الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البطل غير قابل للتدجين

سالم جبران

2006 / 10 / 29
الادب والفن


شاهدت، قبل أيام، على إحدى المحطات الفضائية اللبنانية، مقابلة طويلة، طويلة جداً، مع الشاعر المصري العظيم أحمد فؤاد نجم.
وجه هذا الشاعر الصعلوك مثل تراب مصر، وكذلك كلامه وضحكته وغضبه.
يبدو للوهلة الأولى فلاحاً لم يخرج من الصعيد ولم ير العالم. ولكن عندما يبدأ بإطلاق آرائه، كما يُطْلق الرصاص، في مختلف القضايا تحس أنَّك أمام شاعر مرهف وعملاق، ومثقف ممتاز، وثائر بالفطرة، وناقد هو كالصياد الماهر، يُطلق سهمه بدقة وعفوية، ويُصيب.
إن المرء عندما يشاهد هذه المقابلة، يندهش من قوَّة ذاكرة أحمد فؤاد نجم، الذي يحفظ عن ظهر قلب ليس شعره العامي المعسول، فقط، بل ألوف الأبيات من الشعر العامي والفصيح، يحفظ حكايات من التراث لها عبق الماضي، ولكن لها عبقاً آخر، إضافياً حين يرويها أحمد فؤاد نجم.
أحمد فؤاد نجم، الذي شقَّق الصراع وجهه يبدو في الجلابية المصرية البسيطة ليس متعاطفاً مع الفقراء ، بل واحداً منهم، بحق وحقيق، تبدو على وجهه كل عذابات الفلاح المصري المقهور تحت المعاناة، الصامد كالفولاذ في وجه النظام الجائر. يتكلم بدون أية رقابة داخلية، وممّ يخاف؟ هل يخاف من السجن، وهو الذي عانى من هذا النظام أكثر من غيره.
ولعل المدهش في أحمد فؤاد نجم أنه غاضب جداً، ولكن لا يعرف الحقد، يحب كل الناس وهذا لا يُبقي عنده وقتاً أو مكاناً لكراهية السلاطين والخديويين. إنه شهم، لدرجة أنه عندما يُسأل عن أُناس لا يحبهم، يقلب الحديث بذكاء.
تكلم عن رحلته الطويلة، مع الشعر والنضال، ومع الفقر والرحال. تحدث عن دخوله السجن (" خمس سنوات في عهد عبد الناصر وخمس سنوات في عهد السادات "). ويكركر أحمد فؤاد نجم بالضحك، ليقول: الاثنان تعاملا معي بالتساوي!!
ها أنت تتكلم بصراحة، تنتقد وتهاجم. هل تخاف؟ لا تخاف. هناك إذن مساحة من الحرية في مصر- يسْأله المذيع مستفزاً.
يعني تريد أن تقول لي أن في مصر الآن مساحة من الحرية، ويجب أن نقول يكثر خيركم؟ هي كل مصر الآن سجن كبير أو مجموعة سجون. البطانة الحاكمة باعت مصر للأمريكان شُقَّة مفروشة. أقول هذا الكلام لو كلفني أن أذهب تسعين مرّة إلى السجن. يقول ، وهو يبتسم ابتسامة مُرّة، في بساطة فلاح على الترعة، وفي شجاعة مقاتل، وفي نقاء فنان فذ وفي حزم ثائر حقيقي.
سأله المذيع عن الفرق بين سيِّد درويش ومحمد عبد الوهاب. فقال: أنت تقارن؟ سيِّد درويش كتب على مدخل بيته "خادم الفن سيِّد درويش" وعبد الوهاب كتب على مدخل بيته "مغني الملوك والأمراء". هو دا كل الفرق. سيِّد درويش كان فناناً عظيماً، كان مدهش الموهبة، وبسيطاً، من الناس وبين الناس.
وأغدق أحمد فؤاد نجم، حتّى بدون سؤال، المدائح على بيرم التونسي: هو شاعر فيلسوف ومبدع ومجدد وحامل رسالة. هو أستاذنا جميعاً، وكلما مرّت السنين تزداد عظمة بيرم. هو خالد خلود الشعب المصري في مصر نيلان، النيل الخالد ونيل اسمه بيرم التونسي.
لم ينسَ أحمد فؤاد نجم النقي إلى درجة النبوءة، الشاعر العملاق عبد الرحمن الأبنودي. ولم ينس أن يُغدق المدائح على بيتهوفن وموتسارت وتشايكوفسكي. إنه الفلاح المصري، الأبدي، عند الترعة، وهو في الوقت نفسه مواطن العالم، الإنسان المسؤول عن المصير الإنساني.
للوهلة الأولى، يخيل للمشاهد أن فناناً مغروساً بهذه القُوّة في الواقع المصري، في التراث المصري العظيم والخالد، ربما لم يجد وقتاً لمتابعة فنون الدول العربية الأخرى. وما أن سأله المذيع عن فيروز وزياد الرحباني، حتى لمعت عيناه بالفرح وتدفق لسانه. "فيروز؟ هي مجد لبنان ومجد العرب. كل ألف سنة يجود الله على الأمّة بفنانة عظيمة مثل فيروز. فيروز هي برهان أن لبنان هو نقطة ضوء كبيرة في الظلام العربي الراهن. أما زياد هو حاجة فريدة. زياد ابني عظيم ، مدهش، شجاع، عدو النفاق والكذب، شجاع غير قابل للتدجين. زياد رحباني كفاه فخراً أن عاصي رحباني وفيروز اجتمعا معاً وتعاونا حتّى صنعاه.
كنت طول وقت المقابلة أسعد بالكلام وأسعد بتأمل سحنة أحمد فؤاد نجم. يلبس ببساطة، يتكلم ببساطة، بدون رقابة داخلية معذَّب بالفطرة مثل أي صعيدي، عصيّ على الطغاة والظالمين. عيناه عينا طفل، وفي الوقت نفسه، عينا نسْر. ابتسامته الطيبة، الساطعة، النقية، من أي اصطناع- مثل الثمار البرية.
هل تعرفون لماذا أكتب عن أحمد فؤاد نجم. في يقيني أنه أدق نموذج وأشرف نموذج للمثقف الحقيقي، السعيد بحبه للناس وبحب الناس له، المستعد أن يقول كلمة الحق، حتّى ولو كانت على قطع رأسه بعدها.
كان بإمكان أحمد فؤاد نجم أن يخنع ويستسلم أمام المغريات، وهي كثيرة أمام فنان عملاق مثله، ولكنه لا يجرب أن يناقش نفسه داخلياً هل يخون أم يظّل على العهد. أموال قارون لا تسوى في نظر أحمد فؤاد نجم، قصيدة حقيقية نابعة من أوجاع الناس ومن أحلام الناس. مدمن على حب الناس ولذلك عنده مناعة ضد التقرب من السلطان.
لو قيل لي: اختصر مصر العظيمة في واحد. لقلت الشاعر المدهش الذي هتف: الجدع جدع والجبان جبان.
يا كل المثقفين في أوطاننا العربية : هل تريدون نموذجاً للشاعر الفنان المبدع الأصيل المقاتل الرقيق السهل الممتنع؟ خذوا أحمد فؤاد نجم شقيق النيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة