الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجه الخير و السيف الدمشقي

كمال جمال بك
شاعر وإعلامي

(Kamal Gamal Beg)

2023 / 6 / 1
الادب والفن


"ما حبَّت الرجال كل رجل شجاع، ولا حبَّت النسوان كل امرأة غريرة" الشابة التي لم تعلم ما يعلم النساء من الحب.
سيف دمشقيّ مطليّ بالذَّهب والفضّة ومرصَّع بالأحجار الكريمة سندته به بحدَّين ونصل من الفولاذ الجوهر، يعينه في معارك المنافقين بساحات "حاسد إذا حسد". وأُمُّه كما الأمهات تؤمن بما تراه عليه في مستقبل الأيام، وتضع هذا الاعتقاد بين كفتي ثقل ثقتها وهاجس الخوف من عدم اكتمال بدره في خفّة مداه المأمول.
سيف دمشقي، بل ثلاثة لكلّ واحد غلافه الخارجي ومزاياه الخاصة، أسلحته من والده بماركات باركر وشيفرز ووترومان، وعلامتها المشهورة، مع دواة من الحبر الأزرق أو الأحمر أوالأسود المندلق على صدريّته الخاكي الإبتدائية، والموزعة ببقع آثارها على الشراشف والفراش والكتب والدفاتر وما تطاله من أغراض داخل البيت وخارجه.
رافقت السيوف خناجر ناشفة، فنام فوق المجلات والجرائد مطمئنا من عدم فوران الأحلام عليها، ومن وصايا والده لرياض الجميل بائع المطبوعات المتجول الوحيد على دراجته في المدينة، لتزويد البيت بما يصله يوميا أوأسبوعيا أوفصليَّا من كلّ مطبوعة سياسية أو فنية أو طبيّة أو للأطفال...من ميكي وسمير وتان تان وأسامة، إلى طبيبك ثم الشبكة والموعد وبوردا الخياطة، إلى القبس والرأي العام وآخر ساعة وما يفد من البلدان العربية والأجنبية كالصين والإتحاد السوفيتي.
وبين قلب البيت وصدر الدّكان، ثلاث آلات كاتبة، إذ تدرَّج أبوه من معقّب معاملات عامة إلى مختصّ عقاري، وتدرّب عليها خفية كما جميع من تدربوا عليها، مع أنه معروف من الحروف المعلّمة على الشريط الواصل بين بكرتي معدن، وأكثر من معلوم من ابتسامة رضا على وجه أبيه.

********** **********

"سيف دمشقي" لا من معدن أسود بنسبة عالية من الكربون و أبيض بنسبة أقل منه، بل سيف فارغ وملوَّن بالزّجاج، يطعن بالإسمنت والخرسانة المسلَّحة قلب دمشق في صميم الأمويين.
ومع ورود سبعة أفرع إلى الساحة أوتشعبها منها: من أوتستراد المزَّة- طريق فايز منصور، إلى شكري القوتلي النازل بمحاذاة بردى لساحة الشهداء في المرجة، إلى المهدي بن بركة طريق الأركان، إلى المالكي- والمهاجرين طريق القصر، إلى جواهر لال نهرو- طريق قاسيون، إلى طريق بيروت القديم- مع الربوة ودمَّر والهامة، إلى البرامكة والجمارك الواصل مع محطة قطار الحجاز القديمة.
شبكة من الشرايين والأوردة في منتصف الشام، تلفُّها أسلاك أفرع تتلوَّى حول دار الأوبرا والمعهد المسرحي والنقد والمكتبة الوطنية المسروقة الإسم والإذاعة والتلفزيون، وتمتد أنفاقها إلى تحت كلية الآداب، خلف الإذاعة المليئة بالأسرار.
ثلاثة وعشرون سنة يتصبَّح ويتمسَّى بهذا النصب الأجوف، آن دخوله بأطراف النهار إلى المبنى، وآخر الخارجين منه آناء الليل. وبين أشواكها له أقلام مرونتها كالسيف الدمشقيّ التراثي. مزخرفة بأبيات من خمس مجموعات شعرية له. وعلى أكبرها وأغلاها نقش لأول رسالة ورقية بنبوءة مبهمة من أبيه آن التحاقه بدراسة الفلسفة في دمشق:
"يا غريب.. كن أديب"

********** **********

"عاشر أجاويد منهم تكتسب وتنـال
يـعـدلـون حـمـلـك بيناتهم لو مـــال
أنهاك يا صاحبي عن صحبة الأنذال
تـعـود خـسـران لا مكسبٍ ولا مــال"

لا يحبّ العلامة التامة للتفوق الدراسي، مع أن مصادفة قدومه ملفوفا بمصيره من الفخذين إلى الرقبة مع غروب شمس 10/10 وتركيب جده الحاج عبد الله قبيل انسحابها الصوبية استقبالا للشتاء. قال الجد: من رحم دافئ إلى بيت دافئ. رددت حبّابة أسمى الصَّرارة/ القابلة وهي ترفعه عاليا وتفك المصير عنه: شجاع...، كررتها كثيرا واحتضنته ثم غطته بثيابها، وقرأت المعوذات قبل فرك جسمه بالملح، وتدفق حليب أمه كريما ثلاث سنوات، وما توقف إلا بعد مرض عابر ألمَّ بهما.
المرة اليتيمة التي تقدم بها دراسيا في الصف السادس الإبتدائي، ممن احتلوا مرتبة أصابع اليد الواحدة، وفي الرحلة إلى البيت بمركبة الجلاء المرفوع بيده اليسرى، أحسَّ بأن شقفا من الإسفلت الممزوجة بطين البوكمال طارت من تحت قدميه، وأسرَّ لنفسه بضحكة من لا يحبُّ العشرات والعلامات الكاملة، وعلى بعد بضعة أمتار رأى أباه أمام باب البيت الطيني المستأجر، سلَّمه جلاء العلامات وراح يراقب عينيه اللوزيتين بخط يتقلب بين الأخضر والعسلي وهما تمسحان طولا وعرضا آخر ورقة تنهي مرحلة دراسية وعمرية، وتنقل إلى مرحلة إعدادية جديدة، نظر إليه برضا غيمة عن علامات جيدة، ومع توقف أنفاسه حمل الزفير ندى إلى وجهه: "ذكي- نظيف- مرتَّب- يحب رفاقه- اشتهيت لو مرة، ما أشوف كاتبين لك كثير الحركة..."
في سنته الجامعية الأولى بقسم الفلسفة وعلم الإجتماع احتضنه معلموه فكريا وشعريا، ومع مجموعة من أصدقائه ساهم في نشاطات ثقافية داخل الجامعة وخارجها خصوصا في المخيمات الفلسطينية.
وحتى بداية الثمانينات فإن الرسالة بظرفها، وديباجتها وجمال خطها، وتنسيق كلماتها، وسيلة للتواصل، بطوابعها عبر صندوق البريد، ومن دونه عبر واسطة بشرية، أو بوسائل متعددة وبينها المتخفية على ورق معطر للرسائل العاطفية.
منذ ظفولته احترم أبوه خياراته، ولم يرغمه على ميل فكري أوشعري أو دراسي على الرغم من ميله إلى دراسة ابنه الأدب العربي، متوسما فيه خيرا على ما بدا منه حين عاد سعيدا من كبير شعراء المدينة، وقد رسم على بياض لغتها ووزنها بالخطوط الحمراء خارطة الإدريسي. غير أن ثناء ما سربه الشاعر لاحقا من تلك الجلسة حين أصبحا صديقين بمسافة زمنية محروقة.
لم يختلف مع أبيه سوى مرات قليلة، منها إصراره على العمل الفردي أو مع أبناء الحارة من دون ترك الدراسة، مقابل عناد أبوي يافطته: "إذا انتهى الكتف اليمين كلوا الشمال".
بعض من الرسائل غير المكتوبة، بشائرها نهاية الإعدادية واستقبال الثانوية. أما رسائل والده الجامعية المكتوبة فمكثفة بأناقة الحروف، وجمال العبارات، ودفء المشاعر، وفي مفتتحها اختصار مبهم لاسم على طبق من نبوءة: " يا غريب كن أديب".

********** **********

10/10 موعد الولادة الطبي للدكتور عبد العزيز وقد أشرف على تثبيته في الرحم بأنبوبة للشرب سمَّتها أمه إبر العنب، وبنصائح غذائية في مقدمتها الأكلة الشعبية باسم المدينة الباميا الكمالية، ثم قالت له: أول لحسة في فمك بعد الأربعين باميا كمالية.
10/10 أول انزلاق القدم عن حافة البئر نزولا إلى مشفى فاستاروس السويدية.
"جمل جابوك للناخة وانا خوك
وبيدك حطو عقالك وناخوك..."

********** **********

سيف دمشقي خلف ظهره، وسيف دمشقي مقبضه من عاج لا يمتصُّ العرق يرافقه جهة القلب، وسيف دمشقي عاجز عن إخماد آلام أوأنين أو إبعاد أشباح أُناس عن مرجل في الجحيم. وله موجات من الإيكو في الممر الذي لا نهاية له في المشفى. موجات ما فوق صوتية لا يمكن للأذن البشرية سماعها لأن ترددها عال جدا.
في هذا الممر الممتد من دعسات قلبه، وصولا إلى كوكب غرفته، سقط الرجال وشجاعتهم، إلا وجه الخير بجيش من الرجال. وبثوب له رائحة حبابته أسمى بعد حمام الماء من الملح، أمسكته كاهنته بسبابتها اليمنى من سبابته اليسرى حين مدها، قالت كما أوصى جده الجميع ألا يقسر أحد يسراه. هي – كما جده أيضا - تقرأ بذكاء الطير الطالع والنازل، وبالفراسة الطيّب والخبيث، وبما فوق الإدراك الحسي ما لا تبصره عين في خطوط الكفين ولا تحدسه البصيرة عن صفاء عين النية ونبعها ومجراها.
10/10 تستأهلها أيها الغريب. رددتها موجات الإيكو في الأعماق مع ضحكة من المفارقات.
10/10 مع ضحكة مستعادة عن عقد انفرط، وحبَّاته الملونة: لاتقبل بأقل من 10/10
10/10 استدارت كاهنته في المشفى مثل ملبَّسة كما يقول الأهل في الشام، فلما بدا وجهها الخلفي مثل وجهها الأمامي استجمع قواه ودعاها من دون أن ينظر إلى عينيها: بدك تتركيني لحالي؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي