الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلا وصاية.. من مجموعتي القصصية

وليد الأسطل

2023 / 6 / 3
الادب والفن


أبطأ الليل في المغادرة. ينتظر الفجر تولي زمام الأمور بفارغ الصبر. ضباب شديد يربط بينهما، صنعت منه المصابيح الأمامية للسيارات هالات صفراء، لامعة، حزينة، عيونا مغمورة في الدموع. كان الرصيف يلمع تحت خطواتي، ويعكس رغما عنه الضوء الذي يسقط عليه بشدة من أضواء النيون الباهتة. في بعض الأحيان، تبدو طوبة أعلى قليلا من غيرها، لا ريب أن نهاية الليل ستضع حدا لاستعلائها. حلت الساعة الثامنة. يوم جديد.
أنا في مزاج سيء.
مفوض شرطة.
فُتِحَ الباب الزجاجي أمامي. الحرارة المتدفقة عليّ جعلت سترتي عديمة الفائدة تماما.
"مرحبا سيدي المفوض."
أجبته إجابة بالكاد مهذبة، للحفاظ على كنيتي: الدب الخشن.
ممرات، سلالم، أبواب، ثم مكتب ينتظرني. مكتبي.
إنه أحد أيام الشتاء المتشابهة. بارد، متجهم.
كان مزاجي سيئا.
كنت أهذي ...

خاطبني مفتش:
"سيدي المفوض، هناك شاب ينتظرك منذ ساعتين. أجده غريبا نوعا ما. يود إخبارك بشيء. قال إنه مهم جدا.
- كل الناس الذين يريدون التحدث معي غريبون. دائما هكذا.
- هل أسمح له بالدخول؟
- نعم ، أسرع! "

شاب أسمر، طويل، ملتح. ينسدل شعره على كتفيه. أنيق، ووسيم. لا أدري لم راودني شعور بأن ما سيخبرني به مهم فعلا؟ انبعث من ذلك الشاب شيء جعلني أشعر بعدم الإرتياح.
جلس وابتسم لي.
"سيدي المفوض، القضية التي أتت بي إلى هنا حساسة للغاية."
كلهم يقولون ذلك، لكني أميل إلى تصديق الشاب.
"جئت من أجل ... استنكار. ليس من عادتي أن أفعل هذا. لكن ... حسنا ... استنكار.
- استنكار؟
- نعم هذا هو الصحيح."
صَمَتَ. ربما انتظر مني أن أطرح عليه سؤالا. أو اثنين. فجأة، أحسست أنه هو الذي بدأ يشعر بعدم الإرتياح.
"وأي نوع من الإستنكار هذا؟
- إنه شيء شاسع، يصعب اختصاره.
- أيضا؟
- إنه أمر خطير. قتل ... سرقة ... إغتصاب ... ينتمي إلى هذا النوع من الأشياء.
- هذا فقط. لا شيء آخر؟
- بل أشياء كثيرة ... مثل الأكاذيب، أتفهمني؟ "
فهمت. اقتنعت بأنه صادق. من الواضح أنني سأتعامل مع جريمة كبيرة.
"أعتقد أن لديك أدلة.
- لا يمكن إنكارها.
- هذا المجرم .. هذا الرجل .. هل يسهل العثور عليه؟ هل هو محمي؟ كيف تعرفت عليه؟ أين يمكن العثور عليه؟
- هذا أبي."
إجابة واحدة لمجموعة كاملة من الأسئلة. لكنها كافية بالنسبة لي.
إستقر الصمت لبضع لحظات بيننا. لاحظت -لأول مرة- حزنا غير محدود في عيني هذا الرجل. تنفس بصعوبة شديدة واستأنف:
"أصبح والدي طفلا. لقد كان لديه الكثير من الخبرة في الماضي، وعلى الرغم من كونه طيبا في الأساس، إلا أنه لا يخلق سوى التعاسة من حوله. لقد استغرق الأمر وقتا طويلا لأدرك ذلك. ذات يوم، قبل وقت طويل جدا، تحدثت معه حول هذا الموضوع، ومنذ ذلك الحين، اختفى ... وجدته هنا بالصدفة، أمس. إنه الآن غضوب وشرير. أخشى أن يرتكب حماقة.
- أين هو؟
- في "الثامن عشر". إنه متشرد ".
متشرد! هذه لفظة قديمة. أصبحنا الآن نقول: "بلا مأوى". لكنني أوافق على استخدام لفظة متشرد.

أصبح النهار أقل شحوبا في الخارج، لكنه بارد. ومع ذلك، أخذت السماء لونا ورديا، باهتا بعض الشيء. أوقفت السيارة، نزلت. رافقني الشاب. سرنا لمدة ساعة في هذا الحي الذي أحبه. أعرف كل أزقته وزواياه، وخاصة الأماكن التي انطوت فيها الأجراس على نفسها.
وأخيرا وجدناه في زقاق. إنه هنا. تراجعت عند رؤيتي له. كان جالسا على كومة من الخرق، وعلى الرغم من هذا أحسست بقوة هائلة تنبع منه.
ألفيته قذرا، بائسا، كريه الرائحة، أكثر من المتشردين الذين اعتدت على رؤيتهم.
قال الشاب: عليك أن تسلم نفسك للعدالة، عدالة البشر يا أبي.
وقف الشيخ، بدى رائعا رغم وضعه المزري. كأن الرعد يتدحرج في عينيه. استحال لون السماء أحمر.
"أنت محق يا بني، أنا أستحق أسوأ من الموت."
تبعني ووجهه مغمور بالدموع، تاركا ابنه وراءنا.

إستقلت من وظيفتي بعد هذه الحادثة، فبعد إلقاء القبض على الله الآب، لم يعد لدي ما أفعله في الشرطة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري


.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس




.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن


.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات




.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته