة التي تأسست من أجلها منظمة الأمم المتحدة عام 1945. وكانت عدة منظمات قد تأسست قبلها، بدء بالاتحاد ما بين البرلمانات عام 1889، ثم المكتب الأممي للسلام عام 1891، ثم المحكمة الأممية بلاهاي عام 1899، ثم المنظمة الأممية للعمل عام 1919، ثم مجتمع الأمم عام 1919. وعلى رأس المقاصد التي تأسس في سبيلها الاتحاد الأوروبي هو السلام العالمي كما نص إعلان 9 مايو 1950.

تاريخ مفهوم ثقافة السلام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أصبح إرساء ثقافة السلام والتنمية المستدامة في جوهر اهتمامات اليونسكو. ويندرج التدريب والبحث في مجال التنمية المستدامة ضمن أولويات المنظمة، فضلا عن التعليم في مجال حقوق الإنسان، والمهارات من أجل إقامة علاقات سلمية، والحكومة الجيدة، وإحياء ذكرى ضحايا الإبادات، ومنع النزاعات وبناء السلام.
وما فتئت اليونسكو تُعزِّز، منذ عام 1945، الحق في نوعية التعليم وتطوير العلوم وتطبيقاتها لتطوير المعرفة والقدرة على التقدّم الاقتصادي والاجتماعي الذي يشكل أساسا للسلام والتنمية المستدامة.
ويُعزَّز التعاون الأممي من خلال البرامج المتصلة بإدارة المواقع العابرة للحدود مثل مواقع التراث العالمي، ومعازل المحيط الحيوي والحدائق الجيولوجية، وموارد المياه العابرة للحدود، فضلا عن برامج المياه من أجل السلام مثل البرنامج بعنوان «ﻣﻦ اﺣﺘﻤﺎﻻت اﻟﻨﺰاع إلى اﻣﻜﺎﻧﻴﺎت اﻟﺘﻌﺎون» (PCCP). وتتولى اليونسكو قيادة العام الأممي للأمم المتحدة للتعاون في مجال المياه 2013، لتعزيز تعاون أعمق بهدف مواجهة الطلب المتزايد للحصول على المياه والمخصصات والخدمات.
وتهدف مشاريع أممية عدة نشأت تحت رعاية اليونسكو إلى تعزيز التضامن والسلام في الشرق الأوسط من خلال التعاون العلمي. وتشمل هذه المشاريع أحد مرافق البحث الأكثر طموحا في الشرق الأوسط، المعروف باسم المركز الأممي لاستخدام أشعة السنكروترون في مجال العلوم التجريبية وتطبيقاتها في الشرق الوسط. كما ركّزت المنظمة عملها في مجال العلوم على مسائل ذات أهمية عالمية تفرض تعاونا أمميا متعدد القوميات في مجالات مثل إدارة موارد المياه العذبة، وصحة المحيطات، وتغيّر المناخ، والطاقة المتجددة، والحد من الكوارث الطبيعية، ونقص التنوع البيولوجي، وبناء القدرات في مجال العلوم، والتكنولوجيا، والابتكار.
وتُعتَبر معرفة الحقوق والحريات أداة أساسية لضمان احترام حقوق الجميع. ويُوجِّه البرنامج العالمي للتثقيف في مجال حقوق الإنسان عمل اليونسكو المتصل بالتثقيف في مجال حقوق الإنسان.
وقد عبرت اليونسكو عن قلقها بشأن ارتفاع معدل العنصرية، وكره الأجانب والتعصّب، وما فتئت تؤكد أنّ التعليم ضروري لتعزيز أسس التسامح والحدّ من التمييز والعنف. وتنامى هذا المفهوم في سياق تحرر البلدان الغربية من البراديغما المسيحية وتأسيس سياساتها على البراديغما العلمانية. فلماذا تجاهلت حكومات البلدان العربية هذه التوجهات الكونية وبقيت حبيسة البراديغما القديمة؟ وكيف فشلت النخب في بلورة ثقافة حقوقية في مجتمعاتها لا تتصادم مع البراديغما الكونية؟
«ثقافة السلام هي مجموعة من القيم والمواقف والسلوكيات وأساليب الحياة التيترفض العنف وتمنع الصراعات انطلاقا من معالجة جذورها من خلال الحوار والتفاوض بين الأفراد والجماعات والدول».
عام 1981، أقرت الأمم المتحدة 21 سبتمبر يوما عالميا للسلام. تم الاحتفال بأوّل يوم للسلام عام 1982.
إن عبارة «ثقافة السلام» حديثة الاستعمال. «شاعت» بعد التحولات الجيوسياسية الرئيسية التي أدت إلى سقوط الاتحاد السوفيتي. وكان أول ظهور لها حين تناولتها اليونسكو يوم 26 جوان 1989: أثناء اجتماع في ياموسوكرو. وقد تطورت بشكل خاص مع مطلع القرن الواحد والعشرين في أمريكا اللاتينية. وهذه العبارة استعادت مفهوم السلام في صميم أولوياته، ولا سيما الاحترام المطلق لحقوق الإنسان.
في 31 يناير 1992، عرض الأمين العام للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي في أجندته حول السلام، أربعة مستويات من التدخل للحد من العنف: الدبلوماسية الوقائية وصنع السلام وحفظ السلام وتوطيد السلام.
في أبريل 1993، اقترحت اليونسكو مساعدتها في إنجاز هذا البرنامج الطموح على جميع المستويات (برنامج عمل لتعزيز ثقافة السلام).ثم انعقد عام 1994، في سان سلفادور أول منتدى أممي لثقافة السلام.
مرتكزات وأسس ثقافة السلام حددها مؤتمر اليونسكو بباريس عام 1994 م؛ حيث تم التأكيد على نبذ العنف في حل الصراعات المتوارثة بين الناس وأن بناء ثقافة السلام مهمة تتطلب تضافر جهود كل الناس في كافة المجالات، وأنها امتداد للسيرورة الديمقراطية، وأن تطبيق السلام مشروع يتم من خلال كل أنواع التعليم الرسمي وغير الرسمي وأن ثقافة السلام لا تسود إلا بسيادة المساواة والعدالة وإشاعة الديمقراطية.
وفي عام 1995: انعقد المؤتمر العام لليونسكو حيث اعتمد مشروعا متعدد التخصصات تحت شعار «نحو ثقافة السلام» وجعلها محورا إستراتيجيا لأعوام 1996-2001. في يناير 1997: اقترح فيديريكو مايور، مدير اليونسكو، حق الإنسان في السلام. وفي 22 جويلية 1997: أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2000 عاما أمميا لثقافة السلام، بناء على توصية منالمجلس الاقتصادي والاجتماعي. وفي 19 نوفمبر 1998: أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة العشرية الأممية لثقافة السلام واللاعنف لأطفال العالم، 2001-2010.
وفي 6 أكتوبر 1999: بعد أكثر من عقد من الجهود، كافأت الجمعية العامة للأمم المتحدة عمل اليونسكو من خلال اعتماد برنامج عمل من ثماني نقاط حول ثقافة السلام. وفي 12 سبتمبر 2000: أصدر الأمين العام للأمم المتحدة تقريره عن العشرية الأممية لثقافة السلام واللاعنف من أجل أطفال العالم، 2001-2010. للأسف، بعد مرور عام ويوم على هجمات نيويورك، مر تقريره الثاني دون أن يثير أي انتباه.
وبُني الإعلان على المفهوم الوارد في الميثاق التأسيسي لليونسكو ‘ لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام ، وأكدت الجمعية العامة كذلك على أن السلام لا يتوقف على غياب الصراع وحسب، هو عملية دينامية وإيجابية وتشاركية، حيث تُشجع الحوارات وحل النزاعات بروح التفاهم والتعاون المتبادل.
وفي الوقت الذي كان دعاة السلام يبحثون عن الكيفيات الممكنة التي تسمح بانتشار ثقافة السلام، كان صناع الحرب وبكل ما لديهم من قوة وبأس ينشرون ثقافة العنف والكراهية والموت؛ وقد حققوا نجاحات باهرة، بعد أن جعلوا العالم برمته يعيش تحت وطأة الخوف، وضربوا بيد من حديد في أكثر الأماكن أمنا، وحولوا بلدانا برمتها إلى خراب ودمار، وتسببوا في تهجير الملايين. ويكفي أن نطرح السؤال: من أين كانت ثقافة العنف تتغذى؟ ومن كان يغذيها؟ ولماذا؟
في ذلك السياق كان استفتاء 1999 حول الوئام، حيث صوت الشعب الجزائري من أجل السلم والمصالحة، ثم ترك عملية التنزيل والتطبيق لذوي الشأن والاختصاص؛ وكانت الحصيلة هزيلة ومخيبة للآمال رغم الدعم الشعبي والأموال الطائلة. لكن جذوة الرغبة في السلام ظلت متقدة وأصبحت فكرة أممية ثم تحولت إلى مشروع أممي تبنته اليونسكو.
ففي 8 ديسمبر 2017 صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع ( 172 دولة من إجمالي 193) على اللائحة رقم 72/130 تعلن من خلالها يوم 16 مايو من كل عام، «يوماً عالميا للعيش معا بسلام من أجل التعبير عن الرغبة في العيش والعمل معا موحدين في ظل الاختلاف والتنوع من اجل إقامة عالم في كنف السلام والتضامن و الانسجام». هذا المشروع الأممي كان من اقتراح الجزائر بعد أن ولدت المبادرة في وهران على يد ثلة من المثقفين.

الجزائر ورحلة البحث عن زمن السلم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يسجل التاريخ أن أرض أسلافنا في حدودها الحالية ظلت مجالا حيويا للصراع والغزو والحروب، ولم تنعم ساكنة هذا الإقليم بحياة السلم والاستقرار إلا في فترات قصيرة، غالبا ما كانت تتخللها صراعات مدمرة ونزاعات ممتدة. ويمكن القول أن الحياة المستقرة كانت تمثل الاستثناء. وإذا ما قمنا بمعاينة خفيفة للخمسة قرون الأخيرة لخرجنا بالاستنتاج التالي: لقد أنفق أسلافنا جهودهم كما أنفقنا جهودنا إما في مقاومة الغزاة أو في صراعات داخلية؛ عشنا حياتنا بقليل من الأمن والكثير من الخوف. بعد الإعلان عن الاستقلال صيف 1962 خرجت الحشود مغمورة بمشاعر الفرح محتفلة بالنصر وبزمن السلم والحرية الذي ضحت من أجله؛ لكن رياح العنف هبت مجددا بين الرفاق وسال الدم منذ شهور الاستقلال الأولى، ولم يمر عام على الاستقلال حتى اندلعت الحرب بين المغرب والجزائر. ظلت حالة الاستقرار عرضة للاهتزاز، انقلاب (التصحيح الثوري) 19 يونيو 1965، محاولة انقلاب 1967، الاحتقان الداخلي وتوتر العلاقات مع الجوار ولاسيما مع المغرب، الانفلات الأمني في تسعينيات القرن الماضي واتساع رقعة الخوف جراء العمليات الإرهابية والاعتقال والاختطاف. ظاهرة الهجرة القسرية والترحيل: اليهود، الحركى، الأقدام السود، المغاربة والجزائريين ولاسيما عبر قوارب الموت وما ترتب عن ذلك من مآسي.
إن هذه الحياة الصعبة التي عاشها الشعب الجزائري أثرت فيه سيكولوجيا وسوسيولوجيا بشكل سلبي، فتقلص قاموس السلم والجمال والفن بعد أن طغى عليه قاموس الخوف والعنف. لم يتوقف دعاة السلم والمصالحة بحثا عن سبل النجاة، على الصعيد السياسي انطلقت المبادرة مع نهاية عهدة زروال وبداية عهدة بوتفليقة. ظل الشعب يتوق إلى زمن يمارس فيه حياته بشكل آمن، بعد أن جفت منابع الفرح والسلام. رغم كل المحاولات، وبسبب التدبير السيء لملف المصالحة، فقد تقلصت حرية الإعلام والرأي وتم إغلاق الفضاء العمومي في وجه التظاهر السلمي، واستشرى الفساد والفقر واتسعت رقعة البطالة، وبالتالي تعاظمت مشاعر البؤس والخوف وتضاءل منسوب الشعور بالأمان. تلك المحاولات كانت بمثابة صفقات تجارية - سياسية لم يكن الهدف من ورائها سوى تحقيق مغانم محدودة وقصيرة المدى. ورغم ذلك فقد أدرك الشعب الجزائري حاجته إلى السلام، وراح يبحث في ثقافته وفي ثقافات الأمم الأخرى عن القيم التي يمكن استثمارها في بناء واقع آمن ومسالم، ولاسيما الشباب الذي عكف على التعلم وتثقيف نفسه على الحوار العميق والنقاش الهادئ بعيدا عن التشنج والأحكام المسبقة والعنف اللفظي والبدني. لا ننكر أن فاعلين في شتى التخصصات والحقول لم يتوقفوا عن النضال ضد الخنوع والقمع والفساد منذ التسعينيات، وساهموا بشجاعتهم رجالا ونساء في تحريك المجتمع ونشر الوعي السياسي والأيكولوجي. ويمكنني أن أسرد لائحة من عشرات الأسماء (في الإعلام، في الفكر والأدب والسياسة، ومنظمات المجتمع المدني...)، منهن ومنهم من يحضر معنا في هذه الأمسية.
ساءت صورة الجزائري في الخارج، كرست الميديا المحلية والخارجية صورة نمطية عن الجزائري العدواني والعنيف، وأصبحت الجزائر مثالا للبلد الفاسد سياسيا وماليا والمتخلف ثقافيا واقتصاديا. كان الخطاب الإعلامي قاسيا على نفسية الجزائري ولا سيما الجالية الجزائرية في المهجر حيث لم يعد لها ما تعتز به أمام الأمم وتضاءل الرصيد القومي وأفلست الجزائر الرسمية في صناعة مجدها القومي أو كادت، في الرياضة والفن وباقي المجالات.
بالموازاة كانت جزائر أخرى تنمو في الهامش، جزائر الشباب الغاضب والحالم بمستقبل أفضل، ولكن في الآن ذاته كان الشباب يشحنون غضبهم بالأفكار والرؤى الخلاقة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، كما لو أنهم ينتظرون اللحظة المناسبة ليردوا الرد المناسب على كل الذين تسببوا في مآسيهم وآلامهم.
إن بناء وضع سياسي آمن ونمط عيش مسالم يشترط إرادة حسنة، وبالمقابل يحتاج إلى جهود مضاعفة وورشة مفتوحة على الخبرات والكفاءات العلمية. وفي الوقت الذي كان رعاة الفساد يضاعفون الجهد في احتكار السلطة والثروة ونهب الأموال العمومية والتضييق على الحريات، في ذلك الوقت وبعد أن يئس الشباب من الحياة في بلدهم وجربوا كل الحلول الفردية شرعوا في البحث عن خلاصهم الجماعي، وبعد أن توفرت لهم أول فرصة يوم 22 فبراير خرجوا يرددون بصوت واحد مصممين على إيقاف قافلة الفساد ومطالبين بجزائر حرة ديمقراطية.
ظل الشباب متمسكين بسلمية ثورتهم، واسترجعوا فضاءهم العمومي بعد أن أمسكوا بالزمام، كما حرروا كل فئات المجتمع ومكوناته وأرغموها على السير معهم في مسيرة ثورتهم السلمية. استيقظت فيهم روح التضامن والتآخي وأبدعوا شعارات تعبر عن وعيهم السياسي والحضاري وأثثوا فضاءهم العمومي بحلقات النقاش والأنشطة الفنية، وأخرجوا أسلحتهم الجميلة من أنغام وألوان وتعابير فنية مضادة لقوى الفساد، ووقفوا بالمرصاد ضد كل القوى التي حاولت أن تنال من عزيمتهم أو تنشر في صفوفهم الشعارات العنصرية والعدوانية.
هذه الثورة السلمية حملت الكل على إعادة النظر في الحياة الفلسفية للمجتمع الجزائري، وتجاوزت البراديغما القديمة، وأن المجتمع الجزائري دخل في تناغم كبير مع الفلسفة السياسية العالمية الجديدة على حد تعبير البروفيسور في علم الإجتماع يوسف حنطابلي.

الحركة النسوية وامتحان سلمية الحراك ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم تتخلف النساء عن الموعد، والتحقن بالحراك جماعات وفرادى من جميع الأعمار ولم يترددن في تصدّر المشهد، «امتحانا للأماكن الأكثر أمانا» على حد تعبير الباحثة غالية جلول. ولتعميق الشعور بالأمان عبر هذه التجربة السياسية أو الامتحان السياسي للفضاء العمومي بشكل فعلي، تضيف الباحثة، انخرطت المجموعات/الجمعيات النسوية بعمق نحو كوة النور لإضافة أصواتهن إلى أصوات كل أولئك الذين يطالبون بدولة الحق والقانون. فالفضاء العمومي بفضل تعبئة المواطنات والمواطنين اكتسى مظهرا احتفائيا مضيافا بفضل الرابط المدني.
التجمعات السلمية التي شكلت أساس الحراك فاجأت للوهلة الأولى باختلاطها كل أصحاب الرأي (الرجال والنساء، من جميع الأجيال والأوساط الاجتماعية، لتكوين فضاءات عمومية مضيافة وشاملة حقًا)، ثم تتحول تدريجياً طيلة الأسابيع إلى أماكن للعنف الجنساني.

في الوقت الذي طالبت النساء بمواطنتهن، تقول الباحثة، سعى البعض إلى إسكاتهن وإلى حرمانهن من الانضمام إلى الحراك؛ وتعاظم صوت الأيديولوجيا. كيف؟ عن طريق العنف الرمزي الذي يعكس بشكل مقلوب حالة الشعور بذنب الممارسات العنفية، ويحولهن من موضوعات عنف/ضحايا إلى فاعلات/جناة (sujets de la violence)عندما يتم اتهامهن بالمشاركة في مؤامرة ضد الحراك، وأن نشاطهن فتنة وعامل تشرذم.

إن إدانة العنف ضد النساء دعما لنضالهن من أجل المساواة، بدلاً من المشاركة في حجبهن، تؤكد الباحثة، هو أمر بديهي يشكل أيضًا مقاومة تنتمي إلى الحراك الشعبي، فلتكن البداية من الأسفل حتى نستهدف بدقة الريجيم وكذلك السيستام في عقر داره. وعليه، فإن الأسئلة التي تطرحها النسويات حول مراعاة حقوق النساء في أفق المواطنة تكمن في صميم القدرة على تصور النضالات بطريقة أفقية، من أجل تعزيز نسيج التضامن بين جميع مكونات المجتمع المدني. أيضا، «اللاعنف» (السلمية) لا يمكن حصره في الامتناع عن استخدام العنف. يجب أن يشكل اللاعنف بشكل خاص الجهد المبذول سعيا إلى التراجع عن العنف، بدلاً من إعادة إنتاجه عن طريق تبريره أو المساعدة في جعله غير مرئي. وإنه لمن الواجب التبليغ عنه وفضحه، ومقاضاة كل من يهدد النساء. إن دعم الصوت النسوي وجعله مسموعا، يكتسي أهمية كبيرة في تقوية الحراك الذي يطمح إلى إعطاء الحياة لمجتمع مدني تعددي وديمقراطي!

إن النقاشات والمقاربات الموضوعية التي تناولت أحداث الجمعة الثالثة من الحراك عملت على تصحيح التأويل المقلوب الذي برر التهجم على النساء وحمّلهن مسؤولية العنف الذي مورس عليهن. وأكدت تلك المقاربات أن «السلمية» التي أصبحت عنوانا لثورة 22 فبراير تقتضي منطقيا إدانة العنف بدل تبريره، والانتصار للنساء كضحايا عنف وإدانة المتهجمين والتنديد بعدوانيتهم هو اجب كل من يناصر الحراك ويدعو إلى السلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تشاسيف يار-.. مدينة أوكرانية تدفع فاتورة سياسة الأرض المحرو


.. ناشط كويتي يوثق آثار تدمير الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر ب




.. مرسل الجزيرة: فشل المفاوضات بين إدارة معهد ماساتشوستس للتقني


.. الرئيس الكولومبي يعلن قطع بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إسرا




.. فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران