الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فاطنة البيه: رائدة أدب السجون النسائي بالمغرب

الصديق كبوري

2023 / 5 / 21
الادب والفن


في بداية سنوات التسعينيات من القرن الماضي حدثت طفرة نوعية على المستوى الإبداعي ضمن ما يسمى بأدب السجون في المغرب. فظهرت كتابات متنوعة حول سنوات الرصاص 1 ساهمت في إلقاء الضوء على جوانب كانت مجهولة ومعتمة، كما مكنت نسبيا من سد النقص الحاصل في مجال التوثيق والتاريخ حول هذه الحقبة المؤلمة2. ونذكر في هذا المجال ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ كتابات كل من فاطنة البيه وحليمة زين العابدين ومليكة طيطان ومارية شرف وخديجة مروازي وليلى ماجدولي وزوليخا الأخضري وربيعة بنونة وعايدة حشاد وخديجة المنبهي والسعدية سلايلي وفاطمة ومليكة أوفقير وغيرهن ممن كتبن حول الموضوع بدوافع مختلفة.
وتعد فاطنة البيه من الكاتبات المغربيات الرائدات في مجال أدب السجون، فهي من ضحايا سنوات الجمر والرصاص 3 ، حيث تعرضت في ريعان الشباب للاعتقال السياسي بسبب نشاطها في بعض الإطارات النقابية 4، رغم عدم انتمائها لأي تنظيم سياسي 5 . وقد ذاقت، إسوة بباقي رفاقها الشباب، كل أصناف التعذيب والحط من الكرامة بـ"درب مولاي الشريف". ووصلت درجات التعذيب والإهانة إلى حد طمس الهوية لمجرد كونها امرأة اقتحمت عالما محجوزا للرجال، وهو ما دفعها داخل السجن إلى النضال من أجل إثبات كينونتها كامرأة، فتمردت على كل الثوابت البالية للنظام الأبوي التقليدي الغارق في التخلف والماضوية، وهو نظام يحتقر النساء ويجعلهن في أدنى سلم التراتبية الاجتماعية.
اشتغلت الكاتبة فاطنة البيه في روايتها "حديث العتمة" 6 على الاضطهاد السياسي الذي عانت منه نساء سنوات الرصاص، وهو العمل الذي يعتبر بحق وثيقة تاريخية مرجعية مهمة في علاقة الفرد بالدولة والمجتمع بالمغرب؛ فقد صورت في هذا العمل الأدبي بأسلوب سردي محنة الكاتبة مع الاعتقال السياسي منذ لحظة اختطافها، إلى لحظة إطلاق سراحها، ومحاولتها الاندماج داخل المجتمع من جديد. وهو ما يجعل من هذه الرواية وثيقة تاريخية مهمة قابلة للاستثمار في مجال كتابة تاريخ الصراع السياسي في الثلث الأخير من القرن العشرين، فقد تناولت حقبة سياسية من تاريخ المغرب احتدم فيها الصراع السياسي، واتسمت بحدوث انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان 7.
صدرت هذه الرواية سنة 2001 بعد تجربة الاعتقال السياسي التي استمرت خمس سنوات قضتها فاطنة البيه بالتمام والكمال بين "درب مولاي الشريف"، وسجن "العادر" بمكناس. وقد ترجمت إلى الفرنسية تحت عنوان (une femme nommée Rachid) ، وهو عنوان له أكثر من دلالة. وبذلك تعتبر هذه الرواية أول لبنة في أدب السجون بصيغة المؤنث، إذ يرجع الفضل للكاتبة في كونها حازت على سبق الريادة في إلقاء الحجر في البركة الراكدة والآسنة، ووثقت لتجربة اعتقالها في الكتابة السردية التي جاءت على شكل سيرة ذاتية ورواية وبوح ومذكرات 9. علما أن قلة قليلة من النساء من بادرن أو بالأحرى تجرأن على الكتابة في الموضوع، أو استعن بكتّاب آخرين 10 يضاف إلى ذلك أن ما يميز عمل فاطنة البيه أنه مكتوب من موقع "التجربة" لا من موقع "المسافة"، نتيجة أعوام الإقامة القاسية في السجن، وما رافق مثل هذا النوع من الإقامة من إحساس وشعور، سواء على صعيد الوجود أو التصور11.
إن أول ما يلفت انتباه القارئ لرواية "حديث العتمة" هو العنوان، والذي يحيل على فضاء معتم / مظلم لا يحتمل الضوء، أي عالـم السجن. وبالتالي فإن للعنوان دلالة مهمة في هذه الرواية، فهو عبارة عن نافذة ضوء للدخول لهذا العالـم المعتم 12 وبعد العنوان مباشرة تنحو فاطنة البيه في مرويتها السجنية بالقارئ إلى الحديث عن فعل الاختطاف، وهو الانتهاك الذي أعاد الذاكرة لزمن سبي النساء في ألف ليلة وليلة، وكأنها بذلك تريد القول إن التاريخ العربي ظل جامدا. ولعل ما زاد من تعميق شعورها بالمنفى هو محو هويتها الأنثوية13. وحسب بعض النقاد فإن لحظة الاختطاف تعد لحظة مفصلية في الرواية، فهي نقطة الارتكاز الأساسية التي تشكل البؤرة الموضوعاتية المؤسسة لمختلف تشعبات المحكي اللاحقة14.
شخصت رواية "حديث العتمة" قضية الاعتقال السياسي في المغرب في فترة زمنية محددة، وطرحت أسئلة قلقة ظلت مغيبة حول العلاقة بين المرأة والاعتقال، والتي لا تشبه بالضرورة العلاقة بين الرجل والاعتقال. وأثارت مسألة الاختلاف بين اعتقال المرأة واعتقال الرجل حين تكون التهمة ممارسة السياسة15. فتجربة الاعتقال ليست متماثلة بالنسبة للذكر والأنثى، وهو ما يعني أن هناك جرحا آخر في الذاكرة المغربية هو جرح الاعتقال بتاء التأنيث. ذلك إننا حين نقرأ عن تجربة الاعتقال السياسي في المغرب، يمكن أن يتبادر إلى الذهن أن هناك تجربة إنسانية واحدة تخص الذكر والأنثى غير قابلة للتقسيم والتمييز، غير أن فاطنة البيه تقنعنا بأن فهنالك فرقا كبيرا بين اعتقال المرأة واعتقال الرجل.
علاوة على ذلك، وظفت الروائية فاطنة البيه في عملها الأدبي لغة ساخرة لسرد بعض الأحداث، فصورت لنا الجلادين في أوضاع كاريكاتورية لاذعة. فقد كان الشرر والحقد يتطاير من أعينهم، ولـم يشفع لها كونها فتاة نحيفة البنية رمتها الأقدار بين أيدي جلادين أشداء. لذلك كانوا يتضايقون جدا وهم يمارسون عليها أبشع أنواع التعذيب في معركة غير متكافئة حاولوا فيها طمس كرامة الضحية التي قاومت وبرهنت أنها مكافحة، على عكس ما يتصور لهم عنها كمتاع فراش، تقول في هذا الصدد في أحد حواراتها:
"لقد كان البوليس يعيش تناقضا كبيرا، فهو كان يرفض للرجال حقهم في ممارسة السياسة من موقع معارض، فلقد كان في المغرب خطاب وحيد، وهو الذي كان لزاما أن يمر بمفرده للعموم، وكل من يقول عكسه كان ينبغي أن يسحق، فبالأحرى إذا تعلق الأمر بامرأة"16.
كان الجلاد لا يستسيغ أن تمارس المرأة السياسة، وتعارض النظام السياسي القائم، فهو لا يتصور وجود معارضة من قبل الرجل فبالأحرى المرأة، لذلك كان الجلاد لا يتورع في إنزال أشد العقاب على المعتقلات السياسيات دون مراعاة لخصوصيتهن. فهن في نظره تحدين النظام الثقافي البطريركي17الذي يحدد أدوارهن، ويقنن ما يجب تركه أو فعله. ولعقاب النساء على عدم احترام الأدوار "المشرعنة" في النظام الأبوي، عمد الجلاد إلى تغيير الهوية من أنوثة إلى ذكورة، فتمت تسمية الكاتبة برشيد بدل فاطنة18.
بالإضافة إلى طمس الهوية الأنثوية للمعتقلات السياسيات، فإن الروائية فاطنة البيه ورفيقاتها، كن موضوعا لاغتصاب من نوع خاص، وقد بينت فاطنة البيه في روايتها أن هناك مغتَصَبا، ولكن دون أن يتم ذكر اسمه، لأن المقصود بالاغتصاب في الرواية ليس هو الاغتصاب بالمعنى الحسي، أي ممارسة الجنس على موضوع للرغبة عنوة وتحت الإكراه، بل هناك في نظرها اغتصاب من نوع آخر، وهو اغتصاب لخمس سنوات من عمرها، فقد امتصت الجدران النتنة والقذرة والمتسخة والعتيقة والآيلة للسقوط شبابا غضا وزهرة في مقتبل العمر خمس سنوات بتهم ارتكاب جريمة التفكير في غد أفضل19.
وتأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن رواية "حديث العتمة" لفاطنة البيه تعد من الأعمال الأدبية التي وثقت لتجربة الاعتقال السياسي بالمغرب، وأبرزت مساهمة النساء في النضال من أجل حقوق الإنسان الأساسية وعلى رأسها الحق في الكرامة 20 وقد تميز عملها بنوع من الجرأة، حيث كسرت جدار الصمت، وعبرت بالكلام وبصوت مسموع في مجتمع يعتبر الصمت حكمة، خاصة إذا راعينا أن أغلب النساء اللواتي مورس عليهن هذا العنف التزمن الصمت المطبق. لقد قامت الكاتبة بوصف وتشخيص دقيقين لتجربة المرأة مع الاعتقال السياسي في المغرب، وخصوصية هذه التجربة واختلافها عن تجربة الرجل. والشيء الذي أضفى قيمة مضافة على هذا العمل الأدبي أن صاحبته كتبته من موقع التجربة، وانطلاقا من درايتها بمعاناة المرأة مع الاعتقال السياسي، وحكت فيها عن تجربتها كمعتقلة رأي تعرضت لمختلف أنواع التعذيب لانتزاع الاعترافات منها من غير اعتبار لجسدها وخصوصياته، لمجرد أنها امرأة مارست التفكير وهو خاصية ذكورية في منطق الجلاد. وهذا ما يجعل من الرواية كتابة صادقة ومشروعة عن معاناة انتزاع الهوية21.

لائحة المراجع:
1ـ يقصد بسنوات الرصاص الفترة الممتدة من 1956 إلى 1999، أي من استقلال الى تأسيس الهيئة المستقلة للتحكيم..
2ـ كمال عبد اللطيف، "مشروع العدالة الانتقالية في المغرب خلاصات وأسئلة"، ضمن الصفح والمصالحة، مجلة يتفكرون، العدد الثاني، 2014، ص 15.
3ـ تعرضت فاطنة البيه للاعتقال أول مرة بسبب نشاطها النقابي في إطار النقابة الوطنية للتلاميذ سنة 1974 وقضائها ليلة واحدة داخل السجن. وتجدر الإشارة إلى أن النقابة الوطنية للتلاميذ تأسست في أبريل 1972 بعد منع وزير الداخلية التلاميذ من الانتماء إلى الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
4ـ نقصد نضالها داخل النقابة الوطنية للتلاميذ أثناء مرحلة الدراسة بالثانوي، ونضالها داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب أثناء الدراسة الجامعية.
5ـ عبد السلام بنعيسى، ذاكرة الاعتقال السياسي حوارات ومسارات، إصدار المجلس الوطني لحقوق الإنسان، منشورات ملتقى الطرق، الرباط، الطبعة الأولى، 2012، ص 226.
6ـ تناولت فاطنة البيه أيضا اضطهاد النساء في كتاب "أطلسيات شهادات من خلف الستار" بالاشتراك مع زوجها يوسف مداد، نشر الفنك، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2006.
7ـ عثمان الزياني، "حفريات في الذات المغربية المقهورة بلون السياسة ذاكرة الاعتقال السياسي"، وجهة نظر، عدد 62، خريف 2014، ص 30.
8ـ قضت أياما إضافية بعد إنهاء عقوبتها لأن المحققين زوروا تاريخ الاعتقال في المحاضر لكونهم لم يحترموا الأجل المحدد للوضع تحت الحراسة النظرية.
9ـ زهور كرام، " كتابة المرأة " من الرقابة الاجتماعية إلى التحرر الإبداعي، ويمكن الاطلاع على المقال على الرابط:
https://thaqafat.com/2014/12/24792 تاريخ الاسترجاع: 13/09/2022.
10 ـ يحي بن الوليد، "جرح الاعتقال بتاء التأنيث"، يمكن الاطلاع على المقال على الرابط:
www.alkalimah.net/Articles/Read/180 تاريخ الاسترجاع: 15/09/2022.
11ـ يحي بن الوليد، المرجع نفسه.
12ـ لطيفة لبصير، سيرهن الذاتية الجنس الملتبس، محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، سورية، الطبعة الأولى، 2013، ص 208.
13ـ . محمد رمصيص، أدب السجون المغربي، نشر المقال في حلقتين بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ27ـ 11ـ 2015 وتاريخ 11ـ 12ـ 2015، ويمكن الاطلاع على المقال على الرابط:
https://alantologia.com › blogs تاريخ الاسترجاع: 07/09/2022.
14ـ محمد امنصور، رقصة الجحيم: من الثورة إلى الحقيقة قراءة في كتابة الاعتقال السياسي عند أقصى اليسار بالمغرب"، مجلة فكر ونقد، عدد 78، ص 11.
15ـ حوار مع الروائية فاطنة البيه أجراه أحمد نجيم ونشر بموقع ايلاف بتاريخ 7 يونيو 2001، ويمكن الاطلاع على نص الحوار على الرابط:
فاطنة البيه: في السجن اصطدمت اوهامي بحقيقة وضعية المرأة المغربيةhttps// elaph.com تاريخ الاسترجاع: 18/09/2022.
16ـ . حوار مع فاطنة البيه، ضمن كتاب: عبد السلام بنعيسى، ذاكرة الاعتقال السياسي حوارات ومسارات، منشورات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مطبعة ملتقى الطرق، 2012، ص 231.
17ـ في النظام الابوي او البطريركي يعتبر الرجل هو الحاكم والمسيطر.
18ـ . انظر في مكان آخر كيف أن الجلادين كانوا يطلقون أسماء ذكور على المعتقلات.
19ـ لطيفة لبصير، مرجع سابق، ص 217.
20ـ فاطمة ازرويل، تقديم رواية حديث العتمة لفاطنة البيه، مرجع سابق، ص 7.
21ـ حليمة زين العابدين، المرأة والكتابة عن السجن والاعتقال بالغرب، انظر المقال على الرابط:
archive.aawsat.com/details.asp?article=37966&issueno=8192 تاريخ الاسترجاع: 15/09/2022.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - السجن المدني بالقنيطرة وليس العادر
Brahim SAISS ( 2023 / 5 / 21 - 21:45 )
السيد الكاتب
قضت اربع معتقلات سياسيات اكثر من خمس سنوات بالسجن المدني بالقنيطرة وليس بسجن العادر. ه
الاسماء هي : ه
فاطنة البيه
فاطمة عكاشة
ربيعة لفتوح
والمعتقلة الصحراوية : النكية بودة
ملاحظة : هناك صعوبة في كتابة اسم الرفيقة الصحراوية لعدم وجود الحروف اللازمة في النقال
Nguiya Bouddah

اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس


.. كلمة أخيرة - المهرجانات مش غناء وكده بنشتم الغناء.. رأي صاد




.. كلمة أخيرة - -على باب الله-.. ياسمين علي ترد بشكل كوميدي عل


.. كلمة أخيرة - شركة معروفة طلبت مني ماتجوزش.. ياسمين علي تكشف




.. كلمة أخيرة - صدقي صخر بدأ بالغناء قبل التمثيل.. يا ترى بيحب