الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيولُ ربيع الشمال: 6

دلور ميقري

2023 / 5 / 23
الادب والفن


سماءٌ صافية، ترنو إليه بأعين نجومها البيض، يتطامن إليها برجا الكاتدرائية الحمراوان، كأنهما يدان ضارعتان؛ ومن خلفهما القصرُ الملكيّ، بلونيه النبيذيّ والورديّ، وكان سيّدُ المشهد بلا منازع لانتصابه على أعلى هضاب المدينة. الجسرُ الحديديّ، المستلقي على النهر من جهة الشارع الممتد بين المكتبة العامة وبداية الطريق المؤدي إلى لوتهاغن، لاحَ كأنه هيكلٌ عظميّ لديناصور. أشجارٌ على طرفيّ النهر، أشجار على طرفيّ الشارع، أشجارٌ في كل مكان، تبدو في العتمة كأطياف رمادية. كذلك في العتمة، كانَ لونُ جميع الأشياء. الرماديّ، سيّد الألوان في العتمة. لكن الأنوارَ تهزمه في بعض الأماكن، كلما اقترب المرءُ من الدور السكنية.
وكانَ دارين قد قفلَ عائداً أدراجه إلى المسكن، متخففاً نوعاً من ثقل الهواجس، المتخلّفة عن الليلة الفائتة. إنه نظرَ قبل قليل في ساعة يده، فأنبأته أنها الثانية فجراً. لن يتأخر الضوءُ عن السطوع في الأفق، ليوقظ الطيورَ أولاً ومن ثم بقية الكائنات. ذات مرة، في أمستردام، عندما كان دارين يائساً من إمكانية تسلله إلى السويد ـ كلاجئٍ شرعيّ ـ كانَ الوقتٌ ربيعاً أيضاً، وفكّر عندئذٍ بالطيور وكيفَ تنتقل بحرية بين البلدان. ولعله تذكّرَ كذلك قولَ هيرمان هيسّه، الوارد في إحدى قصائده:
" الحدود، من صنع الجنرالات
لأنهم لا يستطيعونَ البقاء في الحكم دونَ حروب ".
قبل وضعه المفتاحَ في قفل باب حجرته، شعرَ دارين بالجوع. فارتأى أن يتناول عشاءً خفيفاً، متأملاً أنّ عباسَ وصاحبه كمال قد تركا له شيئاً من الخبز في الثلاجة. هناك في المطبخ، فيما كانَ يهمّ بفتح باب الثلاجة، انتبه إلى الضوء المنبعث من نافذة حجرة حسين، المطلة على الشرفة. تركَ ما بيده، ليخطو إلى تلك الجهة، مدفوعاً بشعور التطفّل. وكانت هيَ المرة الأولى، يسترقُ النظرَ فيها إلى الآخرين، اللهم إلا في فترة الطفولة والمراهقة. أباجور تلك النافذة، كانَ متخلخلاً في بعض المواضع، ومنها تسللَ نظرُهُ إلى داخل الحجرة. ومثلما سبقَ وبهرته جوليا المكتسية بالملابس، عليها كانَ أن تبهره الآنَ بعريها الصارخ: كانت متمددة على بطنها، ثمة على السرير الوحيد، ووجهها باتجاه النافذة.
حبيبته الوهمية، ربما كانت آنذاك تتحدث مع حسين. أكانَ هذا مقتعداً على الأرض ومرفقه الأيسر على طرف السرير؟ إلى اليوم، لا يتذكّر دارين ذلك؛ ولا ما إذا كان صديقُ الفتاة عارياً بدَوره. كانَ المتلصصُ وقتئذٍ عاجزاً عن رؤية أي شيءٍ إلا عُري جوليا، بردفها الامبراطوريّ العظيم، الذي ذكرَ مثالاً عنه، ماريو يوسا، في روايته " في مديح الخالة ". لكنّ دارين، في المقابل، يتذكّر جيداً أنه اختنقَ آنذاك بالغيرة والغيظ، تماماً كطفلٍ ينوي سرقةَ دميةِ طفلٍ آخر؛ لا لخبثٍ في الطبع، وإنما لشعورٍ أنه أحقّ بها منه. لقد حلت تلك المشاعر بمحل مشاعر الغضب والشفقة، التي كانت قد راودت دارين في السابق لعلمه أنّ الفتاةَ ضحيةٌ من ضحايا تاجر المخدرات. رجعَ إلى حجرته بلا عشاء، مملوءً بتلك المشاعر، ولا غرو، فرمى بنفسه على السرير بعدما خلع كل ملابسه. بقيَ يتمرغ في طيّات اللحاف، مجنوناً بتصوّر جوليا عاريةً بأحضان الغير؛ وكما لو أنه هوَ رجلُها الشرعيّ، رجلها ذو القرنين من العصر الحديث وليسَ من عصر الأباطرة الرومان.
صباحاً، أو نهاراً بتعبيرٍ أدق، أفاقَ دارين بفعل ما يشبه قطرات العرق، تسيلُ على ظهره. حاول العودة للنوم، لما شعرَ هذه المرة بلسانٍ يمرّ على فقراته. حينَ التفتَ، كانت ماهو قد لحقت واستدارت إلى الجهة الأخرى؛ وكانت عارية تماماً. كانت تمتلكُ مفتاحَ الغرفة، الإضافيّ. لم يستطع استردادَ بصره من مؤخرتها، كونها اختلطت في ذهنه مع مؤخرة جوليا: " ولكن شتّان بينَ ثمرة العجّور وثمرة البطيخ الأصفر! "، استدركَ في نفسه متنهّداً بشيءٍ من الغمّ. ما أسرعَ، على أيّة حال، أن سُعِدَ لكون صديقته قد استعادت معنوياتها حتى أنها لم تنتظر حلولَ الليل كي تأتي لتعاشره. وعليه كانَ أن يُصححَ معلومته عن ثمرة العجّور، لولا أنه قبلَ أن يفعل ذلك ـ ولعلها خمّنت فكرته كونها من سلالة الكهّان المجوس؟ ـ إذا بها تستديرُ لتزرع في قِبْلِها، دونما تمهيد، القصبةَ المأمولة؛ القصبة، المُحتاجة أحياناً النفخَ فيها كما المزمار. وكأنما تثأرُ ماهو لِحَيْف الليلة المنصرمة، أو تتماهى مع المفردة المشنوعة، المعلومة، رأيتَها تمتطي الحصانَ وتهتز فوقه لحين أن دهمتها النازلة. غبَّ وقفة قصيرة، امتنعت خلالها عن أن تغشى الحمّام على خلاف عادتها، فرجت ساقيها هذه المرة لتُشكّل زاوية قائمة مع نظرة رجاء غير هندسية. عندئذٍ، بقيَ دارين يحرثُ طويلاً في تربتها حتى أنّت المفرداتُ الفارسية: " مُرْدَم! بَسْ! بس! ".
علاوة على مشكلة ماهو النفسية، تورطت في مشكلة إضافية. لعلنا نتذكّر شكواها من الفتاة الإيرانية، التي تقيم في حجرةٍ فوقها مباشرةً. في بادئ الأمر، تصوّرَ دارين شكوى ماهو كتمثيلية من أجل الوصول إلى فراشه. لكنه فيما بعد، مرةً إثرَ مرّة، انتبه إلى قيام الجارة تلك بالنقر على الأرضية كلما شعرت بمعاشرته لصديقته. وعلى الأرجح، أنها كانت تضع أذنها على الأرض كي تتصنّت. ثم التقى لاحقاً بالفتاة في حجرة الغسيل، وكانت ماهو معه: " إنها هيَ "، همست مومئةً إليها. في اليوم التالي، أو بعده، عادَ وصادفها تدخل إلى المسكن وكان هوَ في طريقه إلى الخارج. وإذا بها تستديرُ لتتبعه، من شارعٍ إلى آخر، لدرجة شكّه أنها بدَورها تعاني من مشكلة نفسية. لكنها وإن لم تكن كذلك، ولو أنها لا تقل جمالاً عن الأخريات في الكريدور، فإنه لم يشأ التجاوب معها؛ وذلك إكراماً لماهو. لكنه ندمَ في زمنٍ متأخّر على ذلك الموقف الشهم ( ومواقف عديدة مُشابهة! )، تماماً كندمه لإضاعته جل زمن الصبا بقراءة الكتب النظريّة عوضاً عن الكتب الأدبيّة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي