الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جايا الغزالة

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 5 / 31
الادب والفن


شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الملكة

2 ـ الأمير .. دوشيانتا

3 ـ الأميرة .. كانفا

4 ـ الأميرة .. الغزالة .. جايا

5 ـ الحكيم

6 ـ الجدة

7 ـ الوصيفة

8 ـ الحارس .. زوج الوصيفة





" 1 "
ـــــــــــــــــــ

خرجت الأميرة كانفا من جناحها ، متجهة إلى حديقة القصر ، ولمحتها وصيفتها ، وكانت متجهة إلى جناحها ، فأسرعت إليها ، وقالت بصوت خافت : سيدتي .
أدركت الأميرة كانفا ، أن لدى الوصيفة ما تريد أن تسرّه لها ، لكنها لم تتوقف ، وقالت : إنني ذاهبة إلى الحديقة ، الحقي بي .
وخرجت الأميرة كانفا إلى الحديقة ، والوصيفة تسير في أثرها ، وجلست في ظل شجرة صنوبر ضخمة ، وقالت دون أن تنظر إلى الوصيفة : حسن ، تكلمي ، إنني أصغي إليكِ .
وقالت الجارية بصوت خافت : سيدي الأمير دوشيانتا سيخرج غداً للصيد في الغابة .
ونظرت الأميرة كانفا إلها ، فتابعت الوصيفة قائلة : هذا ما أخبرني به زوجي ، وهو كما تعلمين ، يا سيدتي ، أحد الحراس الثلاثة ، الذين يرافقون الأمير دائماً ، كلما ذهب إلى الصيد في الغابة .
وأبعدت الأميرة كانفا نظرها عنها ، وقالت : أخبري زوجك ، أن يفتح عبنيه جيداً ، ويوافيني كالعادة ، بكل ما يراه عن طريقك .
وقالت الوصيفة : أمر سيدتي .
فقالت الأميرة : اذهبي .
وعلى الفور ، استدارت الوصيفة ، وقفلت عائدة إلى داخل القصر .
وتراءى للأميرة كانفا الأمير دوشيانتا ، يسير وحيداً في ردهات القصر ، أو في الحديقة المترامية الأطراف ، وكأنه غائب عما حوله ، ترى ما الذي يشغله ؟ وما الذي يفعله بالضبط في الغابة ؟ هذا ما تريد أن تعرفه ، ولم يشبع رغبتها كلّ ما يأتيه لها الحارس ، زوج وصيفتها ، من أخبار .
وانتظرت الأميرة ، جالسة تحت الشجرة الصنوبر الضخمة ، لعل الملكة تأتي ، أو الأمير دوشيانتا ، لكن أياً منهما ، لم يخرج إلى الحديقة ، رغم أن الشمس بدأت تميل إلى الغروب .
ونهضت الأميرة ، ودخلت القصر ، وبدل أن تتجه إلى جناحها ، اتجهت إلى جناح الملكة ، واستقبلتها الملكة مرحبة ، وقالت : أهلاً بالأميرة .
وردت الأميرة كانفا بصوت فيه بعض الحزن : أهلاً بك ، يا سيدتي .
ونظرت الملكة إليها ، وأدركت ما يعتمل في أعماقها ، فقالت : اجلسي ، يا بنيتي .
وجلست الأميرة كانفا متنهدة ، فابتسمت الملكة ، وقالت بصوت رقيق مرح : يفترض أن تكوني الآن في الحديقة مع الأمير دوشيانتا .
فقالت الأميرة كانفا : هذا ما يفترض ، يا سيتي ، لكنك تعرفين الأمير دوشيانتا .
وقالت الملكة : إنه خطيبك ، يا كانفا .
وقالت الأميرة كانفا بصوت حزين منفعل : هذا ما ترينه أنتِ ، يا سيدتي الملكة .
وقالت الملكة : ليس هذا ما أراه أنا فقط ، بل ما يراه الجميع ، فهو الواقع .
وقالت الأميرةكانفا : الجميع إلا الأمير دوشيانتا .
وقالت الملكة محتجة : كانفا .
وقالت الأميرة كانفا : ليته ، يا سيدتي ، يفكر فيّ بقدر ما يفكر في الغابة .
وقالت الملكة : دوشيانتا يحب رياضة الصيد ، وسيخرج للصيد غداً ، فما الضير في ذلك ، يا بنيتي كانفا ؟ إنه شاب ، في مقتبل العمر .
ونظرت الأميرة كانفاإلى الملكة ، وقالت : الغريب إنه يخرج إلى الغابة كثيراً ، وهو رام ٍ جيد ، لكنه لم يصطد حتى الآن أي شيء .
وقالت الملكة : لا تستغربي ، يا بنيتي ، إنه كأبيه الملك ، لا يحب سفك دماء أي كائن حيّ ، وخاصة الكائنات الحية المسالمة ، التي تعيش في الغابة .
وأطرقت الأميرة رأسها ، وقالت : ليت الأمر يقتصر على هذا ، يا سيدتي .
ومدت الملكة يديها ، وضمت الأميرة كانفا إلى صدرها ، وقالت : بنيتي كانفا ، لا تنسي أن جلالة الملك قد رحل ، قبل أشهر قليلة ، وقد ترك أثراً عميقاً ، في نفوسنا جميعاً ، وخاصة في الأمير .. دوشيانتا .
















" 2 "
ــــــــــــــــــ

أفاقت الأميرة كانفا مبكرة ، في اليوم التالي ، ومضت مسرعة إلى جناح الملكة ، ورأت الأمير يخرج من جناحه ، مرتدياً ثياب الصيد ، فاتجهت نحوه ، وحيته قائلة : طاب صباحك ، يا دوشيانتا .
وتوقف الأمير دوشيانتا ، وقال : طاب صباحك ، يا أميرة ، أراك مبكرة اليوم .
وقالت الأميرة كانفا : اسمي كانفا ، يا دوشيانتا .
وقال الأمير دوشيانتا : أنتِ أميرة .
وقالت كانفا مغتاظة : فقط !
وقال الأمير دوشيانتا معاتباً : كانفا .
وقالت الأميرة كانفا : هكذا أفضل .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : علمت أنك ذاهب الآن إلى الصيد في الغابة ، يا دوشيانتا ، وقد تبقى هناك كالعادة ، أكثر من يوم .
ونظر الأمير دوشيانتا إليها مستغرباً ، فقالت : هذا ما علمته من جلالة الملكة .
وهمهم الأميرةوشيانتا : هم م م م م .
فتابعت الأميرة كانفا قائلة : لابد أنك لم تفطر بعد ، لنفطر معاً .
وتأهب الأمير دوشيانتا للمضي في طريقه ، وقال : لقد استيقظت مبكراً ، وأفطرت ، لابد أن أذهب الآن ، إنّ حرسي ينتظرونني .
وسار الأمير دوشيانتا صوب بوابة القصر ، فسارت الأميرة كانفا إلى جانبه ، وقالت : ما دمت ستذهب إل الغابة للصيد ، أريد أن تأتيني بغزالة .
توقف الأمير دوشيانتا مندهشاً ، وقال : غزالة !
فتوقفت الأميرة كانفا بدورها ، وردت قائلة : غزالة حية ، فأنا أعرف أنك لا تقتل غزالة .
وخرج الأمير دوشيانتا من القصر ، دون أن يتفوه بكلمة ، ولبثت الأميرة كانفا تراقبه ، حتى غاب في الحديقة ، فقفلت عائدة إلى جناحها .
وألقت نفسها فوق فراشها ، ورغم أن الشمس لم تكن قد أشرقت بعد ، إلا أنها لم تحاول أن تعود إلى النوم ، وكيف تنام ، وأكثر من دوامة تدور في أعماقها ، وتثير عواصف أيامها ، التي تراها مغبرة دائماً ؟
مات أبوها ، أخو الملك ، وذراعه القوية ، وكان حاكماً على ثاني أكبر مدينة في المملكة ، وسرعان ما ماتت أمها ، ووجدت نفسها وحيدة ، وهي بعد مازالت طفلة ، فمد عمها الملك حمايته عليها ، وأسكنها بجناح في قصره ، وترعرعت إلى جانب الأمير دوشيانتا .
آه من الأمير ، آه من دوشيانتا ، فها هما في شابين في مقتبل العمر ، وخطيبين لا تدري منذ متى ، فهي منذ أن وعت ، عرفت أنه خطيبها ، فهو أمير وهي أميرة ، وفوق ذلك فهما أبنا عم ، وأبوها ، رغم أنه كان أصغر من أخيه الملك ، إلا أنه كان له مكانة ونفوذاً كبيرين في المملكة .
الأمير سيكون ملكاً في يوم من الأيام ، فهو ابن الملك ، وهي لابد أن يكون لها مكانة كبيرة إلى جانبه ، لابد أن تكون هي وليس غيرها .. الملكة .
وبعد شروق الشمس ، والأميرة ما تزال تواجه دوامة أيامها ، دخلت عليها الوصيفة ، زوجة الحارس ، وحيتها قائلة : طاب صباحك ، يا سيدتي .
وردت الأميرة ، وآثار الدوامة المغبرة في نبرات صوتها : طاب صباحك .
واقتربت الوصيفة منها ، وقالت : سيدتي ، لقد خرج الأمير إلى الصيد .
فنظرت الأميرة إلها ، وقالت : أعرف .
ونظرت الوصيفة إليها متسائلة ، فقالت كانافا : لقد التقيت به عند خروجه .
ولاذت الوصيفة بالصمت ، فقالت الأميرة كانفا : حالما يعود الأمير دوشيانتا ، وحراسه الثلاثة من الغابة ، أخبريني .
فقالت الوصيفة : أمر سيدتي .
ثم أضافت : الفطور جاهز ، يا سيدتي .
فقالت الأميرة كانفا : اذهبي الآن ، لا أريد أن آكل أي شيء .


















" 3 "
ـــــــــــــــــــ

دخل الأمير دوشيانتا الغابة ، وفي أثره دخل حراسه الثلاثة ، وتوغل بين الأشجار المتكاثفة ، باحثاً عن غزال يطارده ، دون أن يصيبه بأذى ، فالمهم عنده هي المطاردة ، وليس قتل الغزال .
ورأى أكثر من غزال ، وراح يطاردها الواحد بعد الآخر ، وكان يعطي لكل غزال يطارده ، الفرصة لكي يفلت ، ويلوذ بمكان آمن .
وعند منتصف النهار ، أشار أحد الحراس الثلاثة ، الذين يرافقونه ، إلى غزالة جميلة ، جفلت لمرآهم ، وقال : سيدي ، أنظر ، غزالة .
ونظر الأمير دوشيانتا إلى الغزالة ، وما إن وقع نظره عليها ، حتى بُهر بجمالها ، وخاصة بعينيها السوداوين الساحرتين ، اللتين لم يرً ما يشبههما من قبل .
وسرعان ما لكز الأمير دوشيانتا حصانه ، وانطلق منجذاً في أثرها ، ومن ورائه حرسه الثلاثة ، كأن قوة سحرية غامضة تشده إلها .
وراوغته الغزالة الجميلة مراراً ، وكادت أكثر من مرة أن تفلت منه ، وتتوارى بين الأشجار الكثيفة ، لكنه على غير عادته ، كان يطاردها مرة بعد مرة ، دون أن يدري إنه يطارد قدره .
وأنهكت الغزالة تماماً ، وتعثرت أكثر من مرة ، وأكثر من مرة أوشكت أن تتهاوى فوق الأرض ، لكنها سرعان ما تتمالك نفسها ، وتواصل ركضها محاولة الإفلات من مطارديها .
واندفعت الغزالة لاهثة متعبة إلى أجمة كثيفة الأشجار ، دون أن تعرف أنها وقعت في ما يشبه فخ طبيعي من الأشجار المتقاربة الكثيفة .
واندفع الأمير دوشيانتا خلفها ، وفي أثره اندفع حراسه الثلاثة ، وتوقفت الغزالة خائفة لاهثة ، وتقدم الأمير دوشيانتا منها على حصانه ، وعيناه لا تفارقان عينيها السوداوين الجميلتين ، لكنه سرعان ما فوجى بما أدهشه ، وأصابه بالذهول .
لقد تطلعت الغزالة إليه بعينيها السوداوين الجميلتين ، وفجأة بدأت تتحول أمام عينيه ، شيئاً فشيئاً ، إلى فتاة شابة ، ذات عينين سوداوين جميلتين ، فتوقف الأمير دوشيانتا ، ثم أشار إلى حراسه الثلاثة ، دون أن يلتفت إليهم ، وقال : توقفوا .
وتوقف الحراس الثلاثة ، فقال الأمير دوشيانتا : انتظروني خارج هذه الأجمة .
وعلى الفور ، انسحب الحراس الثلاثة ، وقد أصابهم ما رأوه بذهول شديد ، وترجل الأمير دوشيانتا عن حصانه ، وقال للفتاة بصوت هادىء : لا تخافي ، اطمئني ، لن أدع أحداً يؤذيك .
وحاولت الفتاة أن تتمالك نفسها ، وقالت بصوت رقيق عذب : أشكرك .
واقترب الأمير دوشيانتا منها بضع خطوات ، وقال : أنا الأمير دوشيانتا ابن ملك هذه البلاد .
وتطلعت الفتاة إليه بشيء من الاطمئنان ، وقالت : وأنا جايا ، ابنة الحكيم كانفا .
وقال الأمير : آه كانافا ! أنت ابنة رجل عظيم مقدس ، لكن ..
وقالت الفتاة : لكن .. رأيتني غزالة .
وقال الأمير : نعم ، وهذا أمر عجيب .
فقالت الفتاة : لا تعجب ، فأمي هي الحورية ميناكا .
وابتسم الأمير ، وقال : آه ، هذا يفسر الأمر .
وتناهى من بعيد صوت جرس ، تردد صداه في أرجاء الغابة ، ورفع الأمير دوشيانتا رأسه منصتاً ، فقالت الفتاة ـ الغزالة جايا : هذا أبي ، الحكيم مينكا ، إنه يدعوني للعودة .
وتنحى الأمير قليلاً ، وقال : تفضلي ، اذهبي ، لن يعترض أحد طريقك ، أو يمسك بسوء .
وتطلعت الفتاة ـ الغزالة .. جايا إليه صامتة ، فقال الأمير : ليتني أستطيع أن أراكِ ثانية .
فقالت الفتاة : سأنتظرك هنا بعد غد ، في نفس هذا الوقت ، تعال وحدك .
وأشرق وجه الأمير دوشيانتا بالفرح ، وقبل أن ينطق كلمة ، رأى الفتاة تعود كما كانت غزالة ، وسرعان ما انطلقت مسرعة نحو مصدر صوت الجرس .
















" 4 "
ــــــــــــــــــ

علمت الأميرة كانفا بأن الأمير قد عاد من الغابة ، وما أثار استغرابها ، أنه عاد ، على غير عادته ، في نفس اليوم الذي ذهب فيه .
ترى ماذا جرى ؟
واعتصمت في جناحها ، تنتظر الإجابة ، التي لن تأتيها إلا من وصيفتها ، زوجة الحارس الذي رافق الأمير ، مع الحارسين الآخرين ، إلى الغابة .
ولم يهدأ للأميرة كانفا بال ، وظلت تذرع غرفتها ذهاباً وإياباً ، تنتظر بصبر نافد ، أن تقف على حقيقة ما جرى للأمير دوشيانتا في الغابة .
ولو لم تعرف حرص وصيفتها على إيصال المعلومات لها عن الأمير ، وبأسرع وقت ممكن ، لقررت أنزال أشد العقوبات فيها ، والتي طالما أنزلتها بخدمها وخادماتها ، بل والحرس والوصيفات ، لأبسط تقصير أو خطأ ، ربما غير متعمد ، يصدر منهم .
وأقبلت الوصيفة أخيراً ، فأسرعت الأميرة إليها ، وقالت : ماذا دهاك لتتأخري هكذا ؟
وردت الوصيفة بصوت لاهث : سيدتي ، انتظرت زوجي حتى عاد إلى البيت ، و ..
وقاطعتها الأميرة قائلة : دعيني من هذا ، واخبريني بكل ما جرى ، وبالتفصيل .
والتقطت الوصيفة أنفاسها بصعوبة ، وقالت : أمر سيدتي .
وصاحت بها الأميرة منفعلة : هيا أخبريني .
فقالت الوصيفة : سيدتي .. لقد طارد سيدي الأمير دوشيانتا غزالة .. غزالة جميلة .. وطاردها معه الحرس الثلاثة .. من بينهم زوجي .. حتى حاصروها في أجمة كثيفة الأشجار .
وتمتمت الأميرة كانفا : آه هذا جيد ، لقد طلبت من الأمير دوشيانتا أن يأتيني بغزالة .
ونظرت إلى الوصيفة ، وقالت : لكنه ، حسب علمي ، لم يأتِ بأية غزالة .
وقالت الوصيفة مترددة : تلك الغزالة .. تحولت فجأة .. إلى فتاة .. فتاة جميلة .
وبرقت عينا الأميرة بشرارات من الغضب ، وقالت : تباً لك ، وبهذيانك هذا .
وتراجعت الوصيفة خائفة ، وقالت : عفواً سيدتي ، هذا ما رآه زوجي .
وصاحت الأميرة منفعلة : تكلمي ، ماذا رأى زوجك الأحمق أيضاً ؟
وتأتأت الوصيفة قائلة : أبعده .. أبعده سيدي دوشيانتا .. هو والحارسين الآخرين .. خارج الأجمة .. فلم يستطع أن يرَ شيئاً .
وبانفعال أشد ، صاحت الأميرة جايا : انصرفي .
وعلى الفور ، انصرفت الوصيفة ، ومضت متعثرة إلى داخل القصر .
لم يقرّ للأميرة كانفا قرار ، وراحت تدور في الغرفة مزمجرة ، وكأنها لبوة جريحة تدور في قفص من الحديد اللاهب ، ثم توقفت ، والشرر يتطاير من عينيها .
وتراءت لها الملكة ، وعلى الفور ، خرجت مسرعة من جناحها ، قاصدة جناح الملة ، وهي تحاول جهدها ، أن تكتم غيظها وغضبها .
وكالعادة استقبلتها الملكة بوجهها الهادىء السمح ، وقالت بصوتها الرقيق : كانفا ..
وبدون أن تحيي الملكة ، قالت الأميرة بصوت يشي بدوامة مكتوم : مولاتي ، عاد دوشيانتا ..
وابتسمت الملكة ، وقالت : خطيبك .
وواصلت الأميرة كانفا حديثها ، متغاضية عن تعليق الملكة ، وقالت : عاد سريعاً هذه المرة ..
واتسعت ابتسامة الملكة ، وقالت : ولم يأتكِ بالغزالة ، التي طلبتها منه .
ولاذت الأميرة كانفا بالصمت مغالبة انفعالها ، فقالت الملكة : تناهى إليّ هذا من إحدى العصفورات ، هذه أمور تهمني .
وقالت الأميرة كانفا ، بصوت تخنقه دموع الغضب : لكن ما لم يتناهَ إليك ، يا مولاتي ، أنه قابل في أجمة بالغابة ، فتاة ـ غزالة ..
ونظرت الملكة إليها ، وهي تغالب ابتسامتها : كانفا ، بنيتي ، ماذا دهاك ؟
واستدارت الأميرة كانفا ، ومضت مسرعة إلى الخارج ، وهي تقول بصوت يخنقه الغضب : سأجن ، يا مولاتي ، إن لم أكن قد جننت .










" 5 "
ــــــــــــــــــــ

هل نامت الأميرة جايا تلك الليلة ؟
نعم ، نامت نوماً متقطعاً ، قبيل الفجر بقليل ؟
وكيف تنام نوماً طبيعياً ، وهي ترى الغزالة ـ الفتاة ، حتى في نومها المتقطع ؟
آه لو وقعت تلك الغزالة ـ الفتاة بين يديها أو بين أسنانها ، لقطعتها ، آه .. يا للآلهة .. من أين جاءتها تلك الفتاة ـ الغزالة ؟ .. أم الغزالة ـ الفتاة ؟
ومهما يكن ، فإن الاعتكاف في جناحها ، لن يفيدها ، ثم إن الاعتكاف احتجاجاً ، ليس من عادتها ، وعليه لابد من المواجهة ، ومواجهة الأمير دوشيانتا بالذات .
وحانت الفرصة ، حين لمحت الأمير دوشيانتا ، قبيل منتصف اليوم التالي ، من إحدى نوافذ جناحها ، يتمشى ساهماً في حديقة القصر ، وعلى الفور ، ودون تردد ، أسرعت بالخروج من جناحها ، ومضت مسرعة إلى الحديقة .
ورآها الأمير دوشيانتا فتوقفت ، كأن وجودها في الحديقة كان عرضاً ، لكنها سرعان ما تقدمت إليه ، وتوقفت على مقربة منه ، وقالت تحييه : طاب صباحك ، يا أميري .. دوشيانتا .
وردّ الأمير قائلاً دوشيانتا : أهلاً كانفا .
ونظرت الأميرة كانفا إليه ، وقالت : عجباً ، يا أميري ، عدت سريعاً هذه المرة .
لم يحر الأمير دوشيانتا جواباً ، فقالت الأميرة كانفا : ظننتُ أنك ستأتيني بالغزالة التي طلبتها منك َ .
وحدق الأمير دوشيانتا فيها ، ثم قال : أنتِ لم تطلبي غزالة ، بل غزال ، يا كانفا .
فقالت الأميرة جايا : ها أنت تذكر ما طلبته منك بالضبط ، يا أميري دوشيانتا .
وقال الأمير ممازحاً : لم أرَ غزالاً .
فقالت الأميرة كانفا ، وهي تغالب غيظها : لكنك رأيت غزالة .
لم يرتح الأمير لنبرة صوتها ، لكنه قال بصوت هادىء : أنت تعرفين ، إنني لا أذهب إلى الغابة ، لصيد الغزلان ، بل للتريض في مطاردتها فقط .
فقالت الأميرة جايا ، بنبرة ذات معنى : آه ، فهمت .
وهنا أقبلت وصيفة ، وانحنت للأمير ، وقالت : سيدي الأمير .
ونظر الأمير إليها ، وقال : نعم .
فقالت الوصيفة : سيدي ، جلالة الملكة تريدك في جناحها الآن .
وكأن هذا الأمر ، جاء نجدة للأمير دوشيانتا ، فنظر إلى الأميرة كانفا ، وقال : عن إذنك .
وقالت الأميرة كانفا ، وهي تهرب بعينيها المنفعلتين من عينيه : تفضل .
ومضى الأمير متجهاً نحو الداخل ، والوصيفة تسير في أثره ، تاركاً الأميرة جايا وحيدة في الحديقة .
ودخل الأمير دوشيانتا على أمه الملكة ، وقال : طاب صباحك ، يا مولاتي الملكة .
ونظرت الملكة إليه ، وقال : لو تعرف ، يا بنيّ دوشيانتا ، إنني أفضل ، يا أمي على يا مولاتي الملكة .
ونظر الأمير دوشيانتا إليها ، وقال : لكنك أنت الملكة ، يا مولاتي .ومدت الملكة يديها ، وأمسكت يديه بحنان ، وقالت : بعد أشهر لن أكون أنا الملكة ، بل أنتِ .
وقبل الأمير دوشيانتا يد الملكة ، وقال : مهما يكن ، يا أمي ، فأنت مولاتي وملكتي .وعانقته الملكة ، وهي تقول : أبوك كان ملكاً عظيماً ، وأريدك ، يا بنيّ دوشيانتا ، أن تكون ملكاً عظيماً مثله .
ولاذت الملكة بالصمت لحظة ، وقالت وهي تحدق في الأمير دوشيانتا : بنيّ .
فردّ الأمير دوشيانتا بصوت رقيق : نعم أمي .
وقالت الملكة : الأميرة كانفا .
ولاذ الأمير دوشيانتا بالصمت ، فقالت الملكة : إنها خطيبتك ، يا بنيّ .
وظلّ الأمير دوشيانتا صامتاً ، فقالت الملكة : ستجن الأميرة كانفا ، يا بنيّ ، تصور إنه تتحدث عن فتاة ـ غزالة ، أو غزالة فتاة .
وتنهد الأمير دوشيانتا ، وقال : عن اذنك ، يا أمي ، إنني متعب ، وأريد أن أرتاح .
لم تفه الملكة بكلمة ، فاستدار الأمير دوشيانتا ، وخرج من جناح الملكة ، ومضى إلى جناحه .














" 6 "
ـــــــــــــــــــ

في الوقت المحدد ، وفي المكان المحدد ، حاول الأمير دوشيانتا جهده ، أن يتواجد ، للقاء الفتاة ـ الغزالة جايا ، في الأجمة .
وعند حدود الأجمة ، وفي الوقت المحدد ، حوالي بعد منتصف النهار ، توقف الأمير دوشيانتا ، وترجل عن حصانه ، وربطه إلى شجرة قريبة .
وتلفت يميناً ويساراً ، لم يرَ أحداً ، وأنصت لحظات ، لعله يسمع شيئاً ، لكنه ، وعلى مرمى سمعه ، لم يسمع غير أصوات الطيور المختلفة .
ودخل الأمير دوشيانتا الأجمة على حذر ، وكله أمل أن يرى في انتظره الفتاة ـ الغزالة .. جايا ، وتلفت في زوايا الأجمة ، لكنه لم يقع لها على أثر .
وتسمر الأمير دوشيانتا في مكانه منصتاً ، حين تناهى إليه من مكان قريب ، وقع أقدام رقيقة ، أهي الفتاة قادمة أم الغزالة أم .. ؟
والتفت إلى مصدر الصوت ، وإذا الفتاة .. جايا وليس الغزالة ، تبرز من بين الأشجار ، وتقترب منه ، وتحييه بصوت رقيق : طاب صباحك ، يا دوشيانتا .
واقترب الأمير دوشيانتا منها هو الآخر ، وقال بصوت فرح : طاب صباحك ، يا جايا .
وابتسمت جايا ، وقالت : جئتُ قبلك ، لكني اختبأت خلف إحدى الأشجار ، وراقبت الطريق ، حتى رأيتك على الحصان تقبل وحدك .
وابتسم الأمير دوشيانتا بدوره ، وقال : هذه المرة ، لم أصطحب حرسي الثلاثة ، فأنا أريد أن ألتقي بكِ هنا وحدي ، يا جايا .
وتلفتت جايا حولها ، وقالت : الغابة تكاد تكون خالية إلا من الكائنات الحية المسالم ، ما رأيك يا دوشيانتا ؟ لنتمشَ قليلاً في الجوار .
وبدا الفرح على الأمير دوشيانتا ، وقال : كما تشائين ، يا جايا ، لنتمشّ َ .
وسارت جايا ، وإلى جانبها سار الأمير دوشيانتا ، وخرجا معاً من الأجمة الكثيفة الأشجار ، وراحا يتمشيان صامتين ، ونظرت جايا إليه ، وقالت : إنني غالباً ما أترك البيت ، وأتجول وحيدة في الغابة .
وابتسم الأمير دوشيانتا ، وهو يمشي إلى جانبها ، وقال : تتجولين بهيئة غزالة أم .. ؟
وابتسمت جايا بدورها ، وقالت : غزالة مرة ، وفتاة مرات ، وأنت رأيت الحالتين .
وتطلع الأمير دوشيانتا إلها ، وقال : أنت رائعة في الحالتين ، وإن كنت أفضل الفتاة .
وأطرق جايا مغالبة ابتسامة فرحة ، واقترب الأمير دوشيانتا منها أكثر ، وقال : منذ يومين وأنا أفكر فيك ، وقد شغلني سؤال ..
ونظرت جايا إليه متسائلة ، وقالت : لابد أنه سؤال مهم ، يا دوشيانتا .
وقال الأمير دوشيانتا : مهم للغاية .
فتساءلت جايا مبتسمة : ما هو ؟
وقال الأمير دوشيانتا : هل أنتِ غزالة تتحول إلى فتاة ، أم فتاة تتحول إلى غزالة ؟
وضحكت جايا ، وقالت : ماذا تفضل ؟
فأجاب الأمير دوشيانتا : الحقيقة .
فقالت جايا مبتسمة : اسأل أبي .. الحكيم .
وتوقفت جايا ، وأشارت بيدها إلى بيت في سفح الجبل ، تكاد تخفيه الأشجار ، وقالت : انظر .
ونظر الأمير دوشيانتا حيث تشير فأضافت جايا : ذاك هو بيتنا ، أعيش فيه الآن مع أبي .. الحكيم .
وقال الأمير دوشيانتا ، وهو ما زال ينظر إلى البيت : يا له من بيت جميل ، ليتني أعيش فيه مع أبيك الحكيم و .. ومعك أنتِ .
ولاذت جايا بالصمت برهة ، ثم قالت : لقد حدثتُ أبي الحكيم عنك .
ونظر الأمير دوشيانتا إليها ، فتابعت قائلة : ونصحني أن لا ألتقي بك .
وبدت الدهشة على الأمير دوشيانتا ، فقالت جايا : لكني لم أستطع العمل بنصيحته ، وآمل أن لا أندم على ذلك في يوم من الأيام .
ومال الأمير دوشيانتا إليها ، وقال : لن تندمي ، فأنا أكنّ لك كلّ الاحترام والمحبة .
وهنا تناهى إليهما رنين الجرس ، الذي راح صداه يتردد في أرجاء الغابة ، فنظرت جايا إليه ، وقالت : أبي الحكيم يناديني ، آن أن نفترق .
وأمسك الأمير دوشيانتا يديها ، وابتسم لها ، وقال : تحياتي إلى أبيك الحكيم ، أتمنى أن نلتقي قريباً.
فقالت جايا : رافقتك السلامة ، يا دوشيانتا .
ومضت جايا مبتعدة ، فهتف الأمير دوشيانتا ، وعيناه المحبتان تتابعانها : نلتقي غداً أو بعد غد .
فردت جايا : بعد أسبوع ، يا دوشيانتا ، إلى اللقاء .




" 7 "
ـــــــــــــــــــــ

ما لم يعرفه الأمير دوشيانتا ، أن الأميرة كانفا ، عرفت بذهابه إلى الأجمة في الغابة ، وأنه التقى هناك بالفتاة ـ الغزالة .
لقد أخبرتها بذلك العصفورة ، وأخبرتها العصفورة أيضاً كم دام لقاءهما في الأجمة ، وأنهما خرجا بعد ذلك ، وتجولا طويلاً بين أشجار الغابة .
والعصفورة التي أخبرت الأميرة كانفا بكل ذلك ، هي طبعاً وصيفتها ، زوجة الحارس ، فقد تبع الأمير ، بأمر من الأميرة كانفا ، وراقبه مراقبة شديدة ، وعرف كلّ شيء عن لقائهما ، بل وموعد اللقاء القادم أيضاً ، في نفس المكان من الغابة .
وجنّ جنون الأميرة كانفا ، وفكرت طويلاً في ما يمكن أن تفعله ، عدا مراقبتها الشديدة له ، داخل القصر وخارجه ، وأخيراً قررت أن تلجأ إلى الملكة الأم ، لتضعها في الصورة ، وتطلب منها العون .
وذات مساء ، قصدت الأميرة كانفا جناح الملكة ، ومن حسن حظها أن الملكة كانت وحدها ، فاستقبلتها مرحبة ، وقالت : أهلاً بنيتي كانفا .
وقالت الأميرة كانفا : أهلاً بك مولاتي .
ونظرت الملكة إليها مبتسمة ، وقالت بصوتها الرقيق : دوشيانتا أيضاً ؟
وهزت الأميرة كانفا رأسها ، وهي تغالب انفعالها ، فقالت الملكة : إنه ابن عمك ، وخطيبك .
وقالت الأميرة كانفا : ابن عمي ، نعم .
وقالت الملكة : وخطيبك أيضاً .
وقالت الأميرة كانفا : هذا ما أتمناه .
وتساءلت الملكة : ما الأمر ، يا بنيتي ؟
ونظرت الأميرة كانفا إليها بعينين دامعتين ، وقالت : إنه يلتقي في الغابة بالفتاة ـ الغزالة .
وتطلعت الملكة إليها مندهشة ، وقالت : الفتاة ـ الغزالة مرة أخرى !
وقالت الأميرة كانفا ، وهي تغالب دموعها : نعم ، يا مولاتي ، أنتِ لم تصدقيني ، في المرة السابقة ، عندما حدثتك عن الفتاة ـ الغزالة .
وهزت الملكة رأسها ، وقالت : هذا أمر لا يكاد يُصدق ، يا بنيتي كانتا .
فقالت الأميرة كانفا : لكنه الحقيقة ، يا مولاتي ، وهذا لا يمكن السكوت عليه .
ونظرت الملكة إليها مفكرة ، ثم قالت : لا عليكِ ، يا بنيتي ، اذهبي إلى جناحك ، وسأرسل إلى دوشيانتا ، وأتحدث إليه .
وذهبت الأميرة كانفا إلى جناحها ، وسألت الملكة عن الأمير دوشيانتا ، فقيل لها أنه يجلس في الحديقة ، وبدل أن ترسل من يدعوه إليها ، خرجت من جناحها ، ومضت إلى الحديقة .
وبالفعل رأت الأمير دوشيانتا ، جالساً على مصطبة تحت إحدى الأشجار ، فاقتربت الملكة منه ، وقالت : الشعراء والحالمون وحدهم يجلسون هكذا .
ورفع الأمير دوشيانتا رأسه إلى الملكة ، وقال دون أن يبتسم : أهلاً أمي .
وتنحى قليلاً ، وقال : تفضلي ، يا أمي ، واجلسي إلى جانبي .
وجلست الملكة إلى جانبه ، وقالت : عندما كنت تذهب إلى الغابة في صغرك ، وتعود عند المساء ، كنت تحدثني عن كلّ ما تراه .
ولاذ الأمير دوشيانتا بالصمت ، فنظرت الملكة إليه ، وقالت : أنت لم تعد صغيراً ، يا دوشيانتا ، لكنك ما زلت وستبقى ابني .
ونهض الأمير دوشيانتا ، وقال : مادمت ابنك الصغير ، كما ترينني ، فأنا جائع ، تعالي إلى الداخل ، وتناولي الطعام معي .
ونهضت الملكة ، وسارت وإياه متجهين إلى داخل القصر ، وهي تقول : ما زلت ماكراً ، لكني مع ذلك أريد أن تحدثني بعد العشاء عن .. الفتاة ـ الغزالة .
ولاذ الأمير دوشيانتا بالصمت ، وظلّ على صمته ، وهو يتناول طعام العشاء مع أمه الملكة ، ومن جهتها احترمت الملكة صمته ، وأرجأت الحديث عن الفتاة ـ الغزالة ، إلى وقت آخر .
















" 8 "
ـــــــــــــــــــ

بعد أسبوع ، وحسب الموعد ، امتطى دوشيانتا حصانه ، مع الفجر ، وانطلق نحو الغابة ، لمقابلة الفتاة ـ الغزالة .. جايا .
ومن بعيد ، لمح دوشيانتا الفتاة ـ الغزالة .. جايا ، تقف على مشارف الأجمة ، فحثّ حصانه ، يستعجل لقاءها ، وترجل عن الحصان ، على مقربة منها ، فقالت جايا ، دون أن تتحرك من مكانها : صباح الخير .
ولاحظ دوشيانتا أن جايا لم تكن فرحة بلقائه ، كما كانت في المرة السابقة ، لكنه تغاضى عن ذلك ، وردّ على تحيتها قائلاً : صباح النور .
وأضاف وهو يربط حصانه إلى شجرة قريبة : يبدو أنك وصلتِ تواً ، يا جايا .
فقالت جايا : لا ، جئتُ مبكرة .
واقترب دوشيانتا منها ، وقال : تعالي ندخل الأجمة .
ومرة أخرى لم تتحرك جايا من مكانها ، وقالت : ليس الآن ، أبي ينتظرنا في البيت .
ونظر دوشيانتا إليها متسائلاً ، فقالت : إنه يريد أن يراك ، ويتحدث إليك .
وسارت جايا صامتة ، نحو البيت الواقع على سفح الجبل ، والذي يكاد يختفي بين الأشجار ، وسار دوشيانتا إلى جانبها ، وانتظر أن تتكلم ، لكنها ظلت صامتة ، لا تنطق بكلمة واحدة .
ونظر دوشيانتا إليها ، وقال : جايا ، تبدين متعكرة ، أرجو أن لا يكون الأمر متعلقاً بي .
وردت جايا ، دون أن تلتفت إليه : لقد حدثتُ أبي عن لقائنا الأخير ، فقال إنه يريد أن يراك .
ولم يرتح دوشيانتا إلى نبرة صوتها ، لكنه قال : هذا شرف لي ، يا جايا .
وعادت جايا تسير صامتة ، ولزم دوشيانتا الصمت ، حتى صعدا السفح .
وعند مشارف البيت ، كان الحكيم بانتظارهما ، وتوقفا على مقربة منه ، وقالت جايا : إبي ، هذا هو الأمير .. دوشيانتا .
ونظر دوشيانتا إلى الحكيم ، وقال : طاب صباحك ، يا سيدي .
ورمقه الحكيم بنظرة سريعة ، وقال : أهلاً بك ، يا دوشيانتا ، أهلاً ومرحباً .
وقالت جايا : أبي ، لنأخذ ضيفنا إلى الداخل .
فقال الحكيم : أدخلي أنتِ ، يا بنيتي ، أريد أن أتحدث قليلاً إلى دوشيانتا .
ورمقت جايا دوشيانتا بنظرة سريعة ، ودخلت البيت ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة .
ونظر الحكيم إلى دوشيانتا ، وقال : أخشى أن تكون متعباً ، يا ولدي .
فهزّ دوشيانتا رأسه ، وقال : لا ، لستُ متعباً .
وقال الحكيم ، وهو يأخذ بيده : لنتمشَ قليلاً ، فلديّ ما أتحدث فيه إليك .
فقال دوشيانتا : كما تشاء ، يا سيدي .
وسار الحكيم بخطواته البطيئة المتأنية ، وإلى جانبه سار دوشيانتا صامتاً ، وبعد قليل قطع الحكيم الصمت ، وقال : أظن أن بنيتي جايا قد حدثتك عني .
فقال دوشيانتا : نعم ، يا سيدي .
وقال الحكيم : وحدثتك أيضاً عن أمها .
ومرة أخرى ، قال دوشيانتا : نعم ، يا سيدي .
وتابع الحكيم قائلاً : إنني كما تعلم حكيم ، وزوجتي أم جايا حورية من حوريات الغابة .
ولاذ دوشيانتا بالصمت ، فقال الحكيم : ولكن هناك أمر لا تعرفه ، وعليّ أن أوضحه لك .
ونظر دوشيانتا إليه متوجساً ، فقال الحكيم : لا يجوز لابنة حكيم من حورية ، أن ترتبط بإنسان ، مهما كان مركزه .
وصمت الحكيم ، وأطرق دوشيانتا رأسه ، دون أن يتفوه بكلمة ، ومدّ الحكيم يده ، وربت برفق على كتف دوشيانتا ، وقال : لم أشأ لابنتي جايا ، أن تمرّ بهذه التجربة ، لكنه القدر .
وصمت الحكيم مرة أخرى ، ثم نظر إلى دوشيانتا ، وقال : ابقّ ، وتناول معنا طعام الغداء .
ورفع دوشيانتا رأسه ، وقال : أشكرك ، يا سيدي ، الأفضل أن أعود إلى المدينة .
وقال الحكيم : آمل أن تتفهم موقفي .
ومضى دوشيانتا مبتعداً ، وهو يقول : أستودعك الآلهة ، يا سيدي .
فردّ الحكيم بصوته الرقيق : رافقتك السلامة ، يا ولدي ، رافقتك السلامة .







" 9 "
ـــــــــــــــــــ

دخل الحكيم البيت ، وكانت جايا تنتظره ، على أحرّ من الجمر ، فنظرت إليه بعينين دامعتين متوجستين ، وقالت : دوشيانتا ..
وصمتت جايا مختنقة بدموعها ، فقال الحكيم : قلتُ لك ، يا بنيتي ، منذ البداية ، أن من الأفضل ، لكِ ولهُ ، أن لا تلتقيان مرة أخرى .
وانسكبت دمعتان على خديها الشاحبين ، لكنها لم تحاول أن تمسحهما ، فأضاف الحكيم بصوته الرقيق : هذا هو القانون عندنا ، وأنت تعرفينه ، يا جايا ، وكان عليك أن تراعيه ، مهما كان السبب .
ولم تنطق جايا بكلمة واحدة ، فابتعدت بعينيها الدامعتينعن أبيها الحكيم ، ، واعتصمت بغرفتها ، وحين حان وقت الغداء ، جاءها أبوها الحكيم ، وقال : بنيتي ، الغداء جاهز .
لم تجب جايا ، ولم تخرج للغداء ، وعند المساء ، جاءها أبوها الحكيم ثانية ، وثانية قال : بنيتي ، العشاء جاهز ، وهو طعام تحبينه .
وثانية لم تجب ، فنظر الحكيم إليها طويلاً ، ثم جلس إلى جانبها ، وقال : جايا ، لم تعودي صغيرة ، يا بنيتي ، تعالي وتناولي طعامك .
ودون أن تنظر إليه ، قالت جايا : أريد أن أذهب إلى جدتي ، وأبقى عندها عدة أيام .
ونهض الحكيم ، وقال وهو يغادر الغرفة : لكِ ما تشائين ، تعالي كلي أولاً .
ومع ذلك ، بقيت كانفا معتصمة بغرفتها ، ولم تخرج حتى لتناول الطام .
وفي اليوم التالي ، ذهبت جايا إلى جدتها ، التي كانت تسكن كوخاً ، قرب نهر صغير ، وسط الغابة ، وبعد منتصف النهار ، وصلت جايا الكوخ ، وإذا الجدة تقف بالباب تنتظرها .
وأسرعت جايا إلى جدتها ، وارتمت بين ذراعيها ، فقالت الجدة : أهلاً جايا .
ونظرت جايا إلى جدتها ، وقالت : حمداً للآلهة ، أنت تبدين في صحة جيدة .
وقالت الجدة : هكذا أبدو .
وأخذت بيد جايا ، وقالت : أعددت لكِ ما كانت تحبه أمك ، يا حبيبتي جايا من طعام .
وابتسمت جايا ، وقالت : فطر .
وحدقت الجدة فيها ملياً، ثم قالت : أنت تشبهين أمك تماماً ، يا جايا ، تشبهينها في كلّ شيء ، حتى في عنادها ، واختياراتها .
ولكي تبعد جايا جدتها عن تناول " اختيارها " ، قالت : جدتي ، إنني جائعة .
وطوال عدة أيام ، تجنبت جايا الحديث مع جدتها ، حول أي شيء يمت بصلة إلى دوشيانتا ، فجدتها التي عارضت ارتباط ابنتها الحورية ، بحكيم الغابة ، ماذا سيكون رأيها وموقفها من .. دوشيانتا ؟
وذات يوم ، عند منتصف الليل تقريبا ، قالت الجدة ، وهي تعتدل في فراشها : جايا .
وردت جايا ، دون أن تعتدل : نعم جدتي .
فقالت الجدة : دوشيانتا ..
واعتدلت جايا ، وقالت : دوشيانتا !
وهمهمت الجدة : هم م م م .
وتقالت جايا : لكني لم أحدثك عنه .
وقالت الجدة : القانون هو القانون ، يا جايا ، لكن لابد أن تعلمي ، أن دوشيانتا مريض .
وهبت جايا واقفة ، فقالت الجدة : نامي ، يا بنيتي الآن ، وسأمكنك غداً من زيارته .
لم تنم كانفا ، وكيف تنام ودوشيانتا مريض ؟
لكن ما العمل .
فالقانون هو القانون ، كما يقول أبوها .. الحكيم .
هيا أيها الفجر ، فهي على موعد مع .. دوشيانتا .



















" 10 "
ــــــــــــــــــــــ

الفتاة ـ الغزالة
أم الغزالة ـ الفتاة ؟
أم جايا ؟
لقد تركت لها جدتها الخيار ، فلها أن تكون غزالة ، أو فتاة ـ جايا ، بل وحتى جايا مرئية مرة ، ومرة غير مرئية ، حسب مشيئتها .
ومهما يكن ، فهي الآن في طريقها إلى دوشيانتا ، فقد وعدتها جدتها ليلة أمس ، بعد أن أخبرتها بأنه مريض ، أن تمكنها من زيارته في جناحه بالقصر ، بأية طريقة من الطرق .
وانطلقت جايا من بيت جدتها ، القريب من النهر ، وسط الغابة ، انطلقت غزالة ، عبر الغابة الشاسعة ، وأية غزالة .
وحين وصلت المدينة ، حيث القصر الملكي ، دخلتها فتاة قروية ، ترتدي زي الفتيات الفلاحات ، وسارت بين الناس ، في الشوارع ، حتى وصلت القصر .
وتوقفت حائرة ، والآن ما العمل ؟
غزالة ؟ أم فتاة ـ جايا ، أم .. ؟
واندفعت من بين الحرس ، الذين يقفون بالباب ، شاكي السلاح ، دون أن يراها أحد ، ثم دخلت القصر ، وسارت عبر ممراته ، متجهة نحو مقصورة الأمير دوشيانتا ، وكأنها عاشت فيه عمرها كله .
واجتازت بوابة المقصورة ، ثم دفعت بهدوء باب غرفة نومه ، وفتح دوشيانتا عينيه ، لكنه لم يرِ أحداً ، يا للعجب ، الباب مفتوح ، فمن فتحه ؟
وفوجىء بالباب يُغلق بنفس الطريقة ، واعتدل مذهولاً ، وهمّ أن يصيح على الحرس ، حين ظهرت أمامه فجأة غزالة ، ترى أهي نفس الغزالة ؟
وقبل أن يفيق الأمير دوشيانتا من ذهوله ، تحولت الغزالة ، أمام عينيه المتسعتين المندهشتين ، إلى فتاة ، إنها الفتاة ـ الغزالة ، وتمتم : جايا .
واقتربت جايا منه ، وهي تقول في صوت خافت : هششش ، لا ترفع صوتك .
وتلفت دوشيانتا حوله ، ثم نظر إلى جايا ، وقال : كيف دخلت القصر ، ووصلتِ جناحي ؟
وجلست جايا على طرف الفراش ، وقالت : كما رأيت ، يا دوشيانتا .
وقال دوشيانتا مذهولاً : هذا مستحيل .
فقالت جايا : لا تنسَ ، يا دوشيانتا ، إنني ابنة حورية ، وجدتي حورية أيضاً .
وقال دوشيانتا : لكن الحكيم أبوك .
ونظرت جايا إليه ، وقالت : ليتك مثله ، يا دوشيانتا ، لاختلف الأمر .
وشهق دوشيانتا : جايا .
وقالت جايا بصوت دامع : جئتُ أودعك .
وصمتت جايا لحظة ، ثم قالت : كانت هذه هي أمنيتي الأخيرة ، وقد حققتها لي جدتي .
ونهضت جايا ، وأمام عيني دوشيانتا المذهولتين ، تحولت إلى غزالة ، وسرعان ما انطلقت بخطى رشيقة وسريعة ، إلى الباب .
وهبّ دوشيانتا من فراشه ، وهو يصيح بأعلى صوته : جايا ، توقفي .
لكن الغزالة لم تتوقف ، بل اختفت تماماً ، وفتح الباب ، وقبل أن يصل جايا أقفل ، وعلى الفور ، أقبلت الأميرة كانفا والملكة وعدد من الوصيفات .
وهتفت كانفا : ما الأمر ، يا دوشيانتا ، ما الأمر ؟
وصاح دوشيانتا : جايا .
وتمتمت الملكة : جايا !
وعبست كانفا ، وقالت : الفتاة ـ الغزالة .
ونظرت الملكة إليها ، فقالت الأميرة بصوت يخنقه الغضب : الغزالة ـ الفتاة .
ونظرت الملكة إلى دوشيانتا ، وقالت : بنيّ ..
فاندفع دوشيانتا إلى الخارج ، يركض متعثراً ، فلحقت به كانفا ، وهي تصيح : دوشيانتا ..
وصاحت الملكة : تعال ، يا بنيّ ، أنت مريض .
وصاح دوشيانتا ، وهو يركض بجنون ، دون أن يلتفت إلى أحد : جايا .. جايا

















" 11 "
ـــــــــــــــــــــ

انطلق دوشيانتا على حصانه ، متجهاً نحو الغابة ، لعله يلحق بالفتاة ـ الغزالة .. جايا ، رغم معاناته من الحمى ، التي لم يشفّ منها بعد .
وقبل أن يبتعد كثيراً عن المدينة ، تناهى إليه وقع حوافر خيل ، تجري في أثره ، والتفت وراءه ، وإذا عدد من فرسان القصر ، يحاولون اللحاق به .
وتوقف دوشيانتا ، واستدار بحصانه نحو الفرسان القادمين ، فتوقفوا على الفور ، ثم تراجعوا مترددين ، وقفلوا عائدين من حيث أتوا .
وانطلق دوشيانتا ثانية ، نحو الغابة ، وهو يتلفت يميناً ويساراً ، بحثاً عن الفتاة ـ الغزالة .. جايا ، لكنه ، وعلى طول الطريق ، لم يعثر لها على أثر .
ووصل أخيراً إلى الأجمة ، التي التقى فيها أكثر من مرة ، مع الفتاة ـ الغزالة .. جايا ، وبحث عنها داخل الأجمة وخارجها ، ولكن دون جدوى .
وبعد أن ربط حصانه بشجرة قريبة ، اتجه دوشيانتا إلى بيت الحكيم ، فمادام لم يجد جايا ، لا في الطرق ، ولا في الأجمة أو محيطها ، فلابد أن تكون إذن في البيت ، مع أبيها الحكيم .
وتسلق دوشيانتا سفح الجبل ، بكثير من الصعوبة ، لكنه لم يتوقف لحظة كي يلتقط أنفاسه ، ويرتاح قليلاً ، فالمهم عنده أن يجد جايا ، ويتحدث إليها .
وطرق باب الكوخ ، وكاد يطرقه ثانية ، حين فُتح الباب ، وأطل منه الحكيم ، فقال دوشيانتا : إنني أبحث عن جايا ، أين هي ؟
ولأن الحكيم لا يعرف ما جرى ، فقد قال لدوشيانتا : جايا ليست هنا ، لقد ذهبت إلى جدتها ، منذ أيام ، وهي عندها الآن .
وتساءل دوشيانتا : وأين تقيم الجدة ؟
فأجاب الحكيم : في كوخها ، الذي يقع قرب البحيرة ، وسط الغابة .
ومن غير أن يودع الحكيم ، هبط دوشيانتا السفح ، وامتطى حصانه ، وانطلق عبر أشجار الغابة ، متجهاً نحو كوخ الجدة .
ووصل الكوخ ، المطل على البحيرة ، وكله أمل أن يجد جايا عند جدتها ، وعند الباب ، رأى الجدة تقف جامدة ، وكأنها تنتظر قدومه .
وترجل دوشيانتا عن جواده ، فحدقت الجدة فيه ، وقالت : أهلاً دوشيانتا .
وتوقف دوشيانتا على مقربة من الجدة ، وقال : إنني أبحث عن جايا ، وكنت قبل قليل عند الحكيم ، فقال إنها عندك .
ونظرت الجدة إليه ، وقالت : الجد قال لك هذا ، لأنه لا يعرف أنها كانت عندك اليوم .
وقال دوشيانتا : ولكنها خرجت من غرفتي ، ومن القصر ، ولا أدري أين ذهبت .
وتطلعت الجدة إليه ، وقالت : دوشيانتا .
ولمس دوشيانتا في صوتها نغمة غريبة تشي بالخطورة ، فقال : نعم .
وقالت الجدة : جايا حورية .
ونظر دوشيانتا إليها صامتاً ، فقالت : لن تجد لها أثر ، مهما بحثت عنها .
ولاذ دوشيانتا بالصمت ، فاستدارت الجدة ، ودخلت كوخها ، وأغلقت الباب ، ولبث دوشيانتا جامداً للحظات ، ثم امتطى حصانه ، وقفل به عبر أشجار الغابة ، دون عجلة ، عائداً إلى المدينة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام