الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


راوية .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2023 / 6 / 2
الادب والفن


كان النهار قائظاً عابساً ..
عندما برزت من أحد البيوت سيدة متَّشحة بالسواد .. تغطي وجهها بخمار أسود شفاف ، وهي تنظر خلسةً حولها .. أسرعت الخطى تتلوى بين أزقة الحي المغبرة .. اندفعت في سيرها محاذيةً الجدران لتتقي أشعة الشمس الحارقة ، ثم دلفت بخطوات خفيفة الى بيتها .
قذفت بنعليها بمجرد دخولها ، وبحركة رشيقة من أصابعها رفعت خمارها ، وخلعت عباءتها ، وسوّت شعرها براحتيها . كان جبينها يتصبب عرقاً ، وشوه الاعياء وجهها الشاحب الجميل ..
خطت مسرعة نحو الحمام ..
شمّرت عن كمّيها ، وهي شاردة الذهن ، ثم أغرقت بالماء وجهها ، ونحرها ، ونهديها ، وتحت ابطيها ، وبين فخذيها كأنها كانت تتطهر من عرق الرجل الذي التهمها قبل قليل ، ثم سوّت طيّات ثوبها الذي أصابه البلل ، وعندما دغدغتها برودة الماء ، سرت قشعريرة منعشة كالنسيم في جسدها ، ففارقها التعب على الفور ، واستردت نشاطها وحيويتها .. !
تناهى الى سمعها صوت زوجها كئيباً خالياً من الحياة كأنه قادم من بعيد :
— راوية .. ! أين أنتِ .. يا الله .. ؟ آه .. راوية ( يسعل بشدة ) .. أين ذهبت هذه المرأة .. ؟
خطت نحو الغرفة الراقد فيها زوجها ، وهي تتحسس في طريقها سروالها الداخلي ، وتسوي من وضعه على مؤخرتها وفخذيها ، ثم انساب صوتها الناعم يردد :
— جاية .. جاية ..
وقفت منتصبة بقامتها الطويلة عند باب الغرفة .. شخصت ببصرها الى زوجها في برود ، وهي تطرف بارتباك ، وتُعابث ظفيرتها بعصبية .. يغمرها شعور بالرثاء لهذا الرجل ..
يعاجلها دون أن تمهله الحاجة سؤالها عن غيابها الطويل :
— أسرعي ( بالمبولة ) يا بنت الحلال .. أكاد أعملها على نفسي .. !
أسرعت الى الحمام .. يلاحقها صوته متسائلا :
— أين كنتِ كل هذه المدة .. ؟
رفعت ثوبها عند دخولها الحمام كأنها تعبر بركة ، وحينما أقتربت من المبولة .. بصقت ، وسدت أنفها في تقزز ، ثم التقطتها بأطراف أصابعها في تأفف ، وعادت بها مسرعة ..
قالت بصوت متهدج ، وهي تضع المبولة في مكانها من جسده :
— ذهبتُ بالغسيل الى بيت ( أم حازم الغسالة ) ، فقد تراكم في الحمام حتى أصبحت رائحته العطنة لا تطاق .
وجّه الشيخ السبعيني اليها نظرات ذابلة منكسرة ، ثم انهمك في تدبير حاجته الطبيعية .. أنه يشعر بما تشعر به زوجته الشابة في أعماقها من عذاب ، وفراغ موحش .. !
رفعت المبولة بفضلاتها الى أعلى ، وهي تتجنب النظر اليها ، وانطلقت بها الى الحمام .. بذلت جهداً لتتجنب الغثيان من شدة الرائحة الصادمة .. ثم رجعت الى زوجها .. نظفته ، وغيرت ثيابه ، ورتبت فراشه .. !
استدارت عائدةً الى غرفتها .. هوت على السرير ، ودفنت رأسها في الوسادة .. اهتز جسدها في صمت .. اشتدت عليها ظلمة المكان رغم تراقص الانوار فوقها .. استدعت ذكرياتها وسط سيل لا ينقطع من الدموع ، وبكت حياتها التي تضيع في جريها الدؤوب بين المبولة والحمام .. !
نشأت ( راوية ) في أسرة فقيرة ممزقة ، فالاب لاهٍ غير مكترث بالحياة العائلية التي يقول بأنه لم يُخلق لها ، والأم هزيلة دائمة التبرم والشكوى ، وكانت راوية .. أيقونة جميلة يافعة متفتحة كبرعم واعد ..
ولما تبلغ من العمر أربعة عشر ربيعاً حينما زوجوها من ميسور عجوز ، ولم يمضي العام الأول حتى أصبحت أماً لطفل جميل .. أحبه والداه بشغف ، وتعلقا به في جنون ..
ومضى العام الأول سعيداً رائعاً كأجمل ما يكون ، لكن الاقدار لم تمهل الطفل طويلاً ، فقد مرض ، واشتد عليه المرض .. بدء يهزل ويضمر ، وينازع البقاء بما تبقى له من قوى واهنة ، وجاء ذلك اليوم الذي بدأت فيه الحياة بالتسلل رويدا ، وفي لحظة سكون .. تلاشى آخر شعاع في روحه ، كما يتلاشى الطيف العابر عند الاستيقاظ ..
ومرت السنين ، والاب يرزح تحت وطأة أمراض لم تتركه حتى أرقدته عاجزاً أشبه بجثة .
أما راوية ، فكانت تزداد نضجاً ، وجمالا على جمالها .. تعذبها الرغبة ، وتفتك بأعصابها الحاجة ، وحدث ذات يوم ، وهي في زيارة الى بيت أم حازم الغسالة أن صادفت ابنها حازم ، فتركت عيناها تلتقيان بعينيه ، وهو شاب طويل القامة حلو الملامح .. معتد بنفسه كديك .. لكنه فاجأها عندما اعترض سبيلها بجسارة :
— لا تتعابث معي أرجوك ، فأنا متزوجة .. !
— أتسمين هذه الجثة المتعفنة زوجاً .. ؟
— لا تكن أحمقاً ، وأصرف نظرك عني ، ودعني وشأني ..
— لا تكابري .. أريدك مثلما تريديني ..
— ماذا عسى أمك تظن عندما تشاهدنا الآن .. ؟
— ماذا عساها تظن .. ؟ سيسرها ذلك بالطبع ، فنحن نليق لبعضنا ..
احمر وجهها ، واختنقت أنفاسها ، وهي تتطلع اليه من تحت حاجبيها ، ثم تنهدت وقالت :
— لا تراهن على ذلك كثيراً ، يا مجنون .. !
وحاولت المرور لكنه حشر نفسه في طريقها .. رفعت رأسها ، فالتقت عيناه بمتاهات عينيها السوداوين .. جذبها اليه محاولاً تقبيلها لكنها دفعته بقوة ، وألقت برأسها الى الوراء ، فقال بصوت مرتعش راغب :
— ستكونين لي وحدي .. وحدي .. !
ثم تركها مبهورة الانفاس .. وغادر البيت ..
ومنذ ذلك اليوم ، والفتى يشغل ذهنها .. لا يفارقه .. تتحرق شوقاً اليه ، ولم تعد تعرف النوم إلا لماماً ، وكلما حاولت ابعاده عن تفكيرها تجد نفسها تنغمس فيه أكثر .. حتى صارت تتلمس الاعذار أو بدونها لتزور بيت أم حازم لتُسعد برؤيته ، والحديث معه .. ويوما بعد آخر تنامت مشاعرها حتى نضجت .. شعرت بأنها تعيش قصة حب مجنونة لم تظفر بها إلا متأخرة ..
لم تعدم ايجاد المبررات لاقناع نفسها ، وضميرها ، فهي جميلة ، ولا تزال في ريعان شبابها .. لكنها ليست أكثر من جارية تخدم زوجاً مسناً .. مشلولاً ، وعديم النفع .. عاجزاً عن الإتيان بأبسط واجباته الزوجية ..
تيقنت بأن مصيرها مع حازم ، فمع من ستعيش اذا لم تعيش مع من ملك عليها زمام قلبها .. ؟ ثم أخذا يقضيان السويعات المسروقة من عمرهما يجمعان فيها خيوط غرامهما الملتهب ، ويرتبان بحذر في غمرة النشوة المحرمة .. لأيامهما القادمة معاً .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟