الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيولُ ربيع الشمال: 16

دلور ميقري

2023 / 6 / 3
الادب والفن


16
أرادَ دارين العودةَ إلى المسكن، وكانت ساعة يده تُشير إلى الثالثة. الإحتفالُ كان ينحسرُ رويداً، مُخلّفاً ضوعَ العطور وزجاجات البيرة الفارغة. إذاك، كانَ يقفُ مع المجموعة على الهضبة الخضراء، المحتل جانباً منها القصرُ الملكيّ، وقد انبسط في الأسفل مشهدُ مركز المدينة بعمائره القرميدية ذات اللون النبيذيّ. وكانَ ثمة مدافع أثرية، منصوبة على الهضبة، سبطاناتها البرونزية موجّهة إلى المدينة. وقد أوحت لبطلنا التفكيرَ، باستبعاد أن يكونَ الأمرُ تحوّطاً من إحتمال انفجار إنتفاضة شعبية في تلك الأزمان الغابرة. لم يكن ثمة تقاليد ثورية قي هذه البلاد، موازية لما كانَ يحصل آنذاك في دول أوروبية؛ كفرنسا وألمانيا وبريطانيا. ولاحظ دارين أيضاً، كيفَ ترتفع أسعارُ المواصلات ـ على سبيل المثال ـ دونَ أن يكون ثمة ردة فعل من المواطنين. كذلك سبقَ وعلمَ من مواطنيه الأجانب المخضرمين، أنهم لم يشهدوا إضراباً، أو إحتجاجاً، في خلال عقود إقامتهم في السويد.
كانَ بالقرب من المجموعة فتاةٌ بدينة، نالَ منها السُكْر، ما لبثت أن راحت تنتحبُ، مُتوجّهة إلى أصدقائها بلسانٍ ثقيل: " أعيدوني إلى ستوكهولم، اللعنة على أوبسالا الكئيبة! ". تذكّرَ دارين عندئذٍ إحدى قريباته، وكانت تشكو في العرس من الضجَر. فروى هذه النكتة لجماعته، الذين سمعوا للتو شكوى الفتاة الثملة، فضجوا جميعاً بالضحك. لكنه حينما أعربَ عن عزمه مغادرتهم، أعترض عليه كبيرهم بالقول: " تركنا اللحمَ والدجاج يتخمّر في التوابل، ثمة في البيت، وسنقوم بالشوي حالما نصل ". لما وجدَ دارين ألا مناصَ من التملّص، طلبَ من رمّو أن يذهبا أولاً مُستخدمَيْن الحافلة الكبيرة. عادَ السيّد حيدر لمخاطبته: " بأيّ حال، لن تتسع سيارتنا للجميع. فانتظرني مع رمّو هنا، لكي أنقلكما مع الشباب في الدفعة الثانية ". وكانَ يقصدُ بالشباب، ولدَيْه. وإذا ميديا تعترضُ، قائلةً أنها ترغبُ بالركوب مع الدفعة الثانية. طأطأ والدها رأسَهُ، بحركةٍ مسرحية: " بأمركِ، يا أميرتي ". كانَ دارين قد لحظ قبلاً، أنّ فتاته هيَ الأثيرة المُدللة بالمنزل. وكنا قد سبقَ ونوّهنا، من جانبنا، أنّ السيّد حيدر ترك لبناته عموماً قَدْراً كبيراً من الحرية.
" سنتجوّلُ تحت، ثمة في الحديقة، ريثما يعودُ والدي "، قالتها ميديا فيما تتأبطُ ذراعَ شقيقها الأصغر. هكذا أنحدروا من الهضبة، باتجاه ذلك المكان، الموحي لدارين كصورةٍ مُصغّرة عن حدائق تويلري، الباريسية. ولعلّ البناء المُهيب ثمة، المُستخدم كمعرض للنباتات النادرة والحشرات المحنّطة، يُمكن أيضاً أن يُحيلَ إلى قصر اللوفر، القائم على طرف تلك الحدائق. دارين لم يكن بعدُ قد زارَ فرنسا، وكانَ يأملُ ذلك حال حصوله على الباسبورت السويدي. إنه فكّرَ بالإنطباع ذاك، مدفوعاً بمطالعته لكتابٍ مصوّر عن باريس. ثم ما لبثت ميديا أن أمسكت ذراعه، لتقوده ببساطة عبرَ ممشى رمليّ، زيّنَ بأصص خشبية ضخمة، شبيهة ببراميل النبيذ، ينهضُ منها شجيراتٌ مثمرة تنتمي للبحر المتوسط؛ كالتين والرمان والزيتون. ثمة عرائش، تتسلقُ المبنى، تحمل عناقيدَ الحصرم الدقيقة، المصقولة بنور الشمس. بالرغم من أن واجهة المبنى تنتمي للعمارة الإغريقية، إلا أنّ تقاليد نسخ تماثيل الآلهة الوثنية لتلك الحضارة، لم تعرف طريقها إلى اسكندينافيا بشكل عام.
" أرغبُ بالحضور إلى حجرتك مجدداً، وليكن في صباح الغد. أيمكنني ذلك؟ "، طرحت عليه ميديا سؤالها بنبرتها الساذجة. أجابَ دارين من فوره: " بالطبع مُمكن ". كانا الآنَ يقفان عند بركة الماء المُستطيلة، بمنأى عن روني ورمّو. هذا الأخير، كانَ لا يني مذ تشابك أيدي الحبيبين بعضهما ببعض، يلاحقهما بعينيه الصغيرتين السوداوتين، المُنبعث منهما بريقُ المكر والإخبات. لكنّ دارين كان مُديناً له بالشكر، ولا شك، لو تذكّرنا أنّ نصائحه كانت مفيدة بشأن الإيقاع بالفتيات الصغيرات. كذلك من غير المُستبعد، أنّ ربيبَ البيض قد فكّرَ بدارين كقريب؛ أو " عديل "، بحَسَب القاموس الشعبيّ. وانقطعَ من ثمّ حبلُ الأفكار، حينما هتفَ روني وهوَ يُشير إلى ناحية الهضبة: " هوَ ذا والدي، لقد وصل ".
في الحديقة الخلفية، تحتَ ظِلّةٍ مُثبتة بالجدار الخارجيّ للدور الأرضيّ، أنهمك أهلُ الدار في إعداد الغداء. الرجالُ، تولوا أمرَ موقد الشواء. فيما النساء أخذن بتحضير المُقبّلات والسَلَطات، بما في ذلك التبّولة والفتّوش. من أصناف المقبلات، التي يستسيغها دارين كثيراً، كانت فطائرُ السبانخ بالجوز وحبّ الرمان، المرسومة كالأنجم بالأنامل المُرهفة لربّة البيت. هذه المرأةُ السمراء الأربعينية، المُحتفظة بعدُ بملامحها الجميلة، كانت شأن رجلها، تعاملُ دارين كما لو أنه أحد أفراد العائلة. في المقابل، لاحَ واضحاً استبعادُ تفكيرها لموضوع ارتباط نسرين مع رمّو. لعلها أيضاً، شعرت بالندم حيالَ موضوع خطبة هذا الأخير لشقيقتها؛ كونها سعت بنفسها للموضوع، بهدف جلبها من أتون الحرب الأهلية بأيّ ثمن. وكانَ قد تم إحباطُ الخطيب، ربيب البيض، لما رفضته الفتاة عقبَ رؤيتها لصورته الفوتوغرافية: كلّ هذا، عرفه دارين فيما بعد، لما فتحت ميديا صندوقَ أسرار العائلة.
تناولوا الغداءَ تحت الظلّة، ثمة على مائدة مستطيلة مفروشة بسماط أبيض، لائقٍ بملابس الإحتفال الطلابيّ. وكانَ دارين تمنّى، لو وُجِدَ العَرَقُ على المائدة مع المشاوي. لكنّ السيّد حيدر، كانَ مُحافظاً من هذه الناحية، فلم تعرف الخمرةُ قط طريقاً لداره. مع ذلك، انتشى الضيفُ بخمرة الحضور اللطيف للآنسات، بالأخص حبيبته الصهباء الشعر، التي فاقت الجميعَ في الأثناء بإطلاق الطرائف. لم يكن دارين أقلّ مقدرة على رواية الأشياء المُسلية، المُستمدة من الفلكلور الغنيّ لحي الأكراد بدمشق. فذكرَ نتفاً من أخبار قاطع طريق، يُدعى " حمو جمّو "، نقل نشاطاتِ عصابته من دمشق إلى المناطق اللبنانية القريبة، فروّعَ المسافرين على الطرق ونهبهم، لحين أن ألقت السلطات الفرنسية القبض عليه وأعدمته.
" كردُ دمشق أكثر تمدّناً منا نحن كرد بيروت، كونهم قطنوا العاصمة السورية منذ مئات الأعوام "، أبدى السيّد حيدر بهذه الملاحظة. علّقت روجين على كلام أبيها، ضاحكةً: " ما هذا التمدّن، وكلّ قصص دارين كانت عن اللصوص والنهّابين والسلّابين؟ ". دبّ شعورُ المرح من جديد في الجلسة الجميلة، فيما ردّ دارين على الفتاة مع ابتسامة مُتسامحة: " في كل مجتمع، ثمة نماذج مختلفة. فعلاوة على مَن ذكرتيهم، تبوأ أبناءُ جلدتهم أعلى المناصب الحكومية بما في ذلك رئاسة الجمهورية ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي