الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيولُ ربيع الشمال: 19

دلور ميقري

2023 / 6 / 6
الادب والفن


ثم مرّت الساعات، وأضحى هذه المرة قلقاً على فتاته. قالت تطمئنه: " والدتي، تعتقدُ أنني الآنَ مع إحدى صديقاتي في الحديقة ". ثم أضافت، أنّ والدها سيعوّضُ عطلته بالأمس في العمل هذا اليوم حتى ساعة متأخرة ليلاً. في الأثناء، كانَ الكُريدور يضجّ بأصوات النزلاء، الذين هُرعوا إلى المطبخ لإعداد فطورهم الذي تحوّل إلى غداء. فكّرَ عندئذٍ، أنه سيمضي مع ميديا إلى ذلك المطعم اليوناني القريب، الكائن في ظلال الكاتدرائية. سيتناولان هناك الغداء على ضفة النهر، بعيداً عن أعين المتطفلين الواشين. كانَ حريصاً على أن تكون صداقته مع السيّد حيدر وثيقة، لا تشوبها أية شُبهة. إنه تقريباً، عرضَ ابنته عليه بالحلال ـ كما يُقال. فماذا يريد دارين أكثر من ذلك؟
" في حقيقة الحال، لو كنتُ في مثل سنّكِ أو أكبر قليلاً، لصرختُ في كل مكان بأنني أحبك ولما همّني في شيءٍ أصحابُ الفتن والنميمة "، قال لميديا حينَ أقترحَ عليها الغداءَ في ذلك الكهف الآمن. بقيت مُمسكة عن الجواب لدقيقةٍ، قبلَ أن تفاجئه من جديد بمعلومةٍ صادمة أكثر هولاً من الأولى. قالت في بطء وهيَ تحدجه بعقيق عينيها: " وأنا أيضاً، أريدُها أن تكون سريّةً علاقتُنا. كون والدتي فكّرت أنك خطيبٌ مقبول لشقيقتها الصغرى، وذلكَ بعدما أخذت رأيَ والدي "
" يا إلهي، ماذا تقولين! أأنتِ واثقة من هذا الكلام؟ "، هتفَ دارين بصوتٍ عال وكانَ في غاية الإنزعاج. طأطات ميديا رأسَها بحركة تعبّرُ عن الأسف، ولو أنّ ملامحها شفّت عن الرضى والإرتياح من ردة فعل عشيقها. حينئذٍ وبلمحةٍ، استعادَ في ذهنه شريطاً من المواقف، المؤكّدة تلك النيّة، المٌبيّتة: اهتمامُ العائلة بمشاركتهم في الاحتفال، ومن ثم دعوته إلى الغداء بمنزلهم؛ كلام الأب بشأن ضرورة زواجه، وأنه مرحّبٌ به كصهر لأيّ عائلة محترمة؛ عرضُ صورة الخالة عليه كي تنال إعجابه بجمالها، وتنويههم بمستواها التعليمي؛ وقبل ذلك إلتقاط صورة له معهم، والتي ستُرسل على الأرجح بالبريد إلى بيروت.
على الأثر، خاطبَ دارين نفسَهُ بصوتٍ مسموع: " وإذاً، سأكونُ عديلاً للسيّد حيدر وليسَ لربيب البيض! ". نظرت إليه ميديا في حيرة: " مَنْ هذا، ربيب البيض؟ ". لكنه لم يردّ، ولعله لم يسمع سؤالها. كانَ يتوغلُ في تفكيره إلى حقائق أخرى ( أو أوهام أخرى )، وهيَ أن العائلة تفضّلُ عليه ذلك المُقتّرَ المُقامرَ، لأن وضعه الماديّ أفضل؛ وكذلك لأنه اصغر سنّاً. وهوَ، دارين، سيكون مجردَ وسيلةٍ لجلب الخالة من بيروت الحرب الأهلية؛ وفي أحسن الأحوال، الصهرَ المقبول " على علّاته ". ثمة في مقهى اليساريين المُحبَطين، كثيراً ما سمعَ دارين الكردَ، وهم يسخرون بأهل القلم والريشة، باعتبارهم أناساً فاشلين في حياتهم أو حتى محض مجانين.
أضحت الغرفةُ تدورُ به، فانطرحَ على ظهره في السرير وكانَ ما فتأ عارياً. ميديا، غير المُدركة وساوسَهُ وهواجسه، ألقت بدَورها رأسها عند ركبتيه وراحت تتأمّلُ العضوَ الغافي. عادت ترفعُ رأسها قليلاً، لتسأله بشيءٍ من التهيّب: " هل سترفضُ خالتي، لو أنّ أبي عرضها عليك كزوجة؟ ". ظل يتأملها لدقيقة، كأنما يسبرُ غورها. مُتجاهلاً السؤال، ردّ عليها بسؤال آخر: " متى تحدثوا بموضوع خطبتي للخالة؟ بعدَ عراك والدك مع نيازي أم قبله؟ ". فكّرت برهةً، ثم أجابت: " أعتقدُ منذ أن زرتنا أنتَ لأول مرة مع رمّو "
" كيفَ هذا؟ ألم يكن رمّو حينئذٍ خطيبَ خالتك؟ "
" كانت الخالة قد أخبرتنا وقتذاك برفضها للخطيب، وذلك بعدما عرضوا عليها صورته "
" أكانَ رمّو يعلمُ بموضوع الرفض؟ "
" لا، لقد أعلمه والدي فيما بعد "، ردّت ميديا وقد لاحَ أنّ الإستجوابَ قد أضجرها وضايقها. ربما كانت ترغبُ، حَسْب، أن تسمعَ منه تأكيده لحبهما وتصميمه على الإقتران بها مهما يكن موقف عائلتها. ما لم تكن تعرفه، أن رأسَهُ كانَ يدور في دوامةٍ عنيفة مذ أن صُدمَ بحقيقة علاقاتها مع شبان آخرين؛ ومن ثم صدمته بموضوع الخالة، المُبدد أحلامه تماماً. كان خطؤه عندئذٍ ( سيشعرُ به في وقتٍ آخر ويندم عليه بشدّة )، أنه لم يُصارحها بشكلٍ جليّ بوساوسه وهواجسه، المعلومة. أكثر من ذلك، أن " القرينَ " هوَ من كانَ يتكلّم في غالب الأحيان. وهذا هوَ، يُخاطب دارين ساخراً بمرارة: " وإذاً، فالسيّد حيدر كان مُستعداً للعراك من أجل سُمعة ابنته نسرين، المُقبلة على الزواج من ربيب البيض. وفي الآن ذاته، كان يغمضُ عينيه عن علاقات صغرى بناته مع الشبان طالما أنها ليست بعدُ بسنّ الزواج. أما الثالثة، روجين، فإنها لا مانعَ أن تعرضَ مفاتنها على دارين، أو غيره، ما دامَ مضموناً أمرُ اقترانها بابن أسرة ثرية. كذا فليكن الأبُ المُتحرر، المُنقلب إلى مُحافظ عندما يتعلقُ الأمرُ بالخمرة المُحرّمة! ".
قالت ميديا، وكانت تشعرُ بمزيدٍ من السأم: " هل ما زلتَ ترغبُ بذهابنا إلى المطعم، أم غيّرتَ رأيك؟ ". دونَ أن ينبسَ بنأمة، نهضَ لإرتداء ملابسه. أطلقت تنهّدةً مَسموعة، ثم بدأت هيَ الأخرى تلملمُ ثيابها المرمية هنا وهناك. بعد دقائق، كانا في الطريق إلى ذلك الكهف الإغريقيّ، مُتجنبَيْن المرورَ من قدّام محل الحوت. أخذا الطريقَ الموازي للنهر، وكانت الأرضُ ما زالت ندية بفعل هطول زخات من المطر صباحاً. وكذلك الأشجار، المُبلل غبارُ أوراقها وأزهارها، وكانَ يُسبب إزعاجاً لا يُرام للمعانين من الربو والحساسية. الشمسُ، راحت الآنَ تُبعد السحبَ عن صفحة سحنتها المُضيئة. وثمة أثرٌ لقوس قزح، يحتضرُ في الأفق.
هل هناكَ ما هوَ أروع من غداءٍ يونانيّ على ضفة النهر، برفقة نبيذ ساموس المُحلّى والموسيقى الراقصة لكازانتزاكيس. كان كل ما يحيطهما يُغني ويَرقصُ؛ خريرُ النهر وهديرُ الشلال ونعيق النوارس وطبطبة البط وهديل الحمام وتغريد الطيور وزقزقة العصافير.. والشباب في الشوارع القريبة، وكانوا ما زالوا ثملين من سكرة ليلة أمس.
وهوَ ذا دارين، يقبّلُ يديّ الحسناء الشقراء، الأبهى من كل ما يحوطهما من بهاء وحُسن. يقول لها الكلماتِ المأمولة، التي كانت تنتظرها: " مهما يكُن رأيُ والديك وتخطيطهما، فإنّ حبنا باقٍ وسينتصرُ على جميع العقبات. وسلفاً أعلمكِ، أنني مستعدٌ لاختطافك والذهاب معاً للعيش في مدينة أخرى ". وكادَ أن يُسمّي مدينة غوتنبورغ، أينَ يعرفُ ثمة عدداً من الأصدقاء، لكنّه تذكّرَ بأسى أنّ عشيقَ فتاته قد انتقلَ إليها في عامٍ سابق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي