الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيولُ ربيع الشمال: 3

دلور ميقري

2023 / 5 / 19
الادب والفن


في الأثناء، كان ربيعُ ذلك العام يزداد ازدهاراً، فلم تبقَ شجرة زينة في الشارع إلا واكتست بالبراعم الندية. أما أشجار الكرز، فإنها أنجبت أزهاراً وردية قبلَ حملها بالأوراق. السماءُ بدَورها، صارَ لها لونٌ أزرق مشوبٌ بالورديّ، تتخللها بعضُ السُحُب الفضية ـ كثريات كريستال معلّقة في سقفٍ من عصر الملك الفاتح؛ " فاسا ". وكان دارين صديقاً للحدائق، بالأخص تلك المترامية بكسل على ضفة النهر بمقابل مرسى السفن. وكان يمضي إليها، ليُطعم البط والعصافيرَ نتفَ الخبز، المُتخلّف عن وجبات طعامه. في بعض هذه المشاوير الخضراء، كانت ماهو تتأبط ذراعه بسعادة وتغدو نفسيتها أفضل حالاً.
ثمة، كان دارين يلتقي في بعض الأحيان مع " تركي "؛ الرجل الخمسينيّ ذي الشعر الكثيف الأبيض، الهارب بدَوره من بيروت الحرب الأهلية، وقبل ذلك من حرب أخلاف أتاتورك على الكرد. وكان الرجلُ يشعر بالود تجاه دارين، كونهما من بيئة مدينية. لقد كان صريحاً مع الشاب، لما عزا ذات مرةٍ طلاقه إلى سوء أخلاقه في الوطن البديل، الأول: " كانت تخدم في بيوت الأسر اللبنانية الغنية، بينما كنتُ أقضي الوقتَ في المقاهي بلعب الورق أو النرد. كذلك كنتُ أنتزع منها المال، فأصرفه على الكيف وما شابه. فلما أعلموها بحقوقها، هنا في السويد، فإنها لم تبطئ في طردي إلى الشارع ومن ثم جعل أولادي يقاطعونني ".
تركي، كانَ زبوناً يومياً للعبة " بينغو "، ويقولُ أنه يتفاءل عندما يشطبُ مربعاتِ الورقة بطريقة طفلٍ يبولُ بشكلٍ متعرّج. كان يُقيم في شقةٍ مع شاب من الشمال السوريّ، وكانَ هذا مقامراً أيضاً. لقد زارهما دارين ذات يوم. فقال تركي يومئذٍ في إشارةٍ لرفيق الشقة، الجالس واجماً على الأريكة الرثة: " يقومُ دوماً بخلط الطبخ مع البيض، وليسَ مع اللحم. ابن الحرام، لم يترك بيضةً واحدة في السوق! ". في ذلك اليوم الربيعيّ، حينَ صادفَ دارين في الحديقة، أومأ تركي إلى سويدية شابة جالسة بمقابله: " يا ربي، سروالها الداخليّ يشفّ عن فَرْجها ". ثم أضافَ مُتحسّراً: " بلدُ القحاب، ولكن ما من نيكٍ فيه! ".
كانَ للرجل الملول أخٌ غير شقيق، يُدعى " نيازي "، يعيشُ كذلك مُتبطلاً. كان يقضي أغلبَ وقته نهاراً بمراجعة متاجر مواطنيه، ليستلف من أصحابها مبالغَ مالية بسيطة، كانوا يعرفون سلفاً أنهم لن يستردوها أبداً. ليلاً، دأبَ على قضاء جلّ وقته في أحد أماكن اللهو؛ وهناك، كانت مصلحة " السوسيال " الرسمية هيَ مَن تسدد ثمنَ مشروباته الروحية إلى حدّ معيّن. قيلَ أنه كان في شبابه أجمل أبناء جيله، لكنّ الإدمان على الخمر والمخدرات أفسدا ذلك الجمال.
نيازي، كانَ كذلك موهوباً، كشاعرٍ فطريّ باللغة الكردية. قبل نحو عقدٍ من السنين، والوقتُ شتاءً، اصطحبَ في سيارته الشاعرَ المعروف، " جكَر خوين "، إلى ضواحي أوبسالا. ما لبثَ أن أوقفَ السيارة في فضاءٍ جليديّ، تطوّقه أشجار الصنوبر المُنَكّسة رؤوسها بفعل ثقل الثلج. التفتَ نيازي عندئذٍ إلى الشاعرَ العجوز، وقال له: " ألا يُقال، أنّ المسيحَ مشى فوق الماء ولم يغرق؟ ". وافقه الشاعر بهزّ رأسه، المُتماهي شيبُهُ مع البياض المحيط بالسيارة. أردفَ نيازي بالقول: " وغداً سيقولون، أن جكَر خوين أيضاً مشى فوق الماء ولم يغرق "
" لكنني لا أرى الماء؟ "
" كيف لا، والسيارة تقفُ فوق بحيرة متجمدة! "، ردّ نيازي بهدوء. عندئذٍ فهمَ الآخرُ مغزى المعجزة، فما كانَ منه إلا التوسّل بالاسراع لمغادرة المكان.
في الملهى، كانت النساءُ تتجنّبنَ نيازي وتعتذرنَ عن الرقص معه، كونه معروفاً بمعاركه ثمة لأيّ سبب. إلا في حالةٍ وحيدة، لما بقيت حسناءٌ ثملة تراقصه ذاتَ مرةٍ حتى منتصف الليل. بعدئذٍ، دعته إلى توصيلها في سيارته إلى منزلها. ثم جرّته هناك إلى حجرة النوم، وطلبت منه أن يضاجعها من وراء. فلما فرغا، نهضت كي تتوجه إلى الحمّام، ليفاجأ نيازي أنها شابٌ متحوّلٌ جنسياً. فما كانَ منه إلا الانهيال على الشاب صفعاً، فيما كانَ هذا يقهقه في جذل.
" استعدتُ عندئذٍ ما جرى معي قبل أعوام في سجن رومية، هناك في لبنان. لقد جيء بثلة من الفتيات الأجنبيات، اللواتي كن يعملن في الكباريهات دونَ رخصة، تمهيداً لترحيلهن من البلد. تم إدخالهن إلى قسم النساء، وما هيَ إلا برهة حتى تعالى الصراخ ثمة. تبيّنَ أن " الفتيات " كنّ شباناً من المتحولين جنسياً. بعد ذلك، أتوا بهم إلى قسم الرجال في السجن، لكن سرعان ما سُحبوا منه بعدما تعرضوا للتحرش الجنسي من لدُن بعض السجناء. ولم نعلم أينَ أخذوهم، أخيراً "، اختتمَ نيازي روايته لكلتا الواقعتين وهوَ يبصقُ التبغَ من فمه.
لم يكن دارين مُعجباً بسلوك نيازي، وكان يتجاهله ما أمكنَ حينَ يلقاه في الملهى. إلا أنّ صلة الوصل بينهما لم تنقطع، وذلك بفضل صديقهما المشترك؛ " نورو ". هذا الأخير، لاحَ من صلعته وأخاديد وجهه، أنه على أعتاب الأربعين. كان يزهوَ بأنه ملّاك أراضٍ في الشمال السوريّ، ما أن يجمع غلّة الموسم في جيبه إلا ويُيمم شطرَهُ صوبَ الشام وحلب كي يُنفقها على مومسات الكباريهات. لقد قدمَ إلى السويد بدَعوةٍ من أحد أقاربه، في عام سابق. مع أنه متزوج، وأكبر أبنائه على مقاعد الدراسة الجامعية، لم يجد بأساً في تقديم طلب اللجوء. قال لدارين بصراحته المستهترة: " بهرتُ من حُسن السويديات ولطفهن وأناقتهن، فلتنتظرني امرأتي القروية ما شاءَ لها الانتظارُ ". وإذاً، كان الثلاثة يتقابلون غالباً في الملهى. لكن نورو كان يُدرك هناك حقيقةَ موقفِ النساء من نيازي. فما أن يُهرع هذا الأخير إليه، حالما يشاهده وقد أخذ مكانه على الطاولة أو البار، إلا ويقول له مع ضحكة مستهترة: " من أجل الله، يا نيازي، ابتعد عن صُحبتي كيلا أُحرم من صُحبة النساء بسببك! ". عند ذلك، يبدأ نيازي بالدمدمة ساخطاً ثم ينتقل إلى طاولة اخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي