الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحليل السياسي الماورائي

راتب شعبو

2023 / 6 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


تفسير الصراعات التي تنفجر داخل المجتمع بأسباب تقع خارجه منسوبة إلى قوى يُفترض أنها ذات نوايا سيئة تجاهنا وقادرة على فعل ما تريد، هو ما يمكن تسميته التحليل السياسي الماورائي. تحليل ينشغل فيما يعتقد أنه قائم وراء الواقع السياسي المحدد، وينتهي به الأمر إلى تشتيت الواقع وبعثرته. أو لنقل إنه ينشغل في تفسير الواقع العياني مستنداً إلى افتراض وجود أعداء ثابتين يهدفون إلى تدميرنا بطرق خفية. الواقع، بالنسبة لهذا التفكير، ليس سوى إشارات تدل على شبكة غير مرئية من الحيل والمخططات الجهنمية. وعلى اعتبار أن هذه الشبكة غير مرئية فإن المحلل يستطيع أن يصوغها وأن يضع غاياتها كما يحلو له، فيعطي للوقائع تفاسير تناسب ميوله. واللافت أن لهذا النوع من التحليل متعة خاصة ليس فقط للطرف الذي ينتجه (متعة التحري عن، أو تركيب، خفايا مفترضة)، بل أيضاً للطرف الذي يتلقاه (متعة استهلاك "كشوفات" يخفيها الواقع)، والقاسم المشترك بين المتعتين هو التظلم والتحرر من الشعور بالمسؤولية.
لهذا النمط من التحليل حضور قديم وثقيل في حياتنا السياسية، حتى بات موضوعاً للتهكم الشعبي بالعبارة الساخرة "كل الحق على الاستعمار" التي تعفي الفاعلين المحليين من مسؤوليتهم وتحيلهم إلى مجرد أدوات أي "عملاء". الحاكمون الفاسدون والقمعيون هم، في نظر قطاع غير قليل من المحكومين، أدوات لخارج سيء النوايا ولا يريد لنا الخير. وبالطريقة نفسها، يصبح المحكومون، في نظر حكامهم، عملاء للخارج نفسه أيضاً، ما أن يتحركوا ويعلنوا إرادتهم في وجه حاكميهم. في الحالتين هناك مسار سالك من الوعي يقود إلى التسليم بأننا لا نملك سيطرة على مصيرنا المرهون إلى إرادة خارجية قديرة وشريرة ولا هم لها سوى إحباط نهوضنا. والأسوأ من ذلك أن هذا الخارج يتحرك بطريقة ملتوية وخفية تضع العقل في حيرة.
يفيد التحليل الماورائي بأنه يسمح لأصحابه بتفادي مواجهة الحقائق التي لا تروق لهم، من خلال ربطها بشبكة خفية وإعطاءها بالتالي تفسيرات مخالفة لحقيقتها. أكثر من ذلك يزود هذا النوع من التحليل أصحابه بوسيلة تسمح لهم بالظهور على أنهم أصحاب الحق. فمثلاً يسمح للجلادين أن يصوروا أنفسهم على أنهم ضحايا لضحاياهم، وأن بطشهم وجرائمهم بحق الناس إنما هو "مقاومة" و"شجاعة". ويسمح، بالطريقة ذاتها، للمنتفضين المهزومين أن يتجرعوا هزيمتهم بالقول إنها ليست سوى نتيجة تخلي الخارج عن قضيتهم ومساندته لخصومهم.
لا حدود لقدرة هذا النمط من التحليل على الصمود في وجه أي محاجة، ببساطة لأنه يرتكز إلى أسباب غامضة ولا مرئية (مؤامرة، إرادة أمريكية، مخطط صهيوني ... الخ)، وهو في ذلك يجعل من النقاش السياسي الذي يفترض به أن يقوم على معطيات محددة وملموسة، وأن يقوم على حركة فاعلين سياسيين واعين وذوي مصلحة، نقاشاً غيبياً عن إرادات خارجية خارقة تستخدم هؤلاء الفاعلين "دون وعي منهم"، حتى لو كان الفاعل المذكور جمهوراً واسعاً. وحين يقول هذا التحليل عبارة "دون وعي منهم" فإنه يتكرم بذلك على الفاعلين بجعلهم في دائرة العمالة بالجهل أو بالغباء أو بطيب النية، بدلاً من جعلهم في دائرة الخيانة أو العمالة المباشرة (يكثر عندنا المحللون أو السياسيون الذين يتهمون خصومهم بالعمالة لصالح "مشغِّل"، أي جهة خارجية، بالطبع، تستخدم شخصاً أو توظفه أو تستأجره للقيام بمهام "سياسية" محددة مقابل أجر).
هكذا يخرج النقاش من مستوى المعرفة والعلم (النقاش بما هو معلوم أو ما يمكن العلم به بيقين) ويدخل في مستوى غيبي (النقاش فيما هو افتراضي ولا يمكن إدراكه بيقين علمي)، وهذا المستوى يقوم، كما هو معروف، على الإيمان، الإيمان بأن الخارج يتحكم بمصائرنا، وهو ما يعني، في النهاية، رفع المسؤولية عن أصحاب المسؤولية المباشرة عن البؤس الذي نعيشه من خلال رده إلى إرادة خارجية، يعني إلى "الغيب".
لكي تكتمل الحلقة ينبغي أن تتوفر فئة من المحللين الذين "رفع عنهم الحجاب"، فصاروا قادرين على إدراك "الغيب" السياسي هذا الذي يستعصي على غيرهم. تماماً كما ينبغي أن تتوفر طبقة من "رجال الدين" لكي تكشف للعموم ما يدق على أفهامهم من عالم الغيب. وإذا كان عالم الغيب الديني يغلب عليه الخير ومصلحة العباد، وهو ما يتقصاه رجال الدين في كل شيء، فإن عالم الغيب السياسي هو عالم الشر والأحابيل المخفية التي تنسف أي أساس ثابت للمعرفة، فتبدو المطالبة بالحرية مثلاً هي مجرد شكل لتكريس العبودية، وتبدو الأنظمة الفاسدة والقمعية والفاشلة اقتصادياً وسياسياً، هي الضمان الأهم لمصلحة البلاد لأنها تقف في وجه شر خارجي متربص ... الخ.
وكما يختلف رجال الدين، بحسب أديانهم ومذاهبهم، في قراءة وتفسير إشارات الغيب، كذلك يختلف المحللون الماورائيون بحسب موقعهم من الصراع، فمثلاً إلى جانب من يرى أن "الخارج" مسؤول عن تحطم ثورات الربيع العربي، لأن في نجاحها خطر عليه، يوجد من يرى أن هذا "الخارج" نفسه هو من أشعل الثورات العربية كي يدمر بلداننا. في الحالتين نحن أمام تحليل واحد وإن كان باتجاهين متعاكسين.
الجانب الأهم في التفكير السياسي الماورائي هو أنه لا ينتج أي معرفة، وأنه يقوم على افتراضات غائية تفتقد إلى البرهان ولكنها تُعامل معاملة اليقينيات، الغاية الدائمة هي التسويق لجهة سياسية معينة أو الضرر بجهة سياسية معينة. على أن التحليل الماورائي يوجد بصورة عفوية في الواعي العام لدينا، بوصفه طريقة لاستيعاب واقعنا السياسي، وغالباً كنوع من التشكي وإعلان العجز، دون أن يكون له غاية مسبقة. غير أن هذا الحضور الشعبي للتحليل الماورائي العفوي يشكل سوقاً مناسبة للنمط الغائي من هذا التحليل.
من الأمثلة البارزة على النوع الغائي من هذا التحليل، ما جاءت به صحيفة لبنانية مساندة للنظام السوري بعد مشاركة هذا الأخير في قمة جدة (19 مايو/أيار). تقول الصحيفة "لأكثر من عقدين، أوغل الغرب الاستعماري دماراً وتفتيتاً في بلادنا، وأنجز فصولاً كبيرة من مشروعه بأيد عربية". لا شك أن المحلل لا يجد في نظام الأسد، الذي دمر البلاد، أحد هذه الأيدي العربية، ببساطة لأن منطلق التحليل هو التماهي مع النظام. والطريف أن القلق على النظام السوري المتهالك، يجعل المحلل لا يركن إلى شيء، ويجعله يرى في إعادة الإعمار فخاً، وأن ما بعد الحروب الساخنة ستبدأ حرب باردة "يستخدم فيها أنصار الغرب أسلحتهم الاقتصادية والمالية وقواهم الناعمة" تستوجب المزيد من الحذر. هكذا يكشف المحلل سمة بارزة في التحليل الماورائي وهي العدائية تجاه العالم ما يجعل من أصحابه مروجي حروب ساخنة أو باردة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبح -الحي الميت- السنوار يخيم على قراءة الإعلام الإسرائيلي ل


.. الحركة الطلابية في الجامعات : هل توجد أطراف توظف الاحتجاجات




.. جنود ماكرون أو طائرات ال F16 .. من يصل أولاً إلى أوكرانيا؟؟


.. القناة 12الإسرائيلية: إسرائيل استخدمت قطر لتعمّق الانقسام ال




.. التنين الصيني يفرد جناحيه بوجه أميركا.. وأوروبا تائهة! | #ال