الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكوميديان أند العسكري

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2023 / 6 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


حتى لا يدعي أحدُ أن العسكريين أكفأ بالضرورة
"توم أند جيري"، أو القط والفأر بلسان قومنا، مسلسل رسوم متحركة أمريكي الصُنع. يقيناً كلكم تعرفونه؟! مؤخراً، وأنا جالس بجوار صغيري يشاهد كعادته إحدى الحلقات، تَصَّنعت الغباء وسألته: "ازاي الفأر يغلب القط الأقوى منه؟!" أجابني فوراً دون عناء: "لأنه (الفأر) أذكى منه (القط)." الذكاء يستطيع أن يواجه، وفي العادة يغلب، القوة. الرسالة (الدين الجديد؟!) الأمريكية واضحة ومنتشرة كضوء الشمس ولم تترك شبراً في العالم إلا اخترقته. إذا كنت لا تزال تشك، مجرد اسأل أي طفل في أي مكان حول العالم عن "توم وجيري" وستتأكد بنفسك. لدينا الوضع مختلف، حيث تسود مبادئ: "إن غاب القط، العب يا فأر"، أو "إذا حضرت الملائكة، هربت الشياطين". الرسالة (الدين القديم؟!): القوة تغلب الذكاء، والخير (المرتبط بالقوة) يطرد الشر (المرتبط بالضآلة والحيلة والمكر). الفأر "الصغير" لا يستطيع، ولا يليق به، أن يلعب في حضور القط "الكبير". كيف لمثل هذا الضئيل، النكرة، التافه أن يظهر ويعبر عن نفسه في حضور القط القوي، يشده من شاربه ويفعل فيه المقالب المضحكة كما يفعل جيري بتوم الأمريكي؟! هذا مسخرة وعيب ما بعده عيب! كفانا من الفكاهة والمسخرة، الآن إلى الجَدْ.

مكثت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة عشرين عاماً في دولة أفغانستان تباشر، من جملة أمور أخرى، محاربة الإرهاب وتأسيس وتدريب وتسليح جيشاً من المواطنين الأفغان. لكن رغم التدريب المباشر على أيدي الخبراء الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين ومن معظم الدول المشاركة في التحالف، والتسليح بترسانة من أحدث أنواع الأسلحة، انهزم الجيش الأفغاني وانمحى من الوجود بين عشية وضحاها، حتى قبل أن تُنهي قوات التحالف انسحابها، تحت ضربات مجموعات شعثاء، غبراء وبائسة من المقاتلين الطالبان، تطبع أجسادهم بصمات الجوع والفقر والجهل، لا يملكون حتى زياً موحداً، مُسلحين بخُردة سوفيتية عمرها أقدم من نصف قرن وأحدث مركباتهم، بعد الحِمار، دراجة نارية عفي عليها الزمن. ويقدم العراق، في هذا الصدد، مثال حالة آخر لكن وسطي، لا هو فشل ذريع مثل الأفغاني ولا هو نجاح باهر مثل الذي سننتقل إليه حالاً.

"أنا عايز سلاح، مش توصيلة" (I need ammunition, not a ride)، جاء رد الرئيس الأوكراني على عرض أمريكي لإخراجه سالماً من عاصمة بلاده، كييف، بتاريخ 26 فبراير 2022، بعد يومين من بدء الهجوم الروسي. "أنا باقٍ هنا، ولن نُلقي السلاح. سندافع عن بلدنا، لأن سلاحنا الحق. هذه أرضنا، بلادنا، أطفالنا، وسندافع عن كل ذلك"، وفقاً لتصريحاته لشبكة سي إن إن الأمريكية. ولم تمضي سوى أيام معدودة حتى برهن الكوميديان أنه على قَدْر كلمته، ومسؤوليته عن أرواح الملايين من أبناء شعبه.

كانت الأسابيع الأولى في الحرب كاشفة وكافية. الحرب لا تبدأ، في الحقيقة، بتاريخ بدء تبادل إطلاق نيران المدافع والصواريخ والضربات الجوية وعدو الدبابات ضد بعضها البعض. بل تبدأ، في العادة، قبل ذلك بكثير، بسنوات عديدة. في هذه الحالة كانت الاستعدادات جارية، أو هكذا كان يُفترض، على قدم وساق منذ الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014، أي قبل نحو 8 سنوات. وهذا على وجه التحديد هو ما كشفه وفضحه القتال الفعلي في ميدان المعركة. الرئيس الروسي صاحب الخبرة العسكرية، فلاديمير بوتين، لم يكن أكثر من مهرج يتصور أن بعض الألعاب النارية في سماء أوكرانيا ستقذف الرعب في قلوب الأوكرانيين وسيسقطون مغشياً عليهم تحت قدميه. هو لم يُحضِّر ساحته الوطنية الداخلية ولم يُعد ويُجهز ويُدرب قواته بشكل جيد من أجل هذه الحرب، التي حدد بنفسه ساعة صفرها. في المقابل، كان الكوميديان في انتظاره على أتم الاستعداد والتأهب لدرجة فاجأت حتى الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وربما غيرت من حساباتهم المبدئية لإدارة الصراع مع روسيا.

ربما كان أكثر المتفائلين لا يتوقع أن يصمد الجيش الأوكراني أمام نظيره الروسي الذي يفوقه أضعافاً مضاعفة في العدد والعُدة والعتاد بضعة أسابيع أو أشهراً لحين استكمال الاستعدادات الأمريكية والأوروبية لوقف الزحف الروسي نحو العمق الأوروبي على حدود الناتو من خارج أوكرانيا. وربما قد تبدلت هذه الخطة المبدئية بمجرد أن شاهدوا بالصوت والصورة مدى تهريج العسكري وجدية الكوميديان على أرض المعركة. ربما أقنعهم رد الفعل الأوكراني المتماسك والمنظم والفعال ضد عدوان روسي مهلهل وسيء التخطيط وبائس بتغيير الخطة الأصلية ومواجهة روسيا من داخل أوكرانيا بدلاً من الانتظار بالخارج، وخوض الصراع من هناك بأسلحتهم حقاً لكن بسواعد أوكرانية، طالما أثبت الأوكران جدارتهم بهذا السلاح. شن بوتين حربه لإبعاد أوكرانيا عن الناتو. لكن غريمه، زيلينسكي، أتى له بحلف الناتو كله، مع تعاطف ودعم الأغلبية الساحقة من دول العالم، إلى داخل أوكرانيا، ليخرجوا جميعاً من هناك ألسنتهم ويتبادلون الأحضان والتهاني في وجه روسيا مباشرة.

لا شك في أن الروس أمة عظيمة وقوية، قادرين على تجاوز المحنة الحالية مثلما فعلوا مع أضخم منها مرات عديدة عبر تاريخهم الطويل والعريق، وفي كل مرة خرجوا أكثر قوة وحيوية من ذي قبل. لكن قِطهم العسكري الذي لم يتعلم إلا حِرفة القوة، ومارسها في قمع وإسكات أصوات المعارضين لسياساته داخل الوطن وابتزاز الدول بالخارج عبر افتعال المشاكل هنا وهناك، قد تسبب في فساد ودمار وفوضى عارمة داخل حدود بلادهم وفيما حولها، وبعيداً جداً عنها إلى حد سوريا وليبيا والسودان وأفريقيا خلف الصحراء. لقد خلق لهم ضغينة في نفوس المتضررين من سياساته، وهم كثيرين للغاية. في المقابل، نجح خصمه الكوميديان، ربما لأنه يجيد التمثيل كما تنعته البروباجندا الحكومية الروسية، في أن يكسب تعاطف وتأييد الأغلبية الساحقة من أبناء وطنه ومن سكان العالم كله، لدرجة جعلت أوكرانيا مزاراً عالمياً لطلبة السمعة الأخلاقية وأصبح زيلينسكي شخصياً ضيف شرف على كل محفل ومنبر، حتى على جامعة الدول العربية!

إن جيري الأوكراني، بدهائه ورغم ضآلته، لا ينفك يشد تومي الروسي، رغم ضخامته وجبروته، من شاربه، يمسح بكرامته الأرض، ويوقعه في مواقف هزلية تنتقص يوماً تلو الآخر من هيبة ومكانة روسيا بين الأمم وفي عيون أغلبية الناس العاديين حول العالم، في مسلسل يعرف العالم كله أنه من تأليف وإنتاج وإخراج العم سام الذي لا ينافسه أحد قَطْ في هذه اللعبة بالذات: الذكاء ضد القوة. هل ينجح الشعب الروسي هذه المرة أيضاً في طرد قططهم الضخام الثمان وتنظيف بيتهم من الفوضى التي أحدثوها بالداخل وإصلاح سمعتهم بالخارج، حتى تنتهي هذه الحلقة ويُسدل الستار؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عالم مغربي: لو بقيت في المغرب، لما نجحت في اختراع بطارية الل


.. مظاهرة أمام محكمة باريس للمطالبة بالإفراج عن طالب اعتقل خلال




.. أكسيوس: مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر يوافق على توسيع عمليا


.. الشرطة الأمريكية تعتقل عددا من الطلاب المتضامنين مع فلسطين ب




.. مئات المحتجين يحاولون اقتحام مصنع لتسلا في ألمانيا.. وماسك ي