الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيولُ ربيع الشمال: 23

دلور ميقري

2023 / 6 / 10
الادب والفن


لعلنا لاحظنا، أنّ دارين بصورة عامة لم يكن إجتماعياً. وهذه صفة، تنطبقُ على معظم أصحاب القلم. من حُسن فأله، والحالة هذه، أنّ السويديين أيضاً يميلون إلى البرودة في علاقتهم بعضهم ببعض. ربما لأنهم جيران للمحيط المتجمد الشمالي. مع أنّ البطريق والفقمة، يعيشون ثمة بشكل جماعي. الأجدى ذِكرُ الدب القطبي، كمثال، هوَ المؤثرُ حياةَ التوحّد. بالأخص لو عرفنا، أنّ السويديين يَدْعون أولادهم باسم الدب؛ " بيورن ". هكذا مفارقة فيما يتعلق بمثال البطريق والفقمة، يُقابلها عند العرب تسمية أولادهم بأسماء النمر والفهد، بالرغم من أنها حيوانات سافانا لا صحراء. لكن، هل يُعقل أن يدعو أحدنا ابنَهُ باسم " جَمَل "؟
البرودة تسري في الأسواق أيضاً، مهما يكن الطقسُ. فلا يُمكن أن تجدَ هناك بائعاً، يقف أمام مدخل متجره لكي يتشمّسَ أو ليلاحق بعينيه الأردافَ المترجرجة. لو وُجدَ، فإنه على الأغلب من شاكلة الحوت، المعانية فقراته من الديسك بسبب 16 ساعة من الوقوف وراء الصندوق فيما يحشك على مدار الساعة أوراقَ الخمسمائة كرون في جيب البنطال، الذي لم يغيّره مذ وصوله للسويد قبلَ عقدٍ من السنين. يا لها من أرقام!
الشارعُ التجاريّ ( شارعُ الملكة )، الذي تمنى دارين يوماً لو يُدعى باسم القيصرة جوليا، يَغصّ في هذا النهار الربيعيّ بأنداده اللاإجتماعيين، المحتفظين في المقابل باستقامة الأنبياء لو أننا نتكلم عن الضمير الحيّ والنزاهة والصدق. العنصريون قلّة قليلة، بيدَ أنهم يزدادون طرداً مع ازدياد عدد المساجد والدُعاة والنقاب والحجاب. إنما من المستبعد، في المنظور القريب على الأقل، أن نشهدَ هتلراً سويدياً يأمرُ بمصادرة المواطنين المسلمين لزجهم في معسكرات إعتقال مشئومة. ثمة هتلر شرقيّ ( نذكره في سياق الكلام )، راحَ ينمو بسرعة عقبَ حربٍ خارجية دامية أستمرت ثماني سنوات، وحربٍ داخلية ضد مواطني بلده يلوحَ ألا نهاية لها في الأفق: دارين، شارك في عام مضى بمظاهرة عاتية لكرد العاصمة، تنديداً باستخدام ذلك الهتلر لأسلحة كيماوية في إبادة مدينة برمتها. بدَوره، فإن رفيقه البعثيّ اللدود، سبقه في هكذا فعلٍ إنتقاميّ رهيب. في كلتا الحالتين، بقيَ أصحابُ الضمير الحيّ في العالم أقليّةً من الأسماك الصغيرة البائسة في محيطٍ من الحيتان. والحوتُ، ما أنفكّ يكدّ 16 ساعة يومياً الخ!
مرّ أسبوعٌ على زلزال الكُريدور، الذي كانت نتيجته الوحيدة هيَ إبعاد حسين إلى مسكن آخر. أراد دارين إبلاغ جوليا بالأمر، لكي تزوره دونما خوف. لكنها لم تظهر قط مذ قرابة أسبوع. ماذا دهاها؟ إنها حتى لا تردّ على مكالماته: " قد تكونُ خائفةٌ بعدُ، لعدم علمها بنفي صديقها السابق؟ "، يفكّرُ حبيبها ببعض الريبة. فماذا عن الحبيبة، المُفترض أنه عقدَ العزمَ سلفاً كي يخطبها من أبيها؟ لقد نزحت فتنتها رويداً من ذهنه، ليُفتن بصاحبة المؤخرة المريضة. هل أسدلَ على الأولى ستارةً من النسيان، حال الستارة الكتانية التي تغطي صورتها، المتقمّصة بطلة الأسطورة الجبلية؟ مع أنّ السيّد حيدر لم يعُد يعودُهُ في الأحلام، ليخاطبه بنبرة مُنذرة. مع ذلك، لم تنقطع زيارات ابنته لصاحبها، ثمة في الكُريدور.. وكانت زياراتٍ، تُخلّف دائماً إرتواءً مُتبادلاً. ميديا لا تفتأ تذكّره بضرورة الوفاء بوعده، حتى عندما يقفُ عند نافذة حجرته كي يتابع مشيتها المتعثّرة على الدرب الضيّق، المفتوح على الشارع العام: " ننتظرك هناك في منزلنا "، تخاطبه إشاراتها الخرساء مع إبتسامة وضيئة.
أخيراً وبمحض المصادفة أيضاً، لمحها في ملهى " فلوستريت "، في باحةِ صالةٍ منعزلة منذورة للرقص. كانت جوليا مع شاب أفريقي عملاق، تنسابُ في أحضانه مع الموسيقى الراقصة، يلوحُ عليها السُكْر والتحشيش في آنٍ معاً. كانت ترتدي ثياباً مكشوفة، برّاقة. منظرها مبتذلٌ تماماً. لكن دارين لم يفقد الأملَ في أنها حينَ تحسّ بوجوده، ستدع العملاق وتدعوه للرقص. هكذا ظلّ ينتظرُ الفرصةَ السانحة، مُراوحاً في مكانه عند جدارٍ صفّت بإزائه أصصٌ نحاسية ضخمة، يبزغ منها عفاريتُ نباتات إصطناعية. تمنى لو كانَ ثمة بار في هذه الصالة، فإن إنتظاره كان سيغدو أكثر طبيعية. لم يكن هناك سوى طاولة روليت، برز فيها من بين اللاعبين رأسُ نيازي ذو الشَعر المُحنّى. كانَ دارين قد قررَ تجاهله، لو أن أعينهما تبادلت النظرات.
" أنتَ هنا من زمان، يا حبيبي؟ "، أخرجه صوتُها المُفتقَد من خلوته بفكره. عانقته بقوة من وسطه، ما آل بمقدمة بنطاله الجينز إلى الإنتفاخ نوعاً ما. فيما كانَ يضمها، رأى ذلك الأفريقي منزوٍ عند إحدى الطاولات، متخذاً هيئة طفلٍ عملاق يرى لعبته الأثيرة بيد طفل آخر. لكن دارين، لأول وهلة، لم يفهم نظرته. ظنّ أنه عشيقٌ بديل، يؤمّنُ البودرة مجاناً لعشيقته. سألها، مومئاً إليه بصورة مواربة: " مَن هو؟ "
" هوَ راقصٌ عابر، فلا تهتم به "، أجابت عن إبتسامة بيضاء ناصعة. لم يستفهم منها عندئذٍ عن سبب إختفائها وعدم الرد على مكالماته، لأنه لم يشأ التنكيدَ على هذه اللحظات الحميمة. ما عتمَ أن أسلمها قيادَ نفسه، لتراقصه على أنغام الموسيقى مرةً على غرار الطريقة الغربية ومرةً على غرار سامية جمال. لقد أفاضت فتنتها في الحالة الأخيرة، كون الدماء الإيطالية أقرب إلى الشرقية منها إلى الغربية. فكما حقّ له أن يعلم فيما بعد، فإن والدها ينحدر من جزيرة صقلية، التي أضحت تقريباً جزيرة إسلامية في العصور الوسطى قبل أن يستعيدها النصارى.
سألها دارين في أثناء الرقص بنبرة مُداعبة، أدنى للخبث: " هل شفيت مؤخرتكِ أم تعرضت مجدداً لنطح قرون الثيران؟ ". لم تعجبها الدعابة. كعادتها، ندّ عنها أولاً تنهيدة مسموعة قبل الإجابة: " أنا كنتُ تقريباً على ما يرام منذ البداية، لكنني أردتُ ألا أشاركك الفراش إلا بعد التأكّد من شعوري تجاهك "
" لكنكِ شاركتِني الفراشَ منذ اليوم الأول؟ "
" أنتَ تعي قصدي، فلا تتغابى "، ردّت عليه ثم أستدركت: " ألا تغار عليّ حقاً؟ ". سؤالها، جعله مرتبكاً. بقيَ متردداً للحظات، ثم أجاب: " أغارُ عليك جداً، ولكن ليسَ من المُغرمين القدامى ". كانَ جواباً واقعياً، وقد حازَ رضاها بدليل ضوء إبتسامتها وجذبها القويّ له مرةً أخرى. بعدئذٍ تركته مؤقتاً، قائلةً أنها بحاجة إلى الحمّام. ما أن أختفت وراء مدخل الصالة، إلا ونيازي ينبثق أمامه كتلك النباتات الإصطناعية الشبيهة بالعفاريت. خاطبه عن قربٍ شديد، كونه يشكو قليلاً في إحدى أذنيه: " معلومك أنتَ مُدينٌ لي بالإعتذار، كونكَ أهنتني أمام الخلق "
" مع أنني لم أكن مُخطئاً يومئذٍ، فلا مانع لديّ من الإعتذار لرجل في مقام أخي الكبير "
" أنا كنتُ مُدركاً لتصرّفي الخاطئ، وإلا لكانَ لي معك شأنٌ آخر. على أية حال، أنا قبلتُ إعتذارك "، قالها ثم أستدركَ وعلى فمه تكشيرة ماكرة: " ومبارك لتلك العائلة صهرها الشهم "
" أيّ عائلة وأيّ صهر؟ "، هتفَ دارين في شيءٍ من الذعر. ربتَ الرجلُ على كتفه، وقال باقتضاب: " حارتنا ضيقة، أخي الصغير ". بقيَ دارين فاغرَ الفم، مصدوماً من أحد احتمالين؛ وهما افتضاح أمر علاقته بميديا، أو انتشار خبر خطبته الصورية لخالتها الصغيرة. لكنه رجّحَ أن إبنَ أخي نيازي، صديقَ الحيّة غير السامة، هوَ مصدرُ المعلومة: لقد أستمدّها من نسرين بالذات، التي علمنا أنها تزوره دورياً في شقته.
عادَ نيازي ليقول بأريحية: " راقبتك وأنتَ تراقص تلك الحسناء، وواضح أنها ستذهب معك للبيت. سأوصلكما بسيارتي، كرمى للطيبين "
" أشكرك، فإن مسكني قريبٌ "
" ربما تأخذك إلى مسكنها، فلا تتوان حينئذٍ عن الإشارة إليّ "
" أشكرك مرة أخرى، وسأفعلُ ذلك بطيب خاطر "، ردّ دارين على الشهامة المألوفة لربيب الملاهي الليلية. في الأثناء، كانت جوليا تعتنقه من الخلف: " هل تعرف ذلك الرجل؟ "، سألته مومئة برأسها إلى نيازي المبتعد عنهما. لما أخبرها من يكون، علّقت بالقول: " لقد صادفته أكثر من مرة عند حسين ". لم يُفاجأ دارين بالأمر، لكنه أستغربَ لعدم مشاهدته نيازي من قبل في الكُريدور. في نهاية السهرة، دعته جوليا لمرافقتها إلى شقتها. فلم يكن منه إلا التملّص من دعوة نيازي. ثم ركب معها سيارة أجرة، كانت متوقفة بالقرب من الملهى. كان السائقُ من كرد تركيا، الذين تعرّف عليهم دارين في المقهى اليساري. وقد تجاهلَ الرجلُ تحيته، خشية خسارته أجرة الرحلة. كرمى للطيبين!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا


.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب




.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في