الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خوف

مفيد عيسى أحمد

2006 / 10 / 28
الادب والفن


الأضواء المارقة إلى الخلف،السيارات، المباني و البشر، الأرصفة المنسحبة بخطوط متوازية ، بهرجة المدينة التي تهرع في وجهه، لغط الركاب، صوت المطرب الشعبي، كلها لم تزحزح من نفسه ذلك الثقل من القلق. أغمض عينيه ، فأحس أنه و الباص كتلة واحدة، ينساب و كأنه يطفو على الهدير المتواتر للمحرك.
فتح عينيه ما زالت الأضواء تتراكض، ليست لديه رغبة بالعودة إلى غرفته، سئم سكنه و عمله ، ما زال يفكر في كلمات صاحبة المنزل، لمدة ثلاثة أيام و هي تخبره أن هناك شخصان يسألان عنه. لا أحد يعرف مكان سكنه لا أقربائه و لا زملائه. من هذين الشخصين ..؟ هل هما من ....؟.لا ..لا لم يسألون عنه ..؟ هل يعرفون ما يقرأه، أو ربما ما يفكر فيه ما ناقشه مرة مع أصدقائه، هل وشى به، قد يكون للأمر علاقة بصلته بصديقه السجين السياسي السابق.
أغمض عينيه لثوان ثم فتحهما، لم يجتز الباص المدينة الجامعية بعد، فيما مضى كان يلعب لعبة يختبر بها حواسه، أثناء سفره يغمض عينيه لفترة طويلة و يجرب معرفة المكان الذي وصل إليه. التعب أربطة تشد جسده و تؤلمه ..ليس التعب وحده، هناك شعور يستشرى في نفسه لا يستطيع الاحاطة به، التوجس. و ذلك القلق المبهم، الذي تولده توقع نهاية الأشياء، النهايات الحاضرة في ذهنه أبداً، لأي شيء يقوم به، تحبطه و تجعل إحساسه مكثفاً بالعبثية هو يعرف أن احتكاكه المبكر بالموت و الغياب ساهم في ذلك .. ،إلا أن سير الباص و هدير محركه المتواتر أدخلا إلى نفسه وداعة استمدها من طفولته من تلك الأوقات التي كانت فيها أمه تشعل بابور الكاز لتغسل أو تطبخ، فيفعل هديره المتأتي من تأجج ناره فعل المخدر، ينام و يشعر بالزمن مترهلاً طويلاً و أبدياًً.
هو ينام الآن، يرخي جسده على المقعد الجلدي العتيق و رأسه على الزجاج المرتعش، ينام و في اللحظة الدقيقة و المرهفة للإغفاء يتمنى أن يستمر الباص في سيره إلى الأبد، في صحارى، في مدن، في أي مكان، ليس مهماً. سيتخلص من أعباء كثيرة خوفه أن يتأخر أن يرسب أن يطرد من العمل و من غرفته
ينام، صدق أبوه حين قال له التعبان ينام على رجمة حجارة، تعبان ....؟ نعم . يسأل نفسه و يجيب نفسه.
نام كالسهيان ما زال هدير المحرك و لغط خفيف مبهم بين الحلم و الواقع في أذنيه، ثمة أخيلة تتراقص أمامه، وجوه قامات متداخلة وجه مديره في العمل، وجه أستاذه في المدرسة الابتدائية وجه صاحبة الدار حيث يستأجر، وجه رئيسه في خدمة العلم، شيخ الحارة وهو يلقي خطبة الجمعة مشدداً على عقوبة تارك الصلاة و محدقاً في وجهه، سائق السرفيس السريع المتهور، البقال الذي ما فتأ يخبره منذ يومين أن هناك شخصان يسألان عنه، مذيع الأخبار الذي يتوقع الحرب، شخص يوبخه و يسأله أين هويتك، آخر يقطب و يصرخ لم تأخرت، امرأة تهز مؤخرتها و تنظر في عينيه إن كان ينظر إليها، رجال ضخام يرتدون الأسود و يرخون ذقونهم.
توقف الباص، فتح عينه ما زالت الوجوه تحدق به، صاح: أنا خائف، أنا خائف .
لم تكن صيحة كان بوحاً و نداء استغاثة، كل الوجوه تحدق به، لكنها ليست وجوه من رآهم في الحلم ، هي وجوه ركاب الباص. لملم نظارته بحرج و صمت .
***
من وسط الباص تقريباً خرجت الصيحة ( أنا خائف ) كلمتان مرتجفتان، الرجل الذي باح بهما كان نائماً مسنداً رأسه على نافذة الباص و مرخياً جسده، انتفض فجأة و صاح أنا خائف.
لم تكن صيحة، بل أشبه بنداء، أطلقه الرجل و نظر بدهشة في الوجوه التي حدقت به ثم حول نظره بخجل و كأنه انتبه إلى حقيقة من حوله، هرب بنظره إلى الخارج ما زالت الأضواء و الأمكنة تهرع إلى الخلف، أو هو من يمضي إلى النهاية لا يدري، دنيا غير محسوبة .
السائق انحرف إلي يمين الطريق و سأل ماذا هناك ....؟ هل نذهب إلى المخفر أو المستشفى ..؟ لكن أحد لم يجب، ضحك ..هز رأسه و عاود سيره و هو ينظر في المرآة .
ركاب الباص كلهم حولوا أنظارهم إلى مصدر الصوت، من في الأمام التفت إلى الخلف، و من في الخلف نهضوا و تطاولوا بأعناقهم. طفل صغير يجلس في حضن أمه أمام الرجل تعلق بالمقعد متطلعاً إليه، نظر إليه الرجل و ابتسم،لكن الطفل شرع بالبكاء، بدأت أمه تهدهده.
رجل في آخر الباص وضع يده على مسدسه بشكل غريزي، شخص واحد لم يهتم كان يقرأ في جريدة، حول نظره للحظات نحو الرجل ثم عاد إلى القراءة.
امرأة عجوز تجلس في مقدمة الباص لم تستطع رؤية الرجل بسملت و ذرفت دمعتان من عينيها.
الرجل الذي صاح يبدو وادعاً، و في عينيه تداخل الضياع بشيء من اللامبالاة، من انتفاء الهدف، في نظرته المترددة خوف لا ينكر.
سؤال واحد تردد في ذهن الركاب، لم هو خائف ..؟ يعاودون النظر إليه من لحظة إلى أخرى و السؤال يلح عليهم، يبحثون في أنفسهم عما يمكن أن يخيفه، قد يكون مطارداً ، ربما مريض ، أو قد يكون ارتكب فعلاً شنيعاً، بالتأكيد هناك من يهدده، قد يكون فقيراً، أو أنه خارجاً عن القانون يبدو مثقفاً، من المحتمل أنه يخاف الموت، هو خائف من أحد ما لا شك، من جاره أو مديره في العمل أم من البقال، من اللحام أو زوجته من المفتش حيث يمكن أن يصعد إلى الباص للتفتيش في أي لحظة، أسباب كثيرة للخوف اكتشفها كل منهم في داخلهم، توقفوا عن النظر إليه باحثين في ثنايا شعورهم، صامتين ساهمين، في عيونهم لاح شيء من الحيرة تحولت شيئاً فشيئاً إلى خوف حقيقي لم ينتبهوا إليه من قبل ، الكثير منهم باح لنفسه و أسر : و أنا خائف. بعضهم تمتم.
الرجل الذي جهر بخوفه بما يشبه الاستغاثة نزل من الباص دون أن يشعر به أحد سوى الطفل و الرجل صاحب المسدس و ذاك الذي كان يقرأ.فالكل انشغل بخوفه.
***
الرجل الذي أفضى بخوفه نزل بعد الموقف الذي يجب أن ينزل فيه بموقفين، كان شارداً، الحقيقة لا تتفق مع السرعة فكر و هو يمشي ببطء، كلما لمح شخصين يمشيان سوية يتوجس ( ربما هما من سألا عني ....)، فكر أن يقضي ساعة أو اكثر في الحديقة الصغيرة الواقعة أول الحي لكنه خاف من الكلاب و القطط الشاردة و من أولئك الذين يراهم أحياناً يحتسون أشياء غريبة و يحدقون بنظرة جامدة، به و بما حولهم .
وصل إلى بداية الحارة بادره البقال قائلاً : سأل عنك شخصان ثم ناوله كيسين قائلاً نسيت هذين الكيسين البارحة، كذلك ناداه الحذاء قائلاً نفس الكلمات مذكراً إياه بحذائه الذي وضعه للتصليح منذ شهرين و لم يمر لأخذه. لا يعرف أحد اسمه سوى صاحبة الدار فكيف عرفا أنهما يسألان عنه.
دخل من باب الدار فغمزت صاحبته بعينها و أشارت بيدها هامسة هناك شخصان بانتظارك، ضعفت قدماه تردد في الدخول، لكن لا بد من ذلك إن لم يكن اليوم ..غداً.
وقف بباب الغرفة فنهض الرجلان، في يد أحدهما ورقتين في أعلاهما صورته،قال أحدهما : لم ندع أحداً لم نسأله عنك ..لا أحد يعرفك .أسبوعين و نحن نقف على رأس الحارة، لو لم نريهم صورتك لما عرفوك، لم يجب كانت مداركه ساخنة و بطيئة ، رأى الرجل يضع الأوراق أمامه، كانت عبارة عن استثمارة عبأها قبل شهرين عند تقدمه للعمل ، أشار إلى الصورة
- أليست صورتك.؟
- نعم...تمتم بدون صوت
- لا تقلق ..جئنا نسألك عدة أسئلة فقط ، لم نجد أحداً يعرفك لنسأله عنك، و نتحقق من المعلومات التي كتبتها، قلنا نسألك أنت عن نفسك. هذا من حظك هذه أول مرة نسأل شخص عن نفسه و يستطيع الكلام كما يشاء، ماذا نفعل ..؟ لا أحد يعرفك ..هل هذا معقول ..؟ عام في هذا الحي و لو يروا صورتك لم يعرفك أحد.
غادرا غرفته بعد عدة أسئلة عرض عليهم شرب الشاي بصوت متهدج، لكنها ذهبا
استلقى على السرير عادت الوجوه تحوم في مخيلته، تمتم من جديد أنا خائف. انتفض ناهضاً على صوت قرعات متلاحقة على الباب. كان العرق يتصبب من جسده و الباب مفتوحاً، ليس ثمة أحد.هل نسي الباب مفتوحاً، أغلقه و هو يحاول تذكر ما كتبه في نشرة الاستعلامات، هل كانت إجاباته مطابقة لما كتبه، حاول ذلك دون جدوى ، استلقى على سريره و سط خوفه من أن يرفضوه من العمل.
عاد لإلى النوم مثله مثل أي إنسان تعبر أحلامه و حياته الوجوه، السيارات، البشر ، السنون ، الأضواء المتراقصة ، لكنه يخاف من عمره، من رجلين يدخلا غرفته لا يعرفهما و لا يجرؤ عن سؤالهما من يكونا، من رئيسه في العمل من سائق الباص من المفتش من أستاذه في الجامعة من أبيه و أمه من إمرأة يعشقها، من شرطي لا يكترث به، من رجل أمن يشتري الخبز من الفرن فيبتعد عنه متخلياً عن طعام يومه ، من سيارات لا يرى ما بداخلها، من جاره الذي لا يعرف ما يعمل لكنه يناوب مساء، من بلطجي لا يرى فيه نداً ...ينام خائفاً، يعيش خائفاً و يموت كذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ثقافة اوكي 03-06-2024 • فرانس 24 / FRANCE 24


.. القصف والنزوح لم يمنعها من الغناء.. رهف ناصر تحاول إيصال رسا




.. رهف ناصر فنانة توصل رسالتها عن طريق الغناء


.. باللغة العربية والإنجليزية.. الفنان التونسي حكيم بالكحلة يكش




.. الفنان التونسي حكيم بالكحلة: تقديم الأدوار الكوميدية صعب