الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيولُ ربيع الشمال: 10

دلور ميقري

2023 / 5 / 28
الادب والفن


في أثناء الساعتين، اللتين قضاهما دارين في المخيّم، شعرَ كما لو أنه تحوّل إلى كائنٍ بدائيّ. أيقنَ عندئذٍ، أنّ الفرقَ بين هذا الأخير والإنسان المتمدّن، لا يعدو عن النظافة. ولأنه متمدّنٌ، رفضَ أن يبيتَ ليلته في العربة المشدودة بالسيارة: " خم دجاج لا أكثر ولا أقل! "، كررَ كلمته. علّقت ماهو عندئذٍ قائلة، وكأنما شعرت بالإهانة: " أنتَ حالما تحصل على مرادك مني، تنقلب إلى شخصٍ فظ لا يُحتمل ". مع ذلك، رضيت أن ترافقه إلى الكُريدور طالما أنّ سقفَ حجرته لا يُصدر دبيباً عُلوياً، شاهنشاهياً. لكن في خلال الطريق، الممتد على طول النهر مجدداً، سمعت قرعَ أجراس كنيسة. سألته عندئذٍ عن مصدر الصوت، لكنه كان شاردَ الذهن ولم ينصت لشيء. قالت له مغتاظة: " إنك مقتنعٌ أنني معتوهة، أسمعُ أشياءَ غير حقيقية "
" مهما يكن، فإنني أعلمُ يقيناً أنّ أجراسَ الكنائس لا تُقرع في ساعةٍ متأخرة كهذه "، قالها ثم استدرك: " أما أنكِ معتوهة، فإنني تأكّدت منه حينَ سلّمتِ حجرتك "
" ألن تكفّ عن تقريعي من أجل هذا الموضوع؟ "، قاطعته بنبرة غاضبة. انتبه إذاك، أنه بالفعل أعطى الموضوع أكبر من حجمه. لكنه، من ناحية أخرى، كانَ يخشى أن ينتهي موسمُ المخيم في نهاية الصيف، ويكون مضطراً لإيوائها في حجرته. لم يكن مستعداً للتنازل عن حريته لأيّ كان، ولو بمقابل الحرمان من الجنس. ما لم يكن يتوقعه عندئذٍ، أن ماهو لن تنتظرَ انتهاء موسم المخيم، وستضعه أمام ذلك الخيار في صباح اليوم التالي مباشرةً.
حلّ الصباحُ إذاً، ولاحَ من ثم أنّ علاقته مع ماهو وصلت إلى طريقٍ مسدود. عقبَ الفطور، قالت أنها تودّ الذهاب إلى المخيّم كي تجلبَ حقيبتها. قالت ذلك في شيء من " المَسْكنة "، الغريبة عن طبعها المتّسم بالأنفة. ربما لهذا السبب، كانت ردة فعله تعوزها اللياقة: " لا مانعَ عندي أن أستضيفكِ لبضعة أيام، لا أكثر "
" تستضيفني؟ "، تساءلت ساخرةً مع ضحكة مقتضبة. ذكّرها عند ذلك، بأنها هيَ مَن تتحمل مسئولية الفوضى، التي تتخبط بها حياتها الآنَ. ردّت بالقول دونَ أن تنظر إليه، فيما كانت تنهضُ: " ليست الفوضى، بل إنه سوءُ الحظ مَن أوجدك في حياتي ". انتعلت بسرعة حذاءها، ولما أضحت عند عتبة الباب بدا أنها تذكّرت شيئاً. أخرجت عندئذٍ من حقيبتها الصغيرة مفتاحَ حجرته، ووضعته على رفّ المكتبة، القائمة بالقرب من الردهة. ثمة كانت تستندُ على الكتب، لوحةٌ زيتية صغيرة لزهير حسّيب، تمثّل إمرأة قروية كردية. بقيت ماهو لثوانٍ تتأملها، كأنما تبثّها ما تشعرُ به من ألم وسأم وأسى ويأس. حتى لحظة إغلاقها البابَ وراءها، كان دارين يتوقّع أن تخرجَ فجأة عن طورها؛ هيَ من أوحى كلامها، أنها خرجت مطرودة من حياته. من جديد، وبالرغم من شجن الموقف المنقضي، تنفّسَ الصعداء.
بعدَ خروجها بنحو ساعة، سمعَ طرقاً على باب الحجرة. استبعدَ أن تكون ماهو: " إنها طرقاتُ رجلٍ لجوج ". لقد كان نورو، الذي دخلَ تلفّه عاصفة من النوازل والكوارث والمصائب. دارين، المُصاب ببعض الكمد والاحباط بفعل الموقف المعلوم، فرحَ بالزيارة غير المرتقبة. فالضيف نادراً ما ظهرَ في الكُريدور، وكان ينعته بوصفٍ شبيه لما استحقه مخيّم العربات المشدودة بالسيارات. والأكثر ندرة، أن يلتقيا نهاراً. جلسَ نورو على الكرسيّ الوحيد، المُظهّر قماشه باللون الأبيض، الشائع تقريباً في موجودات الحجرة على قلّتها. سأله دارين، مبتسماً: " لِمَ أنتَ بهذه الحالة الخرائية، هل وصلك رفضٌ؟ ". المفردة الأخيرة، كانت شائعة جداً بين طالبي حقّ اللجوء. كانت مفردة منحوسة. هزّ الضيفُ رأسه سلباً، فيما كانَ يُخرج سيجارة لف. أطلقَ سحبة كثيفة من الدخان باتجاه السقف: " يا سيدي، من المُمكن للمرء أن يتحمّل القملَ والبق والبراغيث؛ لكن يستحيل عليه تحمّل الخسيس "، قالها وهوَ يحرك رأسه يمنة وشمالاً. ثم أضافَ، غبّ سحبة أخرى من السيجارة: " أنتَ تعرف عمن أتكلم؟ حسنٌ. إنه لا يُطْعَم سوى بالبيض، وأنا كما تعلم آكل لحوم! أخجل والله، أن أطلبَ تقسيم الثلاجة بيني وبينه، كما الحال عندكم هنا في هذا المسكن الحقير. أنا لا أهتم بالنفقات، بل أن أحصل على ما يرضيني. الأوراق المالية بالنسبة إليّ، هيَ قذارة لا أني عن التخلّص منها بأيّ سبيل. لو كانَ هوَ الفقيرُ وأنا الغني، لغضضتُ الطرفَ عن بخله وتقتيره. لكنه يكنزُ مالاً جمّاً من عمله الأسوَد، ولا ينفقُ منه شيئاً تقريباً. يدّعي أنه نباتي؛ فهل البيض يُزرع مع البصل؟ يزعمُ أنه منذ صغره يكره اللحمَ والسمك والدجاج، ويروي طرفاً عن إجباره في الجيش على أكلها. لكن لا مانع عنده أن يزدردها بتمهل ولذة، لو أنني مَن اشتراها أو صديقته أتت بها. يا سيدي، البخل هوَ أحد الأمراض النفسية. بودّي لو أنصحه بمراجعة نفس العيادة، التي تذهب إليها صديقتك "
" اطمئن، لم تعُد لي صديقة بعد اليوم "، قاطعه دارين مع ضحكة فاترة من مكانه على طرف السرير. التفتَ إليه نورو، فتأمله لحظة قبل أن يتساءل: " ماذا جرى؟ هل تشاجرتما؟ ". عند ذلك، راحَ دارين يقصّ تفاصيلَ الواقعة الصباحية. علّقَ الضيفُ بالقول: " تبدو سعيداً بالخلاص منها، مع أنك ستضطر منذ اليوم لمطاردة النساء في المراقص والبارات ". ثم أضافَ مع ضحكة مقتضبة: " وددتُ لو أنك تشاركني السكنى بالشقة، بدلاً عن ذلك الخسيس. لكنّ المشكلة، أنك غير مُحتمل بسبب أطوارك الغريبة. إنكم جميعاً على هذه السجيّة، معشر الفنانين والكتّاب، لذلك لا تطيق العيشَ معكم حتى فتاة مثل ماهو "
" صاحبك أيضاً من نفس المعشر، لكنّ فتاته البدينة سعيدة معه على ما يبدو؟ "
" إنه منذ تعرّفه عليها، كفّ عن كتابة الأشعار السويدية "
" ماذا، هل ذهبَ النكاحُ بقريحته؟ "
" أعتقدُ أنّ المال، هوَ القريحة الوحيدة التي يمتلكها. ويوفرُ الآنَ المزيدَ منه، ما دامت الفتاة تجلبُ له المؤنَ "، قال ذلك ثم ألقى نظرة على ساعة يده. أردفَ وهوَ يقفُ: " غداً الخميس، والديسكو يمتلئ بالقحاب. بكّر بالمجيء إليّ كي نتناول كأسين "
" أجلس قليلاً، لأضيّفك قدح شاي "
" وداعاً، أيها الشامي! "، حيّاهُ مُقرقراً ضحكته. غادرَ الغرفة، مخلّفاً فيها رائحة كثيفة؛ هيَ مزيجٌ من العرَق والعطر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض


.. تقنيات الرواية- العتبات




.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05


.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي




.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من