الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شذرات من روايتي لؤلؤة راشيل

وليد الأسطل

2023 / 6 / 10
الادب والفن


"ستغادر سيسيليا المكتب المريح الذي أقامته مؤخرا بدل مستودع قديم، على سفح التل، وسط الكروم. كان الزبائن يبدون سعداء بالمرور عبر مزرعة الكروم كلما قدموا ليشتروا منها الشمبانيا قبل دخولهم غرف التذوق التي كانت في الطابق الأرضي.
المهندس الذي صمم المكان جعله مفتوحا على منظر كروم كاستيلو ديل تريبيو كلها وعلى فلورنسا. في هذا الموسم، تكون الكروم خضراء للغاية. لم يكن الشتاء قاسيا هذا العام، ما جعل المسارات بين الكروم تشبه النجيل الإنجليزي! لطالما أحبت سيسيليا هذا المكان وسحره المتغير مع الفصول.
ولكن ما أحبته أكثر هو القبو القديم الممتلىء برائحة الخث.”

“انطلق نباح كلبي المبتهج ومواء قططي بمجرد وصولي أمام الباب. هذا هو مصدر سعادتي ومحل ثقتي الوحيد في هذا العالم. يسمعونني ويتعرفون علي من بعيد!
– مرحبا يا جميلتي، أقول هذا لقطتي الرمادية، الروح الأنثوية الوحيدة في المنزل. أما دجاجتاي فتبقيان في الخارج وقت غيابي، ولكن بمجرد وصولي وفتحي لباب الحديقة، تأتيان راكضتين صوبي، تهزان تنورتيهما وتثرثران بهدوء لتخبراني أنهما سعيدتان برؤيتي. أتساءل دائما عن عدد الأشخاص الذين يتم الترحيب بهم بهذه الطريقة عندما يعودون إلى المنزل؟!
كنت أشعر بجوع شديد: مقلاة، زبدة، ثلاث بيضات، ملح، فلفل، قليل من جوزة الطيب، خبز، جبن، كأس من النبيذ، وهذا كل شيء.
كلبي عند قدمي، وقططي على الأريكة، ودجاجتاي تطوفان حولي.”

“طلبت أن يتم نقلي إلى فلورنسا، وتم لي ذلك. وجدت ذكرياتي مع راشيل تنتظرني هناك، عندما كنا نقضي عطلة نهاية الأسبوع مع جدها وجدتها في منزل كبير في شارع “فيا ريكاسولي”. كانت غرفتنا التي تغطي صورنا جدرانها في الطابق العلوي بمثابة جزيرة لنا. لم يحدث أن مررت بمنزل راشيل دون أن أفكر فيها. كنت أتجول ذات يوم في حديقة الورود كما اسميناها، أغلقت عيني وشرعت أتذكر تلك الأيام؛ وفجأة أحسست كأن ذراعيها حول خصري وأنفاسها تداعب رقبتي.
هناك شيء أثار حزن أمي، هو أنني لم أتزوج ولم أتعلق بامرأة أخرى لأكثر من ليلة واحدة. أعيش وحدي مع كلبي وثلاث قطط ودجاجتين في منزل صغير قمت بتجديده بنفسي بالقرب من كاتدرائية سانتا ماريا دل فيوري، يحوي حديقة كبيرة تعزلني عن العالم. في الحديقة، تستلقي قططي على طاولة حجرية قديمة، ومكعب حجري يمكن اعتباره مقعدا. هذا هو المكان الذي أفكر فيه بشؤوني اليومية، أفكر في الحياة، في راشيل، في الحياة التي كان من الممكن أن نحياها لو …
في نهاية سلسلة معلقة حول رقبتي، علقت اللؤلؤة التي وجدتها في يدها لتظل دائما ملتصقة بقلبي.”

“الطريق المؤدية إلى منزل الدكتورة دال الريفي، تمر عبر جزء من غابة سيستو فيورنتينو الكثيفة، التي لا تزال تبدو قاسية الملامح على الرغم من رحيل الشتاء. ومع ذلك، كان الربيع هو المنتصر، فقد أضاء حجاب أخضر ناعم قمم الأشجار. ذكّره هذا بأشجار البلوط العالية التي كانت تسميها راشيل بـ “أسيادها المهيبين” والتي لطالما جمعت قبعات أجوازها الصغيرة في الخريف، وأرت برونو إختلافاتها الصغيرة. “جميعها متشابهة ومع ذلك تبقى مختلفة”.
الشوفروليه كامارو تزمجر. ركز برونو قدر استطاعته على جانبي الطريق خشية أن يظهر أمامه حيوان بشكل غير متوقع. وخلال ذلك وجد نفسه يتمنى أحيانا حدوث اصطدام لكي ينسى كل شيء. وهكذا، فاته أن يسلك الممر الجانبي الموصل إلى منزل جوليانا الريفي. استدار بسيارته، وسار حتى بلغه من جديد، وسلكه، لقد كان ممرا يتخلل غابة بلوط صغيرة، وقفت في منتصفه ظبية صغيرة. تباطأ، نظرت إليه الظبية ومضت متأنية صوب الشجيرات. تبعها بعينيه لكنها اختفت بسرعة.
عند وصوله أمام منزل جوليانا الريفي، تعرف برونو على المدخل بفضل وجود سيارة المراقبة. أوقف سيارته على جانب الطريق، وطلب من الشرطي الموجود داخل سيارة المراقبة أن يذهب ليستريح، وسيتم إرسال شرطي آخر ليحل محله. سلك الطريق الحجري الذي يؤدي إلى المنزل. بني المنزل في الربع الشمالي من قطعة الأرض الموجود داخلها، الربع الشمالي الملاصق للمروج والغابات. مما ترك مساحة كبيرة حوله.
– كم هو وحيد هذا المنزل الصغير! قال لنفسه.”

” أرأيت يا صديقي، أليست حياة الكلاب أفضل؟ ليست لديكم يا معشر الكلاب كل مشاكل القتل المجانية هذه، على الأقل! ولا كل هذه الأرواح المزهقة! تحيون حياة مثالية، تنتقلون من النقطة أ إلى النقطة ب دون فشل. لا تفهمون أساسا فكرة القتل غير المبرر. تقتلون من أجل البقاء. هذا كل شيء! على أي حال، أنتم لا تعرفون معنى التخطيط لعمل شرير. أقسى ما يمكنكم ارتكابه كجرم هو الدفاع عن النفس أو الجريمة العاطفية، ولكن ليس لديكم مثل هذه الجريمة التي نواجهها الآن، جريمة شديدة الخبث والانحراف والتعقيد. أنا متأكد من هذا. انت كلب طيب، هيا تعال. أرجو أن تقبل دعوتي لتناول فنجان من القهوة.”

“أنا الإبن الوحيد لزوجين فلسطينيين مغتربين، حملت على عاتقي كل آمال والديّ المحطمة. كنت ابنا مثاليا، وطالبا مجتهدا، مدمنا للعلامات الجيدة، أنأى بنفسي عن المشاكل، راضيا بما يمنحه لي أبي وأمي. لقد كان كثيرا إذا أخذنا الحب بعين الإعتبار. لكن لم يكن كثيرا إذا أخذنا في الحسبان سياق الثمانينيات، وذوقي المختلف تماما عن ذوق والديّ، والغليان الداخلي الذي كان يلتهمني.
كنت أواجه أبي من خلال ما أطلقت عليه اسم مبارزات شفوية، لكنها كانت في الحقيقة أشبه بمناجاة أو ربما مونولوج أكدت فيه تمردي، ورغبتي في أن أكون أوروبيا، أناركيا، وماسونيا.
كان أبي يجيبني بطريقة مقتضبة مثل “أسرع، ستتأخر” أو “لا يزال لديك الكثير من العمل”، إجابات تركتني أواجه بمفردي الأزمة الكبيرة التي كنت أعيشها على مستوى الهوية.
كان صديقي ديفيد منغمسا في ثقافة موسيقية واسعة شاركها معي إلى حد كبير، مما جعلني أكتشف كل موسيقى القرن العشرين. عرّفني على كل شيء: ديبوسي، رافيل، سترافينسكي، مجموعة الستة مع داريوس ميلود المفضل لدي في المجموعة، وشوستاكوفيتش. تحدثنا لساعات عن شوستاكوفيتش، عن حياته، ومقاومته النشطة للتفكير المطلق، واستمعنا، مستلقين على سجادة غرفة النوم إلى رباعياته الرائعة. عرّفني ديفيد على كرزيستوف بينديريكي وبيير بوليز وأوليفييه ميسيان. لم تكن أذني موسيقية بما فيه الكفاية، ما دفعني إلى التمرد، لكن مع تكرار الاستماع، تحسن ذوقي، حتى أنني أصبحت أستمع إلى موسيقى أرفو بارت أو جورجي ليجتي، وظل هذان الموسيقيان عزيزين على قلبي.
أنا مدين لديفيد بعالم رائع. وهذا هو سبب رغبتي في أن أصبح يهوديا. لكن في الحقيقة ليس هذا السبب الوحيد، وإنما البغض الشديد الذي كان يبديه ديفيد تجاه الصهيونية؛ فقد افهمني أن اليهود أطياف متعددة. وأخيرا اكتشافي للهولكوست قد أزعجني كثيرا لدرجة أنني أردت أن أكون جزءا منهم. مات أجداد ديفيد في أوتشيفتز ونجا والداه بأعجوبة هناك. كانوا يهودا رائعين مثل كثيرين هلكوا في المعسكرات النازية والذين يوجد فيهم العديد من الموسيقيين المشهورين والعلماء العظماء وكبار الأطباء.
ما زلت أبكي بسبب ما حدث لهم.”








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال