الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهادة أدبية عن رواية ( زقاق المدق )

هدى توفيق

2023 / 6 / 7
الادب والفن


كيف قرأت النساء في أعمال نجيب محفوظ ؟
نموذج: حميدة – زقاق المدق
لن أقول أنني عشقت قراءة أعمال نجيب محفوظ منذ الصغر، فأنا واحدة من ملايين العاشقين لقراءة أدب محفوظ ؛ رائد التيار الواقعي ، ومؤرخ ومؤسس هذه الكتابة بكل تجلياتها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية لأحداث تاريخ الوطن في كل المراحل، التي عاشها وعاصرها محفوظ طوال مسيرته الإبداعية الروائية، وحتى القصصية. وربما في كل الوجوه التي كتب فيها من: تاريخ ،ومسرح ،وسيناريو ،ومقالات بكل دأب وإخلاص،وابتداع، واقتدار آسر، وآخاذ.
في بدء الأمر كت أستمتع بقراءة كل ما يقع تحت يدي من أعمال إبداعية لأديبنا الكبير. ثم بعد سنوات من محاولات الاستمرار في التثقيف والمتعة الذاتية الشديدة التي أشعر بها في قراءة أدب محفوظ ؛ قمت بتحميل نسخ إلكترونية لأعماله الكاملة. وكتبت جدولاً منظماً للقراءة ، وكتابة ملاحظات خاصة عن الأعمال التي ارتبطت بها شعوريًا ؛ وأمتعتني على كل المستويات حتى أستفيد أكثر، وأهم ملاحظة لفتت انبتاهي: أنت تقرأ شخصيات نجيب في كل الطبقات والحالات التي تفرضها الحالة الواقعية، والسردية داخل الأزقة، والحواري، والحانات ، وحتى أفخم الأماكن ؛ والجميع يتحدثون بلغة فصحى بالغة البيان، والتعبير، والقصد حتى لو كانت على لسان حال: الرقيع، والزبال، والسارق، والمتعلم، والمثقف، والداعرة، والكريمة؛ بلغة عربية سلسة وسليمة، وفي غاية الجمال الوصفي، والسردي، والمعبر عن مكنون المعنى المراد توصيله بكل براعة لغوية، وقوة فنية لا توصف من شدة جمالها، واتقانها؛ فتتعجب وتتساءل بدهشة، واعجاب شديد: كيف فعل محفوظ كل هذا بسلاسة وثراء لغوي، وثقافة محنكة بتجارب، وخبرات حياتية ليست بالهينة؟! تطرح جهداً ومثابرة لا مثيل لهما قام به مع موهبة أشبه بمعجزة تسير على أرض الإبداع الذي لا قرين له. فكان الرائد والمعلم والجذر الذي تنهل منه كل الأجيال الجديدة.
كان أشد ما جذبني لعالمه الروائي، وإن كان في الحقيقة أن الكثير من عوالمه الإبداعية فتنت بها ، وما كان أشد فتنة في عالمه الإبداعي الغزير بالنسبة لي هو صنع الشخصيات ؛ فالشخصيات عند محفوظ لها مذاق وطعم آخر، ليس فقط لما تحتويه من قدرة التخيل، وقوة التعبير عن نفسها سواء بالطيب أو الخبيث، والجرأة الحياتية في تحديد مصائرهم مع لعبة الأقدار، وحسابات الزمن والمكان التي لا يغفلها الراوي داخل الواقع المعاش والمطروح؛ كما يلزمه الضرورة الروائية والحكاية المؤرخة والمسجلة؛ بخلق الراوي الحصيف الواعي بامتداد المكون الزمكاني داخل السرد المنظم نظامًا ممتزج بفنية بالغة الجمال والتأريخ الواقعي متعدد الأوجه داخل زمن ومكان محددين. وإنما أيضاً ما يتركه في نفسي من التأمل والحيرة من أفعال هذه الشخصيات الروائية الغريبة، والشاذة في بعض الاحيان؛لأسباب مسكوت عنها، ونابعة من محفزات عميقة داخلية في الشخصية، وليس الظاهر من الأسباب الواضحة أمام الجميع كما نظن.
كانت شخصيات: (حميدة، وعباس الحلو، وإبراهيم فرج) في رواية ((زقاق المدق)) من أكثر الشخصيات التي استحوذت على تفكيري، وقرأت الرواية أكثر من مرة؛ لأستمتع بكامل الشخصية المروي عنها، وأخص بالذكر شخصية حميدة التي كنت أتأملها كثيرًا، ورأيت أن حميدة لم تكن مجرد فتاة فقيرة فائقة الجمال تتمرد على واقع الزقاق والحي الشعبي المتواضع والذي لا يجلب لها غير الفقر والتعاسة والشقاء؛ مع حظها القليل في فرصة واحدة بالزواج من الحلاق عباس الحلو أمام غرورها وجمالها وطموحها الجامح عن حقيقة ما تستحقه بالفعل ؛ وليس بحكم الظروف التي تعيش فيها حتى يسقط القدر أمامها القواد الوسيم المهندم، التاجر الذكي اللماح إبراهيم فرج الذي يعتبر نفسه ناظر مدرسة الحب مدفوع الثمن، ويكرس حياته للعمل على استقطاب الفتيات لممارسة الدعارة داخل شقته المكونة من ثلاث حجرات: الأولى: لتعليم الرقص الشرقي، والثانية: للرقص الغربي، والثالثة: لتعليم مبادئ اللغة الإنجليزية بطرق معينة؛ لخدمة الزبائن الذين أغلبهم من الجنود الإنجليز في فترة الاحتلال البريطاني لمصر. لكن الناظر إبراهيم كان ذو سليقة ونباهة في جذب الفتيات إليه، بل وقدرة على سبر أغوار الضحية الجديدة بكل ثقة وقوة وجرأة اكتسبها مرة من ذكائه، ومرة من خبراته في انتقاء الفتيات المعنيات؛ من أجل العمل عنده في تجارة الرقيق الأبيض داخل مدرسة الحب والبغاء التي أقامها داخل شقته. فحين التقت عيناه بعيني حميدة الوقادة المتمردة التي تقدح روحها بالفجر والعهر الكامن في جميع أوصالها منذ أن أدركت وتعالت عن حقيقة نفسها؛ رغم كل البؤس الذي تعيش فيه؛ فما كان إبراهيم إلا مجرد قداحة أشعلت هذه الفاجرة بالسليقة حسب تعبير إبراهيم بمجرد رؤيتها: ( وراح يرقُبها وهي تبتعد مُتعجلة، وقد ارتسمت على شفتَيه ابتسامة ساخرة وقال لنفسه: " مليحة بلا أدنى شك، وهيهات أن يكذبني ظني، فهي موهوبة بالفطرة..هي عاهرة بالسليقة .. وسوف تكون نادرة المثال." ). رواية: زقاق المدق – نجيب محفوظ ،الناشر/ مؤسسة هنداوي، ص137).
السؤال هنا لنفسي : هل الجنوح إلى الرذيلة فطرة، والعهر سليقة كما قال الروائي على لسان شخصيته الروائية إبراهيم فرج القواد؟! أعتقد أن محفوظ لم يكن يروي عن مجرد فتاة عاهرة نراها ونشاهدها عادة في كل الأحوال المعتادة في حياتنا الواقعية، والمسجلة رسميًا بمسمى معروف؛ ولكن أظن وهذا مجرد تأويل ورؤية انطباعية عن طرح تحليل لشخصية حميدة.أنه أراد أن يقدم لنا تفسيراً وتعريفاً مختلفين؛ وربما قريب لحد ما من فلسفة الأمور عن معنى العاهرة؛ الواضح أنها قتاة فقيرة، ويتيمة، ولم تتعلم ولا تعمل، وقهرتها ظروف الحياة ودفعتها لامتهان الدعارة حتى تعيش وتكسب قوت يومها. هكذا يتطلب الطرح الواقعي لتلك الشخصية؛ ولكن هذا الادعاء يبدو كمجرد قشرة خارجية لا تجود بالحقيقة التي أراها بالفعل سواء كانت صحيحة أو خاطئة، لأن الفن من وجهة نظري: تأويل وخيال يطرح العديد من الرؤى، ووجهات النظر المختلفة، فتلك الفتاة لم تكن مجبرة على اتخاذ هذا الطريق؛ بالعكس لديها أم ربتها وأعطتها وعوضتها عن حنان وعطف أمها الحقيقية، وأبيها المتوفي ، ولديها جمال وقوة شخصية جعلت أغلب رجال الحارة يتمنونها زوجه لهم، ونالت إعجاب أفضل وأكرم شاب في الحي (الحلاق عباس الحلو). الذي عشقها وسافر وكابد؛ من أجل أن يجلب لها المال والراحة والستر والاستقرار والزيجة الشريفة والكريمة ، هذا بالضبط ما قصده القواد إبراهيم عندما قال: أنها موهوبة بالفطرة، وعاهرة بالسليقة؛ وهذا يطرح مفهوماً آخر عن النزعة الذاتية داخل جوهر تلك الفتاة الشيطانة في أفكارها وجموحها وطبيعتها الشاذة، عن وجهة نظرها نحو الحياة، وشخصها المغرور غرور الفسق والعهر داخلها؛ بأنها جميلة الجميلات في جميع الأزقة، بل وفي مصر كلها، وتستحق الجاه والمال والأبهة والقوة والسيطرة حتى لو كانت فقيرة، وأميّة، وبلا مركز اجتماعي، وعزوة وأهل؛ ولا شئ سيقف أمامها ليمكنها من الاعتلاء والعيش برغد وبحبوحة. حتى ولو بممارسة الرذيلة مع الإنجليز وغيرهم.
المدهش في تلك الشخصية الروائية أن هناك مفهوماً عميقاً عن قدرة الاختيار، وإرادة من حديد لتحقيق ما تريده حتى لو كان فيه هلاكها، وتدمير من حولها لحد القتل. فحميدة الجاهلة الذكية الجميلة اللماحة، والعاهرة بالسليقة والفطرة تتمرد على حياة الزقاق من الفقر المعتاد، والمألوف لمن في مكانتها ، وتغامر بكل شئ حتى عفتها وشرفها؛ من أجل المال والوجاهة والعيش كما ترغب روحها الفاسقة؛ لأنها لا تحب ولا تفكر إلا في شخصها المغرور والمهووس بجمالها وشهوانيتها البوهيمية. تلك الأنانية المشبعة بروح لئيمة ووقحة هي أسلحتها لتقهر الحياة بأي شكل، ولو كان بأرخص أشكال الحياة من وجهة النظر الصحيحة والسليمة عن معاني القيم الشريفة. حميدة تلك الشخصية الروائية تعلق في ذهني منذ سنوات طوال من قرائتي لها، وستظل النموذج الأمثل في مخيلتي عن إبداع محفوظ العظيم؛ لتجسيد أسطورة العاهرة حميدة التي قتلت عاشقها عباس الحلو بكل قسوة ودم بارد؛ بعد أن قتلها عشق إبراهيم فرج قوادها، وسوف تظل حميدة تقهر كل من حولها بأسلحة مختلفة وقاسية للغاية؛ من أجل أن تعيش، وتفرض إرادة اختيارها الفطري بالسليقة كما أخبرنا ناظر مدرسة الحب مدفوع الثمن في بداية السرد الروائي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي


.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل




.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي