الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين تُفسد الحكومة مواطنيها

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 5 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


في الأسرة الممتدة من الأب وأبناءه الذكور الثلاثة وزوجاتهم وأطفالهم كان الأب، جدي لوالدي، هو صاحب السلطة العليا والأمر والنهي، بيده وحده كل الميزانية، دخلاً ومصروفاً. في كل موسم حصاد لمحصول الأرز، كان يشرف بنفسه على تعبئة الغلة في أشولة تحضيراً لتوزيعها إلى ثلاث حصص معلومة المقادير مسبقاً: (1) حصة الحكومة، التي يتم تسليمها لشونة الدولة؛ (2) حصة السوق، التي تباع في سوق القرية مقابل المال؛ (3) حصة الخزين، التي تخصص لإطعام أفراد الأسرة وإخراج نصيب الذكاة والصدقة على المحتاجين ومجاملة بعض الأقارب من العائلة الكبيرة.

أثناء التعبئة، كان يأمرني بإحضار الحصى الطيني الخارج من غربال ماكينة الدراية بعد فصله عن الأرز لإعادة خلطة بالأرز النظيف مجدداً. أكثر من ذلك، كان يكلفني بتفتيش المكان المحيط بحثاً عن كل ما هو صغير الحجم لكن ثقيل الوزن، مثل الرمل وحبات الزلط أو الحجر أو الطين المتناهية الصغر، لكي آتي بها وأخلطها بحبات الأرز النظيف إلى درجة أن تصبح هذه الأخيرة لا تعدو أقلية مستضعفة داخل الشوال. كنت أتساءل باستغراب: لماذا يتعمد جدي إفساد غلة محصول قد تعبنا فيه طوال شهور؟! كنت أحزن وأغضب بداخلي، لكن لا يمكنني سوى تنفيذ الأوامر.

تنفيذاً للأوامر، كنت أخلط بيدي كل هذا الوسخ بحصة الحكومة فقط التي سيتم تسليمها لشونة الدولة. وما كان أياً منه يمس الحصتين الأخريين، حصة الخزين وحصة السوق. وكنت ألاحظ أن حصة السوق على وجه الخصوص، هذه التي ستُباع للتجار المحليين مقابل المال، هي الأعلى جودة على الإطلاق.

في مشهد آخر كان أبي، وهو شيخ حافظ لكلام الله ويؤم الناس في كل صلاة، يفرد القطن طبقات فوق بعضها ويدقها بقدميه في غرفة معدة لذلك. بينما عمي، وهو موظف حكومي، يفتح له كيس القطن ويناوله. وأنا كان دوري ملء جراكن ودلاء الماء ومناولتها لعمي، لكي يناولها بدوره لأبي، الذي يقوم بطرطشتها بمقدار معلوم ومدروس فوق طبقة القطن بعد فردها، لكي يدقها بقدميه بعد رشها بالماء، ثم فرد طبقة جديدة وهكذا دواليك، حتى بلغ الارتفاع سقف الغرفة وبلغ أبي من الانحناء والقرفصاء أقصاهما. من الأسفل، رفعت عيني لأرى أبي مرتمياً بالأعلى فوق كومة القطن المُشرب بالماء، لحيته الإسلامية السمراء استحالت إلى اللون الأبيض من كثرة ما علق بها من القطن الناصع البياض، الطويل التيلة. وتساءلت في عجب وحيرة: بغض النظر عن موظف الحكومة، عمي، ألا يعرف هذا الشيخ الحافظ لكتاب الله والمشهود له بالتدين والتقوى من الجميع، أن خلط الماء بالقطن يُفسده، وأن مثل هذا الإفساد المتعمد حرام شرعاً؟!

بعد عدة أسابيع، كنا نعود لإعادة تعبئة القطن في أكياسه مرة أخرى، تحضيراً لتسليمه إلى شونة الدولة. حينها كنت ألاحظ أن القطن أصبح ساخناً وليس كسابق عهده، كأنه أصيب بنوبة حمى؛ كما أنه أصبح ثقيلاً، ربما أضعاف وزنه. كان محصول القطن يُسلم بالكامل للحكومة. القطن لا يُؤكل وكانت الدولة تحتكر صناعته وتصديره. وحيث لا توجد مصانع خاصة ولا تجار حتى ينشأ له سعر عادل في السوق الموازية (السوداء)، فليس أمام الفلاح المصري سوى أن يسلمه كاملاً للحكومة، بالسعر وطريقة الدفع التي قررتها بنفسها سلفاً. لكنه حتى في مثل هذا المأزق المظلم والخانق والمهدد للحياة ذاتها، لم يعدم ذهنه الشرير الحيلة المناسبة: سوف أسلمكم بدلاً من قنطار القطن الواحد المقرر رسمياً عشرة حتى لو أفسدها الماء.

وفي مشهد مرعب آخر، كنت استيقظ فزعاً في ظلام الليل في ساعة لا أعلمها على صراخ وعويل وزعيق وجلبة كبرى لتصدم عيناي أنوار كشافات سيارة بوكس قوية ورجلان ضخمان كالثيران يمسكان بعمي من ذراعيه ويدفعان به بقوة إلى داخل صندوقها. لماذا يفعلون ذلك؟ ولماذا في الظلام؟!

نحن لم نسلم الحصة المقررة علينا من الجمعية الزراعية، سواء من الأرز أو القطن.

ولماذا يأتون في الظلام؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في الذكرى الثانية لرحيلها.. شيرين أبو عاقة تترك إرثا ما يزال


.. بحضور رئيس البلاد.. الآلاف يهتفون لفلسطين على مسرح جامعة أيس




.. سفن قوات خفر السواحل الصينية تبحر بالقرب من جزيرة تايوانية


.. الشفق القطبي ينير سماء سويسرا بألوان زاهية




.. مصر تلوّح بإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل إن استمرت في عملية