الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكرى الطيب المجتهد والمجتهد الطيب

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2023 / 6 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


التقيت المفكر الراحل طيب تيزيني في مطلع ثمانينات القرن المنصرم، في سياق محاضرة له في المركز الثقافي في مدينة دير الزور عن المشروع النهضوي العربي المبتور منذ عصر ابن رشد وحتى مطلع القرن العشرين. وأتذكر بشكل مرهف حضوره الهادئ والرصين وكلماته المفعمة بالأفكار الكبرى، والطموحات الضرورية واللازمة والمهصورة في سياق عملية الوأد المنظم العياني المشخص في حياة كل من كان يتكلم إليهم في مدينة كان ينظر إليها جلاد سورية الأكبر حافظ الأسد بأنها عراقية الهوى، وكأن العراقيين أشرار وشذاذ آفاق ناشزون عن فكره القومي التلفيقي الدعائي على نهج حزب البعث العربي الاشتراكي، والذي يستحق اتباع اسمه بالفاشي لتوصيفه بشكل أكثر دقة. وفي الحقيقة كان للطيب تيزيني علاقة وطيدة بعدة شخوص من عائلتي قبيل ذاك اللقاء، وخاصة ثابت عزاوي معلم «الاشتراكية العلمية» في سجون الاحتلال الفرنسي لسورية، ومن بعدها في سجون نظام الجمهورية العربية المتحدة، أي نظام الوحدة بين سورية ومصر في العام 1956، والذي جلب وبال الدولة الأمنية البربرية إلى سورية من غياهب أقبية التعذيب وسراديب المنظومة العسكرتارية لنظام جمال عبد الناصر آنذاك، والذي لم يكن تعامله مع شعبه المصري المقهور أفضل كثيراً من نهجه «الالتهامي المتغول» الذي مارسه بحق السوريين، وتهشيمه لكل الحركات والأحزاب السياسية في سورية، في سياق استبدال السياسة بعباءة الفرد «الريس القائد الرمز المفدى» في شكل مسخ عن الديكتاتوريات السائدة آنذاك سواء بشكلها الفاشي النازي، أو نظائرها المتلبسة بلبوس ماركسي شيوعي ليس فيها من الاشتراكية سوى التشارك في محنة قمع الحريات الأساسية، ومعاناة الفاقة بدرجات وحدات مختلفة لضمان اشرئباب كروش البيروقراطيات العسكرية الأمنية الفاسدة المتربعة على قمة هرم الدولة الأمنية وهياكلها ومجامع عسسها ومخبريها وبصاصيها وجلاديها ومن لف لفهم من المرتزقة الأرذال والمطبلين الدعائيين لتزويق صورتها، و هم الذين لم يتوقفوا على أمد التاريخ من القيام بدورهم الخبيث في مجتمعات المظلومين المستضعفين في كل أرجاء الأرضين.
ولكن على المستوى الشخصي رَسَخَتْ مفردات وعبارات المعلم الراحل طيب تيزيني في تلك المحاضرة في خاطري ولم تغادرها أبداً، لسبب بسيط كان جوهره الشجاعة الاستثنائية التي رأيتها في كلماته الدافئة الثاقبة على طريق الخروج من قاعة المحاضرات، والتي كان مفادها: «بأن الصبر والمصابرة والثبات سمات الإنسان الحق، وأن الحق بيِّن والباطل بيِّن حتى لو انفض الكل من حولك»، وهو كان يومي إلى معرفته بحال عائلتي المرزي، إذ كان والدي معتقلاً آنذاك في غياهب سجون المخابرات العسكرية السورية بتهمة «تهديد الأمن والاستقرار الوطني» بسبب قصائد شعرية كتبها قبل عقدين من الزمن ينتقد فيها نهج حزب البعث الاستبدادي، في كوميديا سوداء لم تكن لتستقيم إلا في منظومة الدولة الأمنية الفاشية لعائلة الأسد وزبانيتها من المتلبسين لبوس الاشتراكية والقومية على نهج حزب البعث العربي الاشتراكي الفاشي.
وفي الحقيقة كان لصدى كلمات وحوار الأستاذ المعلم طيب تيزيني في ذاك اللقاء الأول صدىً استثنائياً في تكوين كل منظومتي الفكرية لاحقاً، عبر تقربه الحميمي وتعاطفه وكلامه الأبوي الدافئ مع شاب صغير في مقتبل العمر «مكلوم ومكسور الخاطر»، بعد أن انفض عنه وعن عائلته كل الأقرباء والأصدقاء والمعارف السابقون، خوفاً من أن ينالهم «رجس الاقتراب من عائلة معتقل سياسي»، فاضطر إلى الانقلاب بين عشية وضحاها من طالب متفوق في المدرسة الثانوية من عائلة من الطبقات الوسطى، إلى رجل لا بد له من العمل بكل ما هو متاح له ليقيت أسرته التي أصبحت بشكل أو بآخر في عداد جحافل المعوزين الذين همهم الأوحد البقاء على قيد الحياة وعدم الاندثار جوعاً.
وبالفعل مرت السنون، وتخللها بعد ذلك عدة لقاءات مع المعلم الرؤوم طيب تيزيني، والتي أصبحت مستمرة ودورية عندما انتقلت إلى الدراسة في كلية الطب في جامعة تشرين في مدينة اللاذقية، وخاصة من خلال أنشطة منتدى الثقافة والإبداع في الجامعة الذي كنت أدير أنشطته الثقافية من وراء الكواليس، لجهل المرتزقة والوصوليين من البعثيين الأرذال ومخبري اتحاد الطلبة بأي شأن ثقافي يتعدى «كتابة التقارير الأمنية»، وهو ما أفضى إلى أن تصبح استضافة المفكر طيب تيزيني حدثاً لا بد منه في كل فصل دراسي على امتداد السنوات الستة التي قضيتها في الدراسة في كلية الطب آنذاك. وبسبب جهل وصغار وقزامة المخبرين المسؤولين عن أنشطة منتدى الثقافة والإبداع أمام هامة الطيب تيزيني الفكرية العملاقة، وشعورهم العميق بنخز مسلة عباراته الثاقبة في خواصرهم، وخاصة تلك التي كان فحواها بأن محرك عمل الدولة الأمنية هو «إفساد كل من لم يفسد، وتحويل الكل إلى مدان تحت الطلب»، فقد تركوا مهمة مرافقة واستضافة المفكر الراحل منذ لحظة استقباله إلى لحظة مغادرته لمدينة اللاذقية، واجباً فردياً على كاهلي كنت أتلقفه في كل مرة بفرحة تفوق سابقتها.
وأدى ذاك التواصل المستمر مع الراحل طيب تيزيني إلى توثيق عرى محبة وتواصل حميمي إنساني فيما بيننا يتجاوز حدود الثقافي المعرفي، ويلتحم مع شخصه العملاق المتواضع في شكل استثنائي في عمقه وتأصله ونفاذه وتداخله مع الكثير من مفاصل كينونتي الإنسانية ونهجي في الحياة لاحقاً.
وظل ذاك التواصل يزداد في تأصله وتجذره بعد انتقالي إلى العاصمة السورية دمشق من أجل متابعة اختصاصي الطبي في جامعة دمشق التي كان يُدَرِّسُ فيها الراحل منذ عودته من ألمانيا في مطلع سبعينيات القرن المنصرم. وبسبب محاسن الصدف كنت أسكن في دمشق في منطقة ليست بعيدة عن بيت الراحل في منطقة مشروع دمر في غرب العاصمة دمشق، وهو ما أفسح فرصاً أكثر لزيارة الراحل في بيته بشكل شبه دوري، وهو الذي لم يعتذر مرة عن زيارتي له على امتداد السنوات القليلة التي قضيتها في دمشق، حتى أنني كنت أشعر بالحرج في كثير من المرات من حلولي في غرفة ضيوفه، وعلى مرأى مني أوراقه ومخطوطات ما يكتبه موزعة بإتقان يغطي كل ما كانت طاولة الطعام في بيته المتواضع.
وأتذكر زيارتي للراحل في بيته، وأنا في حالة من القلق المضمر الذي كنت أحاول إخفاءه، فسألني حينها بصوته العطوف الثاقب عما يكدرني كما لو أنه كان يطالع سريرتي وما يعتمل في خاطري، فأجبته بأني تلقيت استدعاءً لمراجعة أكثر فروع الاستخبارات العسكرية وحشية، والذي كان يدعى الفرع 235 أو فرع المنطقة، وهو نفس الفرع الذي اعتقل فيه والدي من قبل. وحينما سألني عما أظن أنه السبب في استدعائي، أجبت بأن ذلك يعود في أغلب الظن لاستضافتي المتكررة في بيتي في لاجتماعات لجان إحياء المجتمع المدني في سورية، أو لتوقيعي على بيان المطالبة برفع الأحكام العرفية الذي كان يعرف ببيان المئة في سورية آنذاك، ومن ثم أصبح يعرف ببيان الألف بعد تزايد أعداد الموقعين عليه في فترة ما عرف بربيع دمشق في خواتيم العام 2000 ومطلع العام 2001، فأجابني حينئذ بأنه سوف يحاول إجراء بعض الاتصالات لمحاولة مساعدتي، ومعيداً نصحه بضرورة تمالك أعصابي ومواجهة ما سوف يحدث معي بهدوء وصبر ليس سواه من سلاح في يد الذين لا حول لهم ولا قوة من أمثالنا. وبالفعل لم تفلح مساعي الراحل الحميدة في تخفيف مفاعيل حلول دوري للاكتواء بغلواء المارد الأمني المتوحش، كما كان حال الملايين من أبناء الشعب السوري الذي تقرحت روحه وأخاديد جسده من طول التنكيل به على امتداد عقود طويلة من حكم البعثيين الفاشيين الأرذال؛ وكان ذلك الاستدعاء بوابة ولوجي إلى النفق الأمني المهول خارجاً فيه من استدعاء للولوج في تحقيق آخر في فرع أمني آخر، حتى مررت تقريباً على عشرات الفروع الأمنية في العاصمة دمشق وريفها التابعة للمخابرات العسكرية، وأمن الدولة، والأمن السياسي، والأمن الجوي، دون أن أفلت حتى من فرع أمن البادية، وصولاً إلى اعتقالي الذي دام حوالي الستة أشهرٍ بدءاً من فرع التحقيق في الأمن السياسي في مدينة دمشق بتهم النيل من هيبة الدولة، وإضعاف الثقة بالاقتصاد الوطني، وشتم رئيس «الجمهورية»، وإقلاق السلم الأهلي، ومقامة النظام الاشتراكي، وهو الاعتقال الذي كان الزناد القادح لاتخاذي القرار الانهزامي التخاذلي بالهجرة من سورية، والعودة إلى بريطانيا، وهي البلد الذي كنت قد أتممت تخصصي الطبي ودراساتي الجامعية العليا فيه، دون أن أتمكن من الارتقاء إلى مستوى صلابة وصبر ومصابرة الراحل الجليل طيب تيزيني الذي ظل مرابطاً في سورية رافضاً أن يترك وطنه ومدينته الحبيبة حمص، على الرغم مما جرى من ويلات يشيب لها الولدان في ميادين تلك المدينة الجريحة في سياق انتفاضة الشعب السوري المظلوم إبان الربيع العربي الموءود.
ولا أستطيع نسيان القلق العميم الذي واجهته في مطلع آذار من العام 2011 على سلامة وحياة الراحل حينما سمعت بأن مجموعة من المثقفين على رأسهم الجليل الراحل طيب تيزيني، انطلقوا في مظاهرة سلمية تنادي «بالحرية» المفقودة سرمدياً في سورية، في مركز العاصمة دمشق، والتي كانت فاتحة انتفاضة الشعب السوري المهيبة لاحقاً، والتراجيدية في محنتها التي أصبحت دوامة لا تنتهي بعد تحويل تلك الانتفاضة الشعبية السلمية حتى نقي عظم كل المشاركين فيها، إلى ساحة لتصفية حسابات الأفرقاء الإقليميين والدوليين على الأرض السورية، وبالدماء السورية، وهو ما كان نتيجته فاجعة إجهاض حلم الشعب السوري بالحرية والعدالة والديموقراطية والعيش الكريم، وهي جملة المفاهيم التي طالما نافح عنها قولاً وفعلاً الراحل الجليل. و بالفعل كانت مشاركة الطيب تيزيني التاريخية في صناعة وصياغة تباشير انتفاضة الشعب السوري من قهره التاريخي، مشاركة تعكس ذاك الشعور العميق بتواضع الذات الكلياني، والغيرية المتأصلة وجدانياً وفكرياً في كينونته كمفكر مجتهد و مجتهد مفكر، وهو الذي لم يخش بعد أن بلغ من العمر عتياً هراوات وبساطير جلاوزة الأجهزة الأمنية، وجهل جلاديها الذين لم يكونوا ليتورعوا عن تهشيم عظام أي من قد تسول له نفسه الأمارة «بسوء الانعتاق» التفكر بإجهار صوته بالمطالبة بالحرية لكل المقهورين في وطنه و سجنه الكبير في آن معاً، دون التفكر للحظة واحدة بأن جسده النحيل قد لا يحتمل غلواء وحشية الأجهزة القمعية وعناصرها من البرابرة الساديين، و هي الحقيقة التي لم تكن لتغيب عن مخيلة الراحل الجليل، دون أن تغير من قراره الثابت الذي سرى عليه طوال حياته كما عرفته شخصاً إنساناً وكاتباً ومجتهداً، ملتزماً بقناعته بأن الحق بَيِّنٌ والباطل بَيِّنٌ، وأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأقل المجاهدة في الدفاع عن الحق البَيِّنِ هي باتباع «خطاب الوما» الذي استنبط حركتيه وإيقاعه الراحل للحديث عما كان لا يستوي الجهر به في سورية الحبيسة، بالكتابة والحديث الواضح المدلول لكل عاقل راغب بتشغيل عقله لفهم دلالات ما بين السطور، وما يمكن استخلاصه من التعميمات والملاحظات الإجمالية ليصبح إشارة بالبنان في عقل المتلقي إلى أس عوار وخراب واقعه المعاش، وبؤس حيوات كل من يتشارك معهم في ذاك الواقع الجمعي المزري.
ولا يغيب من ذاكرتي ذاك الاجتماع في مكتب رئيس اتحاد الكتاب العرب في حينه علي عقله عرسان، حينما ناكدني بنعتي بأني من «جماعة الطيب تيزيني»، فكان ردي عليه «بأني أعتقد أنك، والطيب تيزيني عضوان في حزب البعث العربي الاشتراكي، ولذلك أعتقد أنك أنت من جماعة الطيب تيزيني، فأنا مستقل ولم أتبع أي جهة حزبية في حياتي»، فكان رده الحاذق حينئذ بأن «الطيب تيزيني بعثي أحمر وليس بعثياً حقيقياً»، في إشارة إلى التزام الراحل طيب تيزيني بنهجه الماركسي سواء في فكره أو ممارسته. والحقيقة أن الرؤية الماركسية للعالم، وحتى فعل انضمام الطيب تيزيني إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، كان ينطلق في رأيي من تصوره عن إمكانية إحياء الأطروحات الماركسية التي وطنها الراحل ياسين الحافظ في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي في المؤتمر القومي السادس للحزب في العام 1963، وأصبحت جزءاً من المنطلقات النظرية لحزب البعث العربي الاشتراكي ودستوره المعطل بعد انقلاب حافظ الأسد في العام 1970 الذي اعتقل كل القيادات الحزبية آنذاك، وأعاد تعريف الحزب بأنه مختزل في شخص حافظ الأسد نفسه ودولته الأمنية التي كان يبنيها من أجل الحفاظ على نظام حكمه الانقلابي اللاشرعي والفاسد المفسد. وللإنصاف التاريخي فإن تطبيق ما ورد في المنطلقات النظرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وهو ما أعتقد أنه كان من المستحيل تطبيقها لتناقضها مع مبدأ الدولة الأمنية التي تحكمُ الدولةَ فيها الأجهزة الأمنية وليس الحزب الذي يفترض أنه قائد للدولة والمجتمع؛ كان من المحتمل أن يمثل خطوة أولى من أجل ترقية حيوات السوريين، ومنحهم فرصة للتفكر بما يتعدى اللهاث للبقاء على قيد الحياة، والهروب من أحابيل فساد وإفساد الدولة الأمنية، وهو ما كان من المحتمل أن يفضي إلى انعتاق الشعب السوري، وانتقاله إلى نموذج تعاقد جديد يختاره بنفسه وبشكل هادئ سلمي قد يوفر على الشعب المظلوم إعادة كَرَّة «مجزرة حماة»، وذبح الشعب السوري الأعزل كما قام بها نظام المجرم حافظ الأسد في العام 1982، وهو ما حدث فعلياً مرة أخرى في سياق إجهاض انتفاضة الشعب السوري في سياق الربيع العربي الموءود بشكل أكثر مأساوية من خلال ما قام به نظام ابن طاغية سورية الأول، وأعني هنا السفاح بشار الأسد، الذي مثل نظامه استمراراً دون انقطاع لنظام المجرم أبيه من قبله مع إيغال في «الاحترافية الإجرامية»، والارتهان إلى كل من قد يضمن عدم إزاحته من سدة الحكم حتى لو كان ذلك يعني بيع نفسه إلى «الشيطان الرجيم حياً يرزق على وجه البسيطة».
وعلى عكس ما هو معتاد في سياق التقديم لأي كتاب والذي يقتضي من المقدم رسم الملامح العامة للكتاب الذي يقدم له، أجد من الصعوبة تجاوز الشخصي إلى الموضوعي، بالتوازي مع يقين عميق باستحالة الإحاطة بالمرتكزات العامة لفكر الطيب تيزيني، خاصة وأن بين دفتي ما أقدم له خلاصة المقالات التي كتبها الراحل الجليل في الصحافة العربية على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة من عطائه الفكري الذي لم ينقطع.
وقد يستقيم القول بأن الخط الناظم الأكبر لطروحات الراحل الجليل بين دفتي الكتاب الذي بين أيديكم، وفي غيره من نتاجه الفكري الثري، ظلت دائماً متسقة ومنسجمة مع يقينه بأن هناك خطوة لازمة لا بد من القيام بها لاستنهاض مجتمعات المقهورين الناطقين بلسان الضاد، تتمثل في إعادة الاعتبار للمشروع النهضوي العربي الموءود بفعل القوى الاستعمارية الإمبريالية التي احتالت على العرب في سياق الثورة العربية الكبرى، وقادتهم إلى استبدال الطغاة من المتحكمين بحيواتهم من العثمانيين، بأشر منهم من المستعمرين البرابرة الذين تفننوا في تقطيع أوصال البقعة الجغرافية الشاسعة التي كانت تحت الحكم العثماني من فضاء المجتمعات الناطقة بلسان الضاد، وتحويلها إلى كيانات جهيضة على شكل دويلات غير قادرة على التحول دولاً طبيعية لاحقة لافتقادها لسيرورة التطور الطبيعي لنشوء الدول القومية، هذا عدا عن فوات احتمال أي تحقق لذلك في سياق تصعد الطغم الأمنية العسكرية إلى سدة الحكم في تلك الدول المصطنعة، وتحويلها إلى دول أمنية بامتياز، التوصيف الأدق لها بأنها سجون ومعتقلات كبيرة مواطنوها هم المظاليم المقهورون القابعون بين أسوارها وأسلاكها الشائكة محسورين لا حول لهم ولا قوة في استنباط حل تتمكن فيه العين من مقاومة مخارز جلاديها.
وأعتقد أنه من الصواب المصفى اعتبار مشروع ونتاج الراحل طيب تيزيني الفكري الضخم والثري والمتنوع في غير حقل من ميادين الاشتغال المعرفي يمثل محاولة لرأب الصدع والانقطاع في المشروع النهضوي الذي بدأ به أوائل المنورين العرب بدءاً من ابن رشد، وابن خلدون، ومن بعدهما عبد الرحمن الكواكبي، وشبلي الشميل، وفرح أنطون، ونجيب عازوري، وبطرس البستاني، وحتى رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده.
وقد يكون تصور الراحل الجليل طيب تيزيني عن مفهوم «العلمانية» بشكلها المستنير الرشيد، الذي يجافي ذاك النموذج «غير المفيد» من «العلمانية الإلحادية» التي تصبح فيها العلمانية بمثابة «دين مستحدث»، لا يختلف كثيراً عن أنماط الجمود العقائدي القروسطي و حبائلها الخانقة، هو التصور الأكثر مواءمة من العلمانية الضرورية واللازمة لأجل رأب الصدوعات المختلقة في كثير من المجتمعات الناطقة بلسان الضاد، والتي أصبح فيها الأخوة خصوماً مبينين بناء على تباينات عقائدية ومذهبية لم تخدم إلا مصلحة المستعمرين القدماء الجدد لمجتمعاتهم ووكلائهم من النواطير في النظم الأمنية العربية البائسة الفاسدة المفسدة دون استثناء أي منها.
والشكر موصول لإدارة فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لتطوعهم للقيام بتلك المهمة الضرورية اللازمة بتجميع نتاج الراحل الجليل طيب تيزيني في الصحافة العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة من رحلة عطائه المعرفي الثري، وحزمها بين دفتي كتاب يضاف إلى القائمة الطويلة من الكتب التي تركها الراحل للأجيال من بعده منارة لا بد لكل عاقل مؤمن من الناطقين بلسان الضاد من الاطلاع عليها جميعها إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، من أجل البناء على أرضية واثقة من «الوضوح المنهجي» والفكري الذي لا بد منه في أي اجتهاد لاستنهاض مجتمعات الناطقين بلسان الضاد من مستنقع التخلف والجهل واحتراب الأشقاء وتغول النظم الأمنية على حيوات ومستقبل كل من يعيش في حياض تلك المجتمعات، كمقدمة لا بد منها من أجل تحول المظلومين المقهورين المستضعفين من الناطقين بلسان الضاد من مستعبدين إلى مواطنين أحرار قد يستطيعون إدراك الطموح الفطري لكل إنسان عاقل على وجه البسيطة بحياة حرة وعيش كريم.

لندن في 1 أيار/مايو 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تأخذ استراحة بشكل صحيح؟ | صحتك بين يديك


.. صياد بيدين عاريتين يواجه تمساحا طليقا.. شاهد لمن كانت الغلبة




.. أمام منزلها وداخل سيارتها.. مسلح يقتل بلوغر عراقية ويسرق هات


.. وقفة أمام جامعة لويولا بمدينة شيكاغو الأمريكية دعما لغزة ورف




.. طلاب جامعة تافتس في ولاية ماساتشوستس الأمريكية ينظمون مسيرة