الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نماذج من الفكر القومي العربي

رشيد عبد الرحمن النجاب
كاتب وباحث

(Rasheed Alnajjab)

2023 / 5 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


تضمنت "موسوعة أعلام الفكر العربي الحديث والمعاصر" للدكتور أيوب أبو دية عددا من أعلام الفكر العربي الذي كرسوا أنفسهم للبحث الفكري، والعمل السياسي في قضايا “القومية العربية". وقد تنامى هذا التوجه ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهذه المقالة إذ تشكل مدخلا للإحاطة بفكرة القومية العربية وتناميها كما جاءت في الموسوعة، فإنها تسعى إلى بيان موقفها المتنوع من عوامل الوحدة العربية، ذلك الهدف الوحدوي الذي نتطلع إليه في هذا الزمن الموسوم بالتفتت والتجزئة.
رأى ساطع الحصري أن سبب فتور الروح القومية يعود إلى سطوة إنكلترا وفرنسا، وهما الكارهتان للتوجه القومي إثر التغييرات الدراماتيكية ذات الصلة بالقومية، والتي حدثت في كل من إيطاليا وألمانيا، كما أشار الحصري إلى تعرض البلاد العربية لفترات طويلة من حكم الاستعمار الذي خلق أنظمة عربية متغايرة، وجنسيات استعمارية متنوعة، الأمر الذي أدى إلى فتور الروح القومية عند العرب. وشدد الحصري في هذا السياق على أهمية الإيمان القومي لتحقيق النهضة، معللا ضعف الشعور القومي بما قام به الاستعمار من تشويه للتاريخ القومي، فسعى في سبيل تغيير ذلك الوضع إلى التأسيس لمفهوم القومية العربية والوحدة العربية على قاعدة علمية منهجية عبر التعليم.
واعتقد الحصري أن اللغة تأتي أولا، ثم التاريخ ثانيا، كعاملين أساسيين للوحدة، فقد وضع اللغة في المركز الأول بين العناصر المكونة للقومية، مشيرا إلى "القرابة ورابط الدم" على أنها روابط نفسية ومعنوية وحسب، خلافا لما اعتقده ابن خلدون، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك زاعما أن كل من تكلم العربية في بلاد العرب هو عربي، بما في ذلك الأرمني، والشركسي، و الآشوري، وغيرهم، وقد عارض بذلك فكر الحركات القومية الاجتماعية، مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي بقيادة أنطون سعادة الذي رأى أن "اللغة أداة للتواصل الفكري ولا شأن لها بالقومية "، مؤكدا أن هذ التوجه في التقليل من شأن اللغة بالنسبة للقومية من شأنه تعزيز التوجهات الانعزالية والتفرقة: مثل النزعات الفينيقية، والفرعونية، والمتوسطية والآشورية وغيرها، لذلك رفض فكرة الدولة على أساس اللغة .
وقد توصل الحصري إلى أن استحضار التاريخ يعزز العواطف والقرابة المعنوية، ودعا إلى الاهتمام بالتاريخ القومي، أي اختيار ذلك الجزء من التاريخ الذي يعزز القومية العربية. ربما كما اعتقد شكسبير الذي حاول إحياء أبطال إنجلترا مثل هنري الخامس وغيره، وقد خلص الحصري إلى “أن الأديان العالمية لم تنجح في جمع الشعوب والأقوام إلا لفترة محدودة، وعلى نطاق ضيق، وأن اللغة هي الأساس للدين نفسه الذي يحتاج إلى نصوص لغوية في تشريعات العبادات والمعاملات، لذلك عارض ساطع الحصري إقحام الدين في القومية رغم أنه يعترف أن الإسلام أسهم في تقدم القومية العربية وتوسعها، وحافظ في الوقت نفسه على اللغة العربية من التفتت والضياع.
أما زكي الأرسوزي وهو من مؤسسي "حزب البعث العربي" فقد اهتم باللغة العربية بصفتها مكونا أساسيا من مكونات القومية، كما كان داعيا مواظبا ومثابرا حث الناس باستمرار على الإيمان بالوحدة العربية. وقد عارض الأرسوزي أنطون سعادة في نظرته حول علاقة الدين الإسلامي بالقومية والقائمة على أن نزول القرآن باللغة العربية يعني أن الإسلام حركة عربية، وأن مدلولاته قد فُهمت من خلال العقل العربي، أولا، ويرى الأرسوزي أن هذه النظرة تجعل الدين قوميا يخص العرب وحدهم، وينفي الطابع العالمي للإسلام. كما يرى الأرسوزي أن الشعب العربي هو مادة الوحدة العربية، وأن الوحدة العربية هي السبيل الوحيد لكل انتصار قريب أو بعيد محتمل، كما رأى في الوحدة العربية السبيل إلى الحرية والتقدم.
أما أنطون سعادة فقد رأى أن سورية تضم مجمل المساحة التي تشمل بلاد الشام حتى قناة السويس جنوبا بما في ذلك سيناء والعراق، أو ما يسميه العرب "الهلال الخصيب"، ونجمته المتألقة جزيرة قبرص في عرض البحر الأبيض المتوسط، ونفى أن يكون ذلك نأيا بسورية عن باقي العرب، بل اعتبر أن الوطن العربي يتكون من أربع وحدات؛ فبالإضافة إلى سورية هناك الخليج العربي، ووادي النيل (مصر والسودان)، ثم المغرب العربي.
ويرى كذلك أن مبدأ القومية السورية لا يقوم على التميز الإثني، إنما هو نتاج اجتماع الحضارات وتمازجها، بحيث باتت الأمة السورية تشكل خلاصة امتزاج حضارات ضمت الكنعانيين، والآراميين، والأشوريين، والكلدانيين، وغيرهم، ورأى في هذا الامتزاج سببا لنبوغ الأمة السورية وتفوقها على جيرانها.
وأشار سعادة إلى فكرة أن الإسلام هو بمثابة نتاج راق لتفاعل المسيحية والمحمدية، وقد سعى إلى جمع الديانتين في محبة الله ومحبة الوطن، وتعد هذ الوحدة التي دعا إليها سعادة نظرية علمانية في جوهرها وقد ذهب إلى حد اعتبار الفلسفة شكلا من أشكال العبادة والتقرب إلى الله، وذلك وفق مقولته الشهيرة: "كلنا مسلمون لرب العالمين، منا من أسلم لله بالقرآن، ومنا من أسلم لله بالإنجيل، ومنا من أسلم لله بالحكمة". إلا أنه هاجم الشيوعية، والرأسمالية، والفاشية، والنازية. وقد اشترط لقبول اليهود في القومية السورية انصهار قوميتهم الخاصة في القومية السورية، ورأى أن ذلك غير ممكن في الوقت الراهن، نتيجة استمرار هجرة اليهود نظرا لكونهم خليطا متنافرا ذي عقيدة جامدة، ولأن أهدافهم تتعارض جوهريا مع الأهداف العليا للأمة السورية.

أما قسطنطين زريق فكان عالم تاريخ ذي منهج موسوعي، ويعده البعض شيخ المؤرخين العرب، ومرشد الوحدويين والقوميين وقد استلهمت حركة القوميين العرب الكثير من أفكاره. وكان إلى ذلك داعية العقلانية في الفكر العربي المعاصر، ومؤرخ مجدد نقد المنهج السردي القديم للتاريخ، ولخص جوهر التاريخ في مفهوم "الحرية" المنفتح على الحقب، والأفكار، والشعوب كافة. إذ رأى زريق " أن التاريخ القومي العربي هو مشروع مفتوح على المحيط العالمي، وجزء من البنيان الإنساني الحضاري الواحد في تاريخ البشرية، ولا يمكن أن يتكامل إلا بالربط بين الماضي والحاضر بطريقة واعية.
وقد ضمن زريق مبادئ القومية في كراس "الكتاب الأحمر " في مطلع الثلاثينات، وفي كتابه "الوعي القومي"، وكتابيه "معنى النكبة"، ثم "معنى النكبة مجددا"، كما وضع برنامجا واضحا لواجبات المفكر القومي التي تقوم على رفع وعي الجماهير بالمخاطر المحدقة بهم وشحذ إرادتهم، وإشراك الناس في الحركة النضالية، والتوعية بأهمية الوحدة سياسيا واقتصاديا.
ومن وجهة نظر مغايرة لما طرحه ساطع الحصري، رأى قسطنطين زريق ضرورة تلاقي القومية مع الدين، وأن تستمد القومية من الدين القوة والسمو، ورأى في هذا التوجه تحقيقا للغاية التي تسعى لحرية الإنسان،كما في قوله:" لا يكون الإنسان إنساناً إلا إذا كان حراً، وهو عند ذاك محور الكون وسبب الوجود البشري وجوهر التاريخ وأصل الحضارة وعماد المجتمع والأمة"

كما أشارت الموسوعة إلى ميشيل عفلق بوصفه واحدا من أعلام الفكر العربي القومي، وهو من مؤسسي “حزب البعث العربي" عام 1947. ثم توحد مع" الحزب العربي الاشتراكي" بقيادة أكرم الحوراني عام 1952 وحمل الحزب الناتج عن الوحدة اسم “حزب البعث العربي الاشتراكي". وعفلق هو الذي رأى أن الممارسة والتطبيق العملي لفكرة القومية العربية لا تقل أهمية عن صياغة فكرة القومية فلسفيا. وهي فكرة شبيهة بمفهوم "البراكسس “Praxis في الماركسية.

ورأى عفلق أن "للقائد" دور مهم في نجاح المسيرة التطبيقية للفكر القومي العربي، وبالرغم من تنظيره لأهمية "القدسية" التي تخلعها الجماهير على القائد، وهي فكرة ما زلنا نعاني من نتائجها حتى يومنا هذا، إلا أنه حاول أن يقدم رؤية لدور الشعب في الحكم من منطلق أن الشعب هو ضمانة للاستقرار والتقدم.
كما حاول عفلق أن يعالج أمراض الأحزاب القومية، مثل مرض القطرية، والانغلاق على الذات، والتعالي على الشعب، وقد خلص مؤلف الموسوعة الدكتور أيوب أبو دية إلى أنه كان موضوعيا وصريحا في طرحه لهذه القضايا، فقضية مرض القطرية ما زالت ماثلة أمامنا حتى يومنا هذا.

أما منيف الرزاز فقد تميز بالواقعية في تشخيص الواقع الاجتماعي، ومع أنه تأثر بالطرح الغربي في معالجته لوظيفة الفرد، والمجتمع، والدولة إلا أنه ركز أيضا على العامل الاقتصادي الذي قلل من قيمته ساطع الحصري حيث كان الرزاز متأثرا بماركسيته التقليدية.
بظهور كتابه "تطور معنى القومية" عام 1957، تترسخ فكرة القومية بدلالات اجتماعية، وفي ارتباطها بأحوال الدول في العالم الثالث الخاضعة للاستعمار. لقد عايش مشروع ارتباط القومية بالشيوعية وهو يتحقق بنجاح مميز في مشروع المارشال تيتو الذي وحّد يوغسلافيا وحقق استقلالها القومي والاجتماعي معاً. لذلك، رأى أن الاسترشاد بهذا المشروع من شأنه أن يعزز نظرية القومي والمشروع الاجتماعي الأممي معاً. وفي كتابه "فلسفة الحركة القومية العربية" استخدم المنهج الجدلي في التأسيس لفلسفة الحركات القومية العربية، في صراعها الطبقي الداخلي وصراعها القومي ضد الاستعمار. الأمر الذي يعكس تفسيره المادي للتاريخ بوضوح وجلاء، ولكن حالت العداوة بين البعثيين والشيوعيين العراقيين دون وضوح كتابات الرزاز عن الشيوعية، ثم ما لبث أن مال إلى المحاولات التوفيقية في فكرة تأسيس اشتراكية عربية على قاعدة من الاشتراكية العلمية.
جملة القول إن فكر منيف الرزاز حاول صبغ فكر البعث بطابع ماركسي، وسلّـحه بمنهجية علمية ترتكز على الفهم المادي الجدلي للتاريخ. كما ميز بين حال القومية العربية والقوميات الأوروبية بسبب خصوصيّـتها النضالية ضد الإمبريالية، وجعلها قومية تقدّمية اشتراكية بالضرورة، لأنها ناجمة عن طبيعة العلاقة الكولونيالية مع الغرب، التي أدت إلى تنكّر البرجوازيات الوطنية في الدول العربية لمصالح شعوبها لارتباطها بالرأسمال المركزي في الغرب، وهي فكرة اشتغلت عليها مدرسة التبعية ومن أعلامها سمير أمين وفرانك فلارشتين وغيرهما، لذلك تميزت دولنا بأنْ أصبح الصراع فيها يتخذ طابعاً قومياً وطبقياً معاً.
كانت هذه قراءة شديدة الإيجاز في فكر ومعتقدات ستة من قادة الفكر في مجال القومية العربية ويلاحظ القارئ، أنه بالرغم من الإيمان بالقومية العربية كتوجه عام لهذه المجموعة إلا أنه ثمة تباين في نظرات هؤلاء لقضية القومية العربية والعوامل ذات العلاقة بها، ألم يحن الوقت لأن تستجيب التيارات القومية المعاصرة لنداء التطور الطبيعي الذي يستدعي إعادة النظر في مفهوم القومية وعناصره في ضوء المتغيرات على صعيد عالمي؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجمهوريون في فرنسا يطردون رئيسهم سيوتي بعد دعوته للتحالف مع


.. مجلة بيلد الألمانية: ماكرون حل الجمعية لإحداث -صدمة- تخلط ال




.. ما هي السيناريوهات المحتملة لتشكيل الجمعية الوطنية الفرنسية


.. تحالفات الفرصة الأخيرة في فرنسا لخوض الانتخابات التشريعية




.. ما هي الضمانات التي تطلبها حماس من أجل القبول باتفاق الهدنة