الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغربة والاغتراب في شعر فتحي جبر

السيد إبراهيم أحمد

2023 / 5 / 31
الادب والفن


يمثل الاغتراب في الوطن أو الغربة عنه موضوعا هاما في الشعر العربي القديم والحديث على السواء، باعتباره من أهم القضايا المصيرية، والحياتية التي تحدد مستقبل الشاعر، كما تنعكس على ماضيه وتتصل بحاضره من حيث اجتراره في ذكرياته، ومعاناته من أحداثه، ولهذا كان الاغتراب من الموضوعات المتفردة التي تتناولها أقلام النقاد والباحثين لأنها تمثل قضية تتصل بالإنسان اتصالا وثيقا، ومنها عنايتهم بالاغتراب النفسي.

وهو ما يوجب التنبيه في التفرقة بين مصطلحي “الغربة” و”الاغتراب”؛ فالغربة تعني الرحيل بالجسد عن الوطن الأم، سعيا وراء تحصيل رزق أكبر، ومكانة أعلى، بينما تتعدد مراتب الاغتراب الذي قد لا يستلزم الانتقال من الوطن بل يتحقق بالإقامة فيه بالجسد، والرحيل بالنفس والأحاسيس والمشاعر، ذلك أن الاغتراب شعور نفسي داخلي يأتي مفهومه أوسع من مفهوم الغربة، كما يأتي “الاغتراب النفسي” أقسى، باعتباره يمثل شكلاً على قدر كبير من الأهمية من أشكال الاغتراب، لأنه يتعلق بما يكمن في نفس الشاعر الداخلية، وما تعكسه من هموم نفسية شعورية، وصراعات داخلية، والكثير من التوتر السيكولوجي الذي ينحت البنيان اللغوي لقصائد الشاعر، عند محاولته ترجمة مشاعره المأزومة عبر أحاسيس لا تنقصها براعة التعبير اللغوية التي تستلهم جماليات التجربة الذاتية لتمنحها عبير الانتشار والعمومية حتى تصبح تعبيرا عاما عن كل من يعاني من هذا الاغتراب، ولا يملك الذات الشاعرة في البوح مثل أولئك الشعراء الذين ينجحون في الإفضاء بمشاعرهم الاغترابية الطازجة دائما في مكنوناتهم، وذاكرتهم، فيلجأون إلى الكشف عن نوازعهم النفسية ومشاعرهم الاغترابية التي يستطيعون التعبير عنها حال معايشتها، أو استمداد أوجاعهم فيها عبر ذكرياتهم الكامنة في ذاكرة لا تعرف النسيان لتلك اللحظات التي طحنت نفوسهم، وعصرت قلوبهم، وأسهرت أجفانهم زمنا ما.


ومن الذين جربوا الغربة والاغتراب النفسي وعانوا منهما، وتحدثوا عنهما، وأوردوهما في قصائدهم حين يبثون فيهم مواجعهم ومعاناتهم الشاعر فتحي جبر الذي أفرد ديوانا يحمل اسم: “همُ الغربة”، وبعض قصائد منثورة في ديوانين له، بعنوان: “حروف سكنت أبياتي”، و”سوق الستات”.

لم تتوقف وظيفة الشعر عند فتحي جبر باعتبارها هواية أو ممارسة إبداعية، بل كانت القصيدة بمثابة الصدر الحنون له في هذا العالم الذي يحتضن شكواه، ومعاناته، وآلامه، وما تلقاه من معاملات إنسانية غير طيبة في غربته، جعلت من همه همين ومن غربته غربتين؛ إذ لم يجد الصديق الذي يأمنه ويأمله ليبوح له، أو يحكي معه، خاصة وقد أتت بعض القصائد الغاضبة التي سكبها الشاعر على الصفحات دون مراجعة أو بحثا عن قالب أبدع من المعاني أو الكلمات، وهو الذي أوقعه في عدد من المخالفات الشعرية، ظن معها أن تجربته الإنسانية بصدقها هذا ستجعل القارئ يغفر له هذا.

على الرغم من أن البلاغة العربية اعتنت بالمتلقي للعمل الفني عنايـة كبيرة، حيث تكمـن أهميـة دور المتلقي في وضع المبدع له في الاعتبار حين الإبداع؛ لأنه هو الذي يتوجه إليه المبدع بالخطاب، وهو الذي يتلقى التأثير الجمالي للنص؛ ومن ثم يحاول المبدع اختيار وسائل التعبير التي تؤثر في المتلقي تأثيرا جماليا والتي تعبر عن فكرتـه وتبرزها، وفي نفس الوقت يمارس المتلقي نوعا من التأثير في النص من خـلال التفاعل معه والاستجابة له، كما تقول دكتورة مديحة السايح في: “المنهج الأسلوبي في النقد الأدبي في مصر”، وهو ما يحاول أن يحرص عليه الشاعر إلا أنه تفلت منه بعض القصائد ويغلب عليها حديث الذات للذات كنوع من الاستشفاء النفسي أو التنفيس عن مشاعر الغضب المكتومة والتي لا تستلزم أصلا وجود المتلقي، ولا تلزم أن تتسرب إلى صفحة الدواوين لتلتقي المخاطبين بها، إلا أن الشاعر غامر وسكبها على الصفحات استزادة في استثارة المشاعر ومشاركته فيما كان يعانيه في غربته التي أتت في أغلب القصائد أنه أكرُهَ عليها، وهو ما يبدو في قولين له، أولهما، جاء بقرار تشاوري داخل الأسرة وكان التصويت فيه بضرورة الغربة، حتى وإن بدأها واستمر فيها وأراد أن يكر منها راجعا، يجد أن القرار بالاستمرار هو الأفضل، فيقول:

(والغربة تطول، والعمر معاها بيقصر/ والشغل الباقي بسيط أخضر مش أكتر/ قلنا نلم الدور قبل القلب ما يفتُر/ طلعت هيه تقولي سنة خليك مش أكتر/ وسنة جرت سنوات والأخضر صبح أحمر).. [من ديوان: “هم الغربة”، قصيدة: “لما الغربة تطول”، ص49].

أما القول الثاني الذي يأتي سببا للغربة فمرده أحوال الوطن السيئة التي لم تترك للشاعر فرصة في أن يفضل البقاء تعللا به، مما جعله يمضي إلى غربته مضطرا آسفا، فيقول:


(قلنا نسافر لإن البلد من زمن باظت/ وتاهت ونامت عن حلمها وضاعت/ ورتبنا كل الأمور وودعنا الشارد والوارد/ وقلنا سنة أو اتنين، ودنيتنا لفت ودارت).. ويقول في موضع آخر من نفس القصيدة معولا على أن حال الوطن هو الذي يجعله يصر على البقاء مع عذاباته وتمنياته بالرجوع غير أن: (وهي البلد نافعة عشان نقول كفاية يا عم/ دا فيها النكد أطنان وفيها يسيل الدم/ ولا حد قادر يلم ولا حد كمان مهنم”.. [من ديوان: “هم الغربة”، قصيدة: “لما الغربة تطول”، ص9].

يؤصل الشاعر تعريف الغربة الاجتماعي النابع من التأصيل المستقر في ذهن العقلية المصرية وخاصة الريفية، وهي موطن الشاعر ومرباه، ليلفت الانتباه إلى أي “غريب” يقصده من مخاطبته في قصائده، وذلك من أجل إرساء نص تأسيسي يسير على هديه المتلقي فلا يخلط بين المصطلحات، فيقول عن هذا الغريب: ( الغربة أصلها في شرعنا للي ملهوش صاحب/ ولا حتى أرض ولا عيلة ولا كمان صاحب/ ولا حتى أرض تلمه وتسكنه وهو ليها راغب/ يعني تبقى ليك عزوة تحب وتتحب وتتصاحب/ هو دا معنى الغريب ملهوش صاحب ولا حبيب/ ماشي في البلاد تايه بيدور على حد قريب/ في دين أو عمل أو حتى عليل أو حتى طبيب/ وإن مليت من الدنيا يبكيك كم نفر ولبيب).. [من ديوان: “هم الغربة”، قصيدة: “الغربة أصلها”، ص12].

ثم ينقلنا إلى الغريب الذي انتقل إلى أرض المهاجر والمنافي والغربة، وهو الذي يقصده بالحديث عنه، ورصده في سكناته وحركاته، وأسبابه المتعددة في النزوح من الوطن فيقول: (لكن في غربتنا هنا فيها العجب والزمن دوار/ والغربة فيها الصالح والطالح وفيها كريم الدار/وفيها عجب وفيها تحف وفيها كمان أسرار/ ومنها الكلام حيطول وفيها حكمة القهار/ غريب في غربته هاجر عشان المال/ وغيره خرج من داره لأن عنده عيال/ وتالت راح يبني ويغير حياة الحال/ وأمثلة كتيرة ومن بلد ضاعت بفعل الخال).. [من ديوان: “هم الغربة”، قصيدة: “الغربة أصلها”، ص13].

تجسد الكلمات عبر الشطرات والأبيات تلك المعاناة التي غطت روح الشاعر ونفسيته بإحكام، ولم يجد منها أو عنها فكاك، على الرغم من المحاولات التي أفشلها هو بنفسه ليأسه من مصير أفضل ينتظره، أو أفشلها له غيره من كون البقاء له في الغربة أفضل، ولا يبدأ في سرد عذاباته إلا بعد أن يضع موجزا للتعريف بالغربة وعناصرها التي تضافرت معها لتعكير صفو هدوئه الذاتي، والتسلل إلى مناطق صفائه يحيلونها كدرا، وتبرما، فيقول:) الغربة تربة والمدفون هو المذكور/ والمغسل هم الصحاب والكفن بيدور/ اليوم ليك وبعدك يدور الدور/ وفي القبر تلقى الضلمة أو تلقى قبرك نور) .. [من ديوان: “هم الغربة”، قصيدة: “والمدفون هو المذكور”، ص58].

كان هذا هو المجمل لمشهد الغربة، وتوصيفها المباشر الذي جاء تشبيها بلا أية أدوات أو استعارات، ليحمل في تلك الحفنة من الكلمات كل ما يدور في رأس الشاعر ورأس المتلقي من الأوصاف المحسوسة والكئيبة والسوداوية بقتامة الإحساس المترسخ فيه، ومن المجمل ينطلق الشاعر نحو التفاصيل التي بعثرها في مشاهد كثيرة تضمها أكثر من قصيدة، لتدل على أن مساحة البوح والتعبير المخزون عنده يحتاج مساحات واسعة كحضن الصحراء الشاسع، لينيخ فيه قافلة العذاب السائرة بعمره المسروق منه في تلك الغربة التي ألجأته إلى أن يعاني في صمت خارجي، وإن كان في داخله جوقة تنشد الكثير من الألحان يبدعها وحده ويسمعها وحده؛ لأنه لا يثق في أحد:


(الغربة قالت ونادت على طالبها/ ليه تطول واللا انت ممسوك من مخالبها/ مآسيها كتير كتيير واسأل مجربها/ رغم ما فيها من قطط متحوطة بكلابها…. من بيتك لشغلك حلقات ورا حلقات/ في الصبح تلقى الكفيل يقولك هات/ وفي الضهر تعيش الألم آهات ورا آهات/ وفي المسا تشوف القرف جزاءات/ وفي النوم كوابيس يا تعيس عليك بتدور) .. [من ديوان: “هم الغربة”، قصيدة: “والمدفون هو المذكور”، ص59 ـ 60].

ويقول في قصيدة: “اللي في غربتك”: (همك تقيل يا صاحبي والغربة مرة حراقة/ حتلاقيها من مين ومين دي كلها خناقه/ وإن تصاحب صاحب في غربتك وتعمل علاقه/ وتقوله سرك وشكوتك تلاقي من الهموم قنطار/ وكفيلك يصرخلك من كلام قلته لواحد خسيس غدار/ ويهددك ويخصمك عشان طلعت حمار/ وثقت في واحد ملهوش صاحب وغربة كلها أشرار) .. [من ديوان: “هم الغربة”، ص62 ـ 63].

ويقول في قصيدة: “في غربتي تهت”: (أنا في غربتي تهت وضاع الكلام مني / ورضيت بغدر الصحاب واللي قالوه عني/ لجل نيتي الصافية وإخلاصي لأني/ غريب في وحدتي وعايش كما الجني/ بشتغل من الفجر للمغرب ومديري مزعلني) .. [من ديوان: “هم الغربة”، ص65].

لقد اضطر الشاعر للانكفاء على ذاته، والاكتفاء بأن ينشر الكلام أمام نفسه، ويذيعه منطلقا من ذاته أمام ذاته، ثم جمعه من جديد ليدسه بين طيات نفسه، ذلك أنه حاول ذات مرة أن يهون الغربة على من معه من الغرباء بقصائده غير أنه لم يسلم منهم؛ فآثر ألا يكررها غير أنه شعر بالقهر أكثر: (أنا غربتي قهران واحمرت على الدوام شمسي) واستخدم “القهران” للمبالغة والديمومة التي أنابت في التعبير عنها شمس غاضبة حمراء تحرق الشاعر تحت قيظها بلا رحمة.

حاول الشاعر ـ ما وسعته المحاولة ـ أن يصور غربته التي صارت كالمآسي اليونانية وما تحيط به البطل من أقدار كلها تحاربه، ولا تهادنه، وتتحالف مع مفردات الكون من أجل إزعاجه، والزج به في لحظات لا يعرف فيها السكينة، أو الراحة، ويفتقد فيها إلى الخليلة والأصدقاء، ولهذا دارت أكثر من قصيدة في تصوير طول أيام الغربة النفسية والزمنية، والتي جثمت فوق صدر الشاعر، ولم تفلح أية محاولة من محاولات العودة منها إلى الوطن، وهو ما يجعل الغربة عند فتحي جبر لا تقترن بالحنين إلى الوطن، وهذا هو المستغرب، فغالبا ما يجد المغترب في حديثه عن ذكرياته في وطنه في شتى مراحل حياته قبل أو قبيل قرار الغربة، الملاذ الآمن الذي يفر إليه، ملتحفا بدثار دفئه وحنوه وضحكه ولهوه، غير أنه لم يفعل، ولم يتذكر الوطن ليصنع منه معادلا موضوعيا يقارن فيه بين البلد الذي يعيش فيه والبلد الذي غادره، كما لم تحدثه نفسه بالحنين إلى الوطن كموضوع أثير عند كثير من أصحاب الشعر ولو على غير سبيل الحقيقة، وبافتراض المحاكاة التي يصنعها بعض الشعراء، غير أن الشاعر قد تحدث عن الوطن في قصائد قائمة بذاتها تتحدث عن أمجاده، أو تدعو للثورة على الفئة الظالمة من أجل إنقاذ الوطن من براثنهم، وكلها تنم عن روح وطنية حقيقة غير مفتعلة، خاصة وأن الشاعر كان من الذين خاضوا غمار الحرب الأكتوبرية الكبرى التي حررت الأرض من يد الغاصب الصهيوني، ويجب أن تستنقذ من يد الغاصب المحلي أيضا بحسب دعوته.

لقد عاش الشاعر فتحي جبر الغربة المكانية والاغتراب النفسي في آن واحد معا، وفرضت عليه عزلة التواصل بالبوح مع الأصدقاء؛ فحوصر في الزمان والمكان والنفس فاتخذ من الشعر مؤنسا له، وحاميا لنفسه القلقة التي يلازمها التوتر طيلة اليوم وحتى الليل والأحلام، فجاءت القصائد في أغلبها متسرعة، مباشرة، تقريرية، تصف، ولا تبدع، ترسم صورا قلقة، ومعانٍ شابها التكرار بلا ضرورة، واقتحام المفردات الفصيحة لبنية العامية، واختراق المفردات العامية لحصن الفصحى، والوقوع في عدد من عيوب القافية كالإقواء والإيطاء، وتكرار بعض القصائد عبر الدواوين الثلاثة، كما لم يتم انتقاء القصائد لجودتها، ومراعاة الترتيب الزمني التاريخي في التجربة، وتجاور القصائد العامية بجوار الفصيحة بلا موضوع يضمهم، وهو فعل إن مارسه بعض الشعراء إلا أنهم قلة، والأصل أن ينفرد كل ديوان بنوعه فهذا أقوم وأجدى نفعا في القراءة الإبداعية والنقدية للنصوص، وحذف كافة القصائد التي كتبها الشاعر في مناسبات خاصة ـ في أغلبها ـ وكان الأجدر أن تتقوقع في أحد أركان دواوين الشاعر العامية.

لقد غنمت القصيدة العربية شاعرا أجاد التعبير عن محنته في الغربة والاغتراب، والتي أفرد لها هذا الكم من القصائد، التي صورت صدق معاناته، بل ورسمت صورة بشعة أمام من يحاول أن يغامر ويمتطي صهوة الابتعاد عن الوطن، وإن كان الشاعر صادقا حين عدَّدَ الأسباب والعلل التي تدفع الفرد للمروق من باب الوطن كأنه الانعتاق من العذاب، وعدم التفكير في العودة إلى الأهل والأحباب لعدم زوال الأسباب، فجاءت المفردات جياشة ومعبرة عن الغربة المكانية، والاغتراب النفسي التي عايشهما الشاعر نيابة عن الصادقين المخلصين الطيبين والذين لا يجيدون فنون التلاعب بالأقوال، ويجيدون لغة الأفعال، وما نالوه من الأشرار الذين يملأون الغربة دائما، خاصة وأن غربة الشاعر فتحي جبر كانت شرا كلها كما صورها بصدق عبر قصائده التي تصلح دائما لكل زمان ومكان؛ لكونها تتصل بسبب إنساني لا يعرف التوقف عبر رحلة الإنسان في الزمان والمكان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل