الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تدوين حياة المناضلين

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2023 / 5 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


كتاب "عبدالله حلواص" سيرة ومحطات لنبيل الربيعي
في الصورة القلمية التي رسمها القاضي والباحث الصديق زهير كاظم عبود لشخصية المناضل "عبدالله حلواص" التي يجدها القارئ تلي هذا التقديم، أحاط بأبعادها وصور ظروف حياتها المعيشية والنضالية والفكرية بشكلٍ مكثف فقد كان جارهم في محلة "الجديدة" بالديوانية، وأصبح لاحقاً رفيقه بالنضال، مع كل هذه المعرفة والجيرة والاشتراك في درب الكفاح وصفه بأنه "كان شخصاً عجيباً" لأنه "يقرأ ولا يكتب" ويخلص في سطورها الأخيرة إلى أنه مات مضرباً عن الطعام ومات سرهُ الدفين عن مصدر معلوماته والمدرسة التي تعلم فيها.
لم أدقق في شخصية "حلواص" كثيراً، بالرغم من كونه من جيل أبي "عبد سوادي" النجار الذي أنتظم في الحلقات الماركسية الأولى في الديوانية والتي شكلها "فهد" مؤسس الحزب الشيوعي العراقي وهو يجوب في ذلك الوقت مدن العراق مثلما كان يفعل المناضلون البلاشفة الذين مهدوا لثورة أكتوبر 1917، ثم لاحقاً عمي "موسى سوادي" القيادي النقابي وبقية الأعمام الذين سجنوا معه في سجون النظام الملكي والعسكر عقب تموز 1958، كان اسمه متداولاً داخل عائلتي منذُ صباي يرّوونَ قصصاً عن نضاله وفقره وكفاحه، ويعتبرونه علماً في الثقافة والمعرفة ومرجعاً يجدون لديه العديد من الأجوبة التي تشغل أذهانهم في خضم الحياة والنضال.
ففي أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي وبواكير وعيي وتولهي بالفكر والثقافة ودخولي المبكر للوسط الأدبي بالمدينة وملازمتي لصديقي الشاعر "علي الشباني" الخارج لتوه من سجن "الحلة" 1967 حيث كان محكوماً بدعوة سرقة مطبعة وطبع بيانات باسم "اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي" مع مجموعة من شباب المدينة، كان مع "حلواص" في السجن نفسه، ولانحيازنا إلى القيادة المركزية التي انشقت عن الحزب الشيوعي 1967، كنت وقتها لتوي خارج من المعتقل، فتشربت بأفكار اليسار المتطرف المتوهجة في الوسط الأدبي؛ الشاعر المجدد (عزيز السماوي 1944-2001)، الشاعر الصعلوك (كزار حنتوش 1946-2006)، الروائي والناقد البرفسور (سعدي السماوي 1946-2-2014) والشاعر المجدد (علي الشباني 1946-2011) والعديد من الشباب المتعاطف مع فكرة الكفاح المسلح، مما خلق حاجزاً لديّ في ذلك السن المتوقد والعاطفة والحماس الثوري مع كل من يدافع عن سياسة الحزب الذي تحالف مع حزب البعث تموز 17- تموز -1967 في جبهة وطنية. وكان "حلواص" من تلك الرموز.
لذا لم أكن من مريديه وحلقاته في مقاهي المدينة مثل الصديق نبيل الربيعي والأصدقاء الذين ذكرهم والمساهمين في تجميع سيرته، أتذكر مرة واحدة جمعتني به جلسة حوار سياسي في مقهى "عبد طامي" أستمرت إلى وقتٍ متأخر من الليل وبحضور مجموعة منتخبة من حلقة "عبد لله حلواص" السياسية الثقافية إذا جاز التعبير، أتذكر منهم أستاذ صباح وهو مدرس شيوعي وأصدقائه منهم "ناصر عواد" الذي سيستشهد لاحقاً في فترة النضال المسلح في ثمانينيات القرن الماضي، ففي الأيام الأولى لإعلان الجبهة الوطنية عمد الحزب الشيوعي إلى إقامة ندوات في المقاهي تثقف وتوضح سياسته وعوائدها على العراق والعراقيين، بالمقابل شكلنا أنا وشخصيتان؛ رحيم العگيلي" وهو شخصية معروفة بالديوانية عمل مع الشهيد "محمود ناصر" وبعد مقتل "ناصر" في محطة وقود على يد دورية من شرطة النجدة في مواجهة مسلحة والذي كان متخفياً في أرياف الديوانية، هرب "رحيم" خارج العراق ملتحقاً بالمقاومة الفلسطينية "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" وخاض معارك أيلول الأسود 1970 في الأردن، وجرح فتعطلت يده اليمنى، أنتقل إلى لبنان فقبضت عليه القوات السورية وألقته على الحدود العراقية فغاب في سجونها ثم أطلق سراحه مع قرب إعلان الجبهة مع الشيوعيين والأخر هو "عباس الناصري" شخصية غير معروفة في الديوانية، شبه متخفي يسكن لدى أقرباء له في منطقتنا "الحي العصري" عرفني عليه الشاعر "علي الشباني" وأسر لي بأنه مسؤول مالية القيادة المركزية وكان طالباً في المرحلة الأخيرة بكلية الإدارة والاقتصاد في بغداد وقت انهيار القيادة المركزية وظهور قائدها "عزيز الحاج" في بث تلفزيوني يعترف فيه ويجرم أفعاله، فاعتقلت قياداتها، مات بعضها بالتعذيب كـ "شعبان كريم" في قصر النهاية، وانهار بعضها بحيث وظف على الفور كضابط تحقيق وكان صديق وزميل "عباس الناصري" ويسكن معه لسنوات في شقة واحدة ببغداد وزميله في الكلية "سعد" من تلك التي تحولت من مناضل إلى ضابط تحقيق يشخص قيادات القيادة المركزية ويفرزها عند اعتقال وجبة، وكان "عباس الناصري" من ضمن إحدى الوجبات المعتقلة للتو فعرض على "سعد" الذي وقف أمامه في قبو من أقبية معتقل "قصر النهاية" لدقائق كما وصفها الشاعر "علي الشباني" قبل أن يؤكد عدم معرفته به، لم يشِ به، فأطلق سراح "عباس". ظل متخفياً لم لا يلاحقه أحد، تائهاً لا يستطيع العودة إلى حياته السابقة يحل هنا وهناك، حاول أن يشكل حلقات للقيادة المركزية في الديوانية لكنه فشل، ففي ذلك الوقت كان إقبال الشباب على الحزب الشيوعي كبيراً في أول أيام الجبهة، صورت محاولته معنا بشكل مكثف في روايتي "حياة ثقيلة".
كنا نرتاد المقاهي التي يقيم فيها كوادر الحزب الشيوعي ندوات مفتوحة ونقوم بمجادلتهم في محاولة لأفشال مساعيهم لأقناع الناس بصحة سياستهم التي كان يُنظَر لها بريبة فما فعله البعث من مجازر في 8 شباط 1963 كان لم يزل طريا وقتها، كنا ننجح غالباً في تلك الحوارات إذ كان "رحيم" مثقفاً ثقافة ثورية موسوعية في بيئة جبهات اليسار الفلسطيني الثورية بالأردن ثم بلبنان لديه الحجج والمبررات القوية بصواب نهج الكفاح المسلح.
في ليلة من ليالي تلك الأيام ومع حلول الظلام، قصدنا مقهى "عبد طامي" وكانت مجموعة من الشباب الماركسي تحيط به حينما دخلنا نحن الثلاثة كنت أصغرهم سناً وطلبنا حواراً صريحاً مع المجموعة حول صواب أم عدم صواب التحالف مع البعث ومدى شرعيته من منظور الماركسية، كانت المقهى خالية من الرواد الأغراب فأنزل "الكبنك" ودار الحوار، فأنحصر الحوار بين "رحيم" الثوري المتوهج" بصوته الجهوري وجمله النارية المتوقدة التي ميزتْ من أنتمى لليسار الماركسي والمنظمات الفلسطينية وبين "عبدالله الشيوعي الهادئ" بصوته الخافت المستعين بمعلومات يحفظها من كتب الماركسية القديمة، كان إفحام "رحيم" وتفنيده لسياسة التحالف يغيظ الشباب المحيطين به مما دفع العديد منهم إلى مغادرة المقهى. أتذكر المشهد بوضوح بالرغم من مرور قرابة الخمسين عاما، شدة هدوء "عبدالله حلواص" صبره ورده بصوتٍ خفيض على ما يذهب إليه الخصم في سلوك سيكون واضحاً للقارئ بعد الاطلاع على سيرته بهذا الكتاب.
ليس زهير كاظم عبود القاضي اليساري وجده شخصاً عجيباً لم يعرف سر ثقافته ومات فأندفن سره معه، بل أنا الكاتب اليساري المهتم بأصغر تفصيل حياتي للعراقي وأبناء المحيط الذي عشتُ فيه، فوتتْ علىَّ المواقف اليسارية المتطرفة تأمل حياة هذه الشخصيات وسبر غورها كما فعلتُ مع الجيران والناس المهمشين لاحقاً حال تبلور مشروعي الروائي وتحولهُ إلى مشروع حياة، في تلك الأيام مات "عبدالله حلواص" وكان ذلك العام 1978 بداية حملة السلطة الدكتاتور على اليسار العراقي والديمقراطيين أولاً ثم ستتحول إلى حملة دموية بعد إعلان الحرب مع إيران 1980، فبقت صورته مرسومة في إطار تلك القناعات القاصرة وقتها، إلى أن كلفني الصديق الباحث "نبيل الربيعي" بمراجعة كتابه هذا والتقديم له، إذ ألقى الكتاب الضوء على شخصية "عبدالله حلواص" تكوينها، ظروف نشأتها، حياتها الاجتماعية، والنضالية من خلال متابعة ولقاءات معه في سنين حياته الأخيرة وتسجيل ذلك بأوراق كونت هيكل الكتاب المدعوم بشهادات عدد كبير ممن كان يلتف حول "عبدالله" في المقاهي التي يرتادها. مما جعل من الكتاب سفرٌ تاريخي ونضالي مدون بحرية تخلصت من المحاذير التي يفرضها الحزب والأيديولوجيا في المواقف والآراء المتعلقة بمواقف الحزب والصراعات داخلهِ، وسفر دونَتْ فيه حياة المناضلين في السجون التي كانت مدارس حقيقية يعد فيها المناضل فيخرج إلى الحياة أكثر وضوحاً وأصلب مواقفاً، وكل ما يروى كان من وجهة نظر "عبدالله" العامل فتجسدت حياة السجون وأحداثها؛ يومياتها، محاولات الهروب، المجازر التي حدثت فيها.
كلمة أخيرة عن جهد نبيل الربيعي التوثيقي لمدينة الديوانية أمكنتها وحياتها الاجتماعية وتاريخها الحديث في أرشيف كون كتابين، ثم أرشفة أحداث انتفاضة أذار 1991 أحداثها جمع شهادات من شارك فيها، وأرشفة حياة شخصياتها الشعبية المناضلة المنبثقة من قاعها كشخصية "عبدالله حلواص" المولود في 1920 وهو العام السابق لولادة الدولة العراقية من وجهة نظر مدنية منفتحة ستكون هذه الكتب مرجع للأجيال القادمة تاريخاً ومادةً للكتاب والروائيين الذي سيولدون بالتأكيد في قادم الأيام.

16-4-2023
الدنمارك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رحم الله الشيوعي الكبير المناضل عبد الله حلواص
حسين علوان حسين ( 2023 / 5 / 28 - 01:25 )
تحياتي الحارة
تعرفت على الرفيق الكبير عبد الله حلواص خلال عامي 1974 و 1975 عندما نقلت مدرساً في اعدادية النهضة وفي متوسطة حي رفعت، وكان أول لقاء لي معه في مقهى خماط وذلك بواسطة صديقي المرحوم الاستاذ صباح. وقد هالتني ثقافته الماركسية وعرفت منه أن منشأها المدارس الحزبية التي أسسها الخالد فهد في السجون. بعدها انتقلت للحلة وانقطعت اخبار أصدقائي الشيوعيين من أهل الديونية مثل جليل جبار والاستاذ جبار شامخ والاستاذ شاكر الشطي والشاعر الكبير شاكر السماوي وشقيقه الشاعر عزيز السماوي والشاعر الجميل - كزار حنتوش (الذي حرصت على ضمه بعدئذ لاحدى خلايا الحزب في الحلة عام 1977 عندما شكى لي بكون منظمة الحزب في الديوانية تماطل في ضمه لصفوفها) والاستاذ باقر والاستاذ سعد ورياض وسعدي ابراهيم وفاضل وشقيقه نوري وغيرهم كثير ممن لاتسعفني الذاكرة على استحضار أسمائهم .
ويمكن اعتبار ظاهرة عبدالله حلواص المتميزة الشاهد على قدرة العامل الأمي استيعاب الماركسية والتحليل العميق لمجريات الأحداث، ولقد عرفت عددا ممن ضارعوه وعيا. وبالمناسبة فقد كان عبد الله حلواص يقول : أنا أعلى من أنور السادات، وقد كان على حق.
كل الحب.

اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون بدء تنفيذ -المرحلة الرابعة- من التصعيد ضد إس


.. مصادرنا: استهداف مسيرة إسرائيلية لسيارة في بنت جبيل جنوبي لب




.. تصاعد حدة الاشتباكات على طول خط الجبهة بين القوات الأوكرانية


.. مصادر عربية متفائلة بمحادثات القاهرة.. وتل أبيب تقول إنها لم




.. بروفايل | وفاة الداعية والمفكر والسياسي السوري عصام العطار