الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرايا الغياب/ بشير البرغوثي8

محمود شقير

2023 / 5 / 17
الادب والفن


16

جاء إلى بيتي ليهنئني بالعودة بعد نفي دام ثماني عشرة سنة، جاء هو وغسان الخطيب، وكان في البيت عدد غير قليل من أقاربي وأبناء عشيرتي، ومعارف وأصدقاء ممن جاءوا للسلام علي. مكث بشير وغسان في البيت ساعة أو أكثر قليلاً، وكنت مسروراً لقدومهما. تبادلنا بعض الأحاديث حول رحلة العودة وما رافقها من تعب وإرهاق. تبادلنا حديثاً مقتضباً حول السياسة. كان بشير مرتاحاً لعودتي أنا وعدد من أعضاء الحزب الذين أبعدوا خارج الوطن لسنوات طويلة.
وكان عليّ أن أتهيأ لمواصلة دوري في العمل السياسي بعد هذا الغياب. وكان بشير في قمة عطائه السياسي في تلك الأيام. وفيما بعد تعددت لقاءاتنا سواء أكان ذلك في الاجتماعات الحزبية أم في بعض المناسبات.
ذات مرة، ذهبنا، بشير وعدد من أعضاء الحزب وأنا، إلى الناصرة لحضور حفل تأبين الشاعر القائد توفيق زياد، بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته. ذهبنا في سيارتين، وكان بشير يومها متنغصاً بسبب تأخر بعض أعضاء الحزب، عن القدوم في الموعد المحدد للانطلاق إلى الناصرة.
في الطريق إلى الناصرة، كنا نشعر بمرارة فقداننا لتوفيق زياد. رحنا نتذكر بعضاً من مواقفه الشجاعة التي تدلل على رجل لا يتكرر ببساطة. رحنا أيضاً نستذكر بعضاً من قفشاته الظريفة التي تدلل على إنسان محب للناس وللحياة.
في الناصرة، في فترة ما بعد العصر، في أحد أيام آب العام 1994، كان أكثر من خمسة آلاف شخص يجلسون في ساحة واسعة في الهواء الطلق. استمعنا إلى عدد من الخطباء الذين تناوبوا على الحديث، معددين مناقب توفيق زياد وخصاله النبيلة. تحدث بشير في كلمته الموجزة، عن توفيق زياد. تحدث عن دوره المتفاني في الدفاع عن حرية شعبه وكرامته.
عدنا من الناصرة في الليل، ثم تفرقنا وعاد كل منا إلى بيته.
وذات مرة، ذهبنا إلى قرية جيوس في شمال الضفة الغربية، للتعزية بوفاة الشاعر عبد الرحيم عمر. عبد الرحيم كان عضواً في الحزب في فترة من فترات حياته. مات في عمان، وشعر بشير بضرورة القيام بالواجب تجاه رجل كانت تربطه به علاقة حميمة (وكانت تربطني أنا أيضاً بعبد الرحيم علاقة حميمة. عملنا معاً في رابطة الكتاب الأردنيين، وجمعتنا لقاءات عديدة، بعضها كانت مع أصدقاء آخرين في بيت عبد الرحيم، الواقع في إسكان الجامعة الأردنية في عمان).
اقترح أن نذهب إلى قريته للتعزية فيه. ذهبنا معاً، بشير والشاعر خليل توما وأنا. سلكنا في الذهاب إلى جيوس طريق بيتح تكفا، داخل الخط الأخضر، وسلكنا في الإياب طريق الضفة الغربية التي تأخذنا إلى نابلس ومن ثم إلى رام الله والقدس.
وصلنا القرية عصراً. كان أقارب عبد الرحيم يجتمعون في بيت العائلة لتقبل العزاء فيه. لم نعرف أحداً منهم ولم يعرفنا أحد. قام بشير بالتعريف علينا وعلى نفسه. قال: نحن من أصدقاء عبد الرحيم. رحبوا بنا، ثم تحدث بشير في الشأن السياسي، وتلك عادة درج عليها الشيوعيون زمناً، حيث كانوا يستفيدون من تجمع الناس في المناسبات، للقيام بدعاية سياسية في أوساطهم (الآن تمارس القوى الإسلامية هذا الدور، وتسعى إلى توطيد مكانتها في صفوف الناس، تمهيداً للشروع في برنامجها، لأسلمة المجتمع الذي يعبر عنه بوضوح شعار هذه القوى، الذي ينص على أن الإسلام هو الحل. والآن نعيش بلبلة وعدم استقرار). ولم يكن حديث بشير مسهباً، أصغى إليه الحاضرون بانتباه، ثم اندلعت أحاديث عادية أخرى.
كان اتفاق أوسلو حديث العهد آنذاك. وثمة استبشار بحلول السلام في وقت قريب، وثمة في الوقت نفسه مخاوف من هذا الاتفاق الملتبس الذي قد لا يفضي بنا إلى شيء. حينما اقتربنا من نابلس، لاحظنا حركة كثيفة للقوات الإسرائيلية فيها، والجيش يسد الشوارع. وثمة جموع من شباب الانتفاضة تملأ الأمكنة، وتحاول إرشاد سائقي السيارات إلى الشوارع السالكة، التي يمكنها أن تأخذ المسافرين إلى خارج المدينة.
ظل سليم اسماعيل، سائق سيارة بشير، يجرب السير في شوارع عديدة حتى اهتدى إلى شارع سالك، سار فيه إلى رام الله حيث يقيم بشير. أنا عدت إلى القدس وخليل توما عاد إلى بيت جالا.
وكان ذلك قبل أن يتسلم بشير منصب وزير الصناعة في حكومة السلطة الفلسطينية. فأظهر نزاهة واستقامة، ولم يستثمر منصبه لتوظيف الأقارب أو الأصدقاء. ولا استغله لمصلحة شخصية ولترتيب صفقات.
ذهبنا ذات يوم لزيارته، يحيى يخلف (وكيل وزارة الثقافة ثم وزير الثقافة فيما بعد) وأنا. وكان مقصدنا السلام عليه، ومن ثم شرح موضوع شاب جاءني طالباً التوسط لمصلحته لدى بشير، لكي يعطيه أفضلية في وظيفة تم الإعلان عنها في الصحف المحلية، فتقدم لإشغالها عدد من الشباب.
سلمنا عليه، وتحدثنا في موضوعات عامة، ثم طرحت عليه موضوع الشاب. قال إن ثمة لجنة في الوزارة تحت إشرافه، وهي التي ستنظر في الطلبات المقدمة إليها، ومن يستحق الوظيفة سيأخذها دون تدخل من أي وسيط.
أكبرنا فيه، يحيى يخلف وأنا، هذا الموقف النزيه، ولم نحاول إضافة كلمة واحدة على ما قال، لأن ما قاله لا يحتاج إلى أية إضافة أو استئناف.
كان بشير يومها في اكتمال صحته وعافيته، ولم يقع فريسة للمرض إلا بعد ذلك بشهور.

17

زرته وهو مريض في مستشفى المقاصد الخيرية بالقدس، كانت السكتة الدماغية التي ألمت به محتملة في البداية إلى حدّ ما. وكان ـ رغم كل شيء ـ ما زال قادراً على الحركة وعلى الكلام. إلا أن السكتات الدماغية ـ أو هذا ما أعتقده ـ ظلت تلاحقه، كأنها تريد إقناعه بأن جسده ما عاد قادراً على مجاراة عقله، الذي لا يكفّ لحظة واحدة عن التأمل والتفكير. ظلت السكتات الدماغية تلاحقه حتى لم يعد قادراً على الحركة طوال ثلاث سنوات.
زرته آخر مرة حينما كان سليمان النجاب وياسر عبد ربه يستعدان للذهاب إلى بيته. ذهبت معهما. وقفنا أمامه واحداً تلو الآخر نسلم عليه. سلم علينا بإشارة من عينيه، ثم جلسنا. بدا الموقف مثيراً للحزن، ولم أكن قادراً على التحدث معه، بل لم أعرف كيف أتحدث معه. عجبت من سليمان وياسر، لما أبدياه من قدرة على الحديث. أصغى إليهما بكل انتباه، عيناه الذكيتان تشيران إلى عقل ما زال في منتهى اليقظة.
وهأنذا أسير في جنازته في ذلك اليوم القائظ الحزين. الجنازة تمضي في الشارع الرئيس نحو ساحة المنارة في مدينة رام الله، ومن ثم نحو شارع الإرسال في اتجاه المقاطعة، وبعد ذلك إلى بلدة دير غسانة التي ولد فيها بشير. والجنازة تمضي. خلف النعش يسير الألوف من رفاق بشير وأصدقائه ومحبيه، وفي مقدمتهم الرئيس ياسر عرفات. ولطالما سألت نفسي: ما الذي دار في عقل هذا الرجل طوال هذه السنوات الثلاث؟ وما هي الأفكار والمشاعر والانفعالات التي ظلت تعتمل في رأسه، فلم يتمكن من إيصالها لأحد، اللهم إلا ذلك القدر الضئيل مما تسمح به إشارات العينين المتوقدتين؟

18

كتبت في دفتر اليوميات:
جئنا من مدينة رام الله إلى بلدة دير غسانة. احتشدنا في ساحة المدرسة الثانوية بعد أن وارينا جسده التراب. أمام الألوف الذين احتشدوا في ساحة المدرسة، ألقى سليمان النجاب كلمة في وداع رفيقه وصديقه، جاء في بعض سطورها: "وداعاً يا رفيق الدرب، وداعاً يا رفيق العمر: بشير عبد الكريم البرغوثي. منذ قرابة نصف قرن ارتبط مصيرنا الوطني والحزبي ولم يفرقنا إلا الموت. رحلت يا بشير عن هذه الدنيا، وقام شعبك الفلسطيني بكل ألوان طيفه السياسي ليشيع جثمانك اليوم إلى مثواه الأخير. ما أشد حاجتنا إلى عقلك الراجح وإلى بعد نظرك، وإلى تفاؤلك العميق النابع من رؤية شهدت لصحتها معاركنا الوطنية كافة".
بعد رحلة حافلة في دروب الحياة، مات بشير البرغوثي في التاسع من أيلول العام 2000 وله من العمر تسع وستون سنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس