الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة زاكي باشا أفندي البطولية إلى الديار الاسطنبولية

زكرياء مزواري

2023 / 5 / 18
الادب والفن


بين نُدوب الزريبة وأهلها، وجمال الحضارة وبهائها، كان زاكي باشا أفندي يعيش حالة جذب عنيفة، لا يعرف أيّ نوع من الأحاسيس يقدّم، ولا أيّ شكل من المشاعر يؤخر. اعتملت في دواخله أفكار متناقضة؛ واحدة تدعوه إلى اغتيال ذاكرته، وسحق ما تخزّنه من جروح وأدواء، ما دامت تذكره بخطأ الجغرافيا، وتوقف التاريخ عن الحركة، وفساد الإنسان والعمران، وأخرى تدعوه إلى الإقبال على الحياة، والاستمتاع بالجمال المبثوث في كلّ مكان.
تيقظت حواس زكي باشا أفندي، جرّاء استشعارها للجلال والجمال، وبدأت ترصد معالم الشخصية الحضارية للأمة التركية، بعد نجاح مسلسل التحديث الذي قاده أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى، وسقوط الخلافة. كان بجانب التحضر والمدنية التي تجني تماره تركيا الآن، آثار العظمة العثمانية، وإمبراطوريتها القوية التي لا تغرب الشمس عنها؛ فالمساجد بهندستها البديعة، والصوامع بارتفاعاتها الشاهقة، وأصوات الآذان الشجية، آيات على رهبة مركز الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى المتأخرة، كما كانت قصور السلاطين البهية، وأسوارها المنتصبة الشامخة، وأشكال وأنواع الرخام والمنحوتات والرسوم والخطوط العربية، علامات على مستوى البذخ التي عاشته هذه الإمبراطورية، كان كل شيء يشي بالجمال الممزوج بالرهبة. وفي الجهة المقابلة، هناك الحداثة التي تركت بصمتها على البشر والحجر؛ فبجوار بناءاتها التحتية المبهرة، ترصد عينك حجم الذهنيات التي طالتها موجات التحديث منذ إعلان نهاية الحكم السلطاني؛ فحجم الفردانية باد بقوة في سلوكات الأفراد وتصرفاتهم، والتنوع الديني والعرقي واللهجي عامل إعناء لا تفرقة، وتجاور الكنائس والمساجد سهل على العين أن ترصده، فضلا عن حانات ومقاهي النرجيلة الموجودة بكثرة.
بجانب هذا وذاك، ترى عينك حسن الجمال المبثوث على محيى الوجوه؛ ف "التيتيز" مطروح في الطريق، أشكالاً وأنواعاً، أحجاماً وأوزاناً، لا ترى أبداً تلك الكائنات "البوزبالية" التي ألفتها العين في الزريبة، بل أكثر من هذا، وهو رغم حرية الملبس، وحسن القوام، وجمال الهندام، لا ترى الواحدة تتطاوس في مشيتها، أو تتغنّج بصوتها، أو تستعرض مؤهلاتها التحتية والفوقية بشكل مرضي ممزوج بمركبات نقص فظيعة، كما لا ترى ذكراً يطاردها من أجل أخذ رقم هاتفها، أو الظفر بحساباتها الرقمية التواصلية، أو التحرش بها، أو مضايقتها بالتنمر؛ فالكل في حالة جري وحركة، متخففين من حجم التقاليد البالية.
سرح الخيال بزاكي باشا أفندي، وأخذه نحو دوامة المقارنة، وهو يبصر أحوال الأشخاص الذين واكبهم في الرحلة، فكانت حواسه متيقظة وهي تلتقط مؤشؤات "لعياقة"، وحجم "التقافز"، وكمية "السم" المدسوس في العسل، والهوس الباطولوجي بنزع الاعتراف. داخلته هواجس الكره الممزوج بالإشفاق، إلى درجة لم يعد يدري حدود الخطوط المرسومة بينهما. رأى في تبضع النساء المبالغ فيه، والإفراط في جرد وإحصاء الهدايا التي ينبغي اقتناؤها للأهل ومن جاورهم في الدم والقرابة، قرائن على حجم التأخر التاريخي، وثقل الذهنية الثقافية، وانتصار العقل الجمعي المكبّل لكل أمل في ميلاد ذاتية فردانية حقيقية.
هناك، في شارع تقسيم أو الاستقلال بعاصمة بلاد الأناضول، رأى زاكي باشا أفندي شباباً يضربون موعداً جديداً مع التاريخ؛ فنظارة وجوههم، والنعيم البادي على محياهم، والطبيعة الرطبة المحيطة بهم، عوامل تشي بنفاذ الحياة إلى أعماقهم، وسريانها في عروقهم. هناك، على قارعة الطريق، كؤوس الشامبانيا تؤثث الفضاء، وأقداح الجعة والبيرة الصفراء الفاقع لونها تسر الناظرين. الكل غارق في نخبه، والمارة غارقون في شؤونهم الخاصة. هناك أيضاً قُبل رومنسية تؤخذ بين الفينة والأخرى، تزيد المكان رونقاً، يوازيها دخول الجميع "سوق أكرارهم"، لكأنهم متأثرون بمذهب الزاوية الكركرية الموجودة في زريبة زاكي باشا أفندي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟