الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-حانة الأقدار-

راتب شعبو

2023 / 6 / 11
الادب والفن


يحاول جسدك، بعد أن ينتهى التحقيق، أن يسترد كل ما تراكم عليه من خسارات سببها الألم والقلق والخوف في فترة التحقيق. يتحول انعدام الشهية للطعام إلى نهم يقلل من الاعتبار الذاتي حين تتصدع الكبرياء تحت ثقل الجوع. يفعل الجوع الآن ما كان يفعله بك الألم والخوف في فترة التحقيق، حين لا تملك سوى ذاتك المعزولة أمام هذه الكثرة العدائية المزودة بكل الأسلحة اللازمة لتحطيمك. غير أن الانكسار أمام الألم أقل مذلة من الانكسار أمام الجوع. كانت كل الأيدي تخرج من الطاقات، لدى سماع صوت الشرطي بعد توزيع الطعام: "الي بدو كمان خبزة يمد إيدو من الطاقة". لكن عدد الخبز المتوفر أقل من عدد الأيدي. من يضطر إلى أن يطلب مزيداً من الخبز وينال طلبه، لا تنكسر نفسه بقدر انكسار نفس من يطلب ولا ينال. ليس لأن هذا يبقى جائعاً، بل لأنه يصبح جائعاً معلناً، والجوع المعلن، لمن لا يملك طعامه، يصبح كالعورة. خير لنفسك أن تجوع بصمت من أن تكون جائعاً معلناً وعاجزاً.
بعد أيام من انتهاء التحقيق، وقع حدث مميز في تاريخ ممر الزنازين. دخل رئيس المفرزة إلى الممر وبدأ بفتح الزنازين واحدة واحدة، وهو يكرر "اطلع تنفس". هذا شيء يحدث لأول مرة. كانت العبارة غريبة على سمعنا. اكتشفنا أن التنفس هنا يعني أن تخرج من الزنزانة وأن يسمح لك أن تمشي في الممر الذي يفصل بين صفي الزنازين. أضاف إلى زهوة المفاجأة أن التنفس كان جماعياً وخالياً من العنف. في لحظات تحول ممر الزنازين إلى مهرجان. ضحك وعناق وشوق متبادل بين ساكني الزنازين، رغم أنهم يتبادلون الأحاديث كل يوم. كل ما يعيق لقاءك المباشر مع شخص عزيز، يمكن أن يكون سبباُ لتحريض الشوق. كان مشهداً سوريالياً، أن تجدنا نسأل بعضنا البعض "كيفك". هذه الكلمة التي نادرا ما تقف عند معناها المباشر، فهي إما ان تقصر عن هذا المعنى وتكون لفظاً أجوف، أو أن تفيض كثيراً عن معناها. في الحقيقة، كان ثمة دينمو خفي يزيد في مشاعر الصداقة والمحبة المتبادلة الموجودة سلفاً بين ساكني هذا الممر السفلي، إنه الشعور بالمصيبة المشتركة التي وحدت مصائرنا ووحدتنا.
كان هناك شخصان يراقبان بصمت هذا المهرجان، الأول هو رئيس المفرزة الذي وقف مكتوف اليدين في الباب الرئيسي لممر الزنازين، يراقب هذه الكائنات الفرحة وهي في وسط الجحيم. وبين حين وآخر يرفع صوته بالتنبيه إلى ضرورة خفض الصوت. والثاني هو جمعة، الشرطي الشاب الذي كان يقوم، طوال فترة التحقيق، بمهمة التنصت على أحاديثنا ونقلها إلى المحقق. ما هو الشعور الذي انتابهما في تلك اللحظات التي نبدو فيها بشراً عاديين لا سكان زنازين؟ من الطبيعي أن تميل الضحية إلى إظهار عاديتها البشرية أمام جلادها، تميل إلى إبراز انتماءها إلى ما يجمعها مع الجلاد من "بشرية" وكأنها بذلك تهرب من خانة استثنائية يحشرها فيها الجلاد كي "يحلل" قتلها. ويبدو أن هذا الميل يتعدى الضحية إلى محبيها. في زيارتها الوحيدة لي إلى سجن تدمر، بالغت أمي، حين رأت الفارق الجسدي الذي صنعته سنون السجن بيني وبين من يحيطون بي من شرطة السجن، والفارق الحقوقي الذي يحرص هؤلاء على إبرازه، بالغت في سرد أسماء من يرسلون لي السلام ويذكرونني بخير، كي تقول لهم، بغريزة المحب، إن هذا الذي بين أيديكم انسان وله الكثير من المحبين، لكي تخرجني من "استثنائية" الضحية.
هل خرجنا نحن من استثنائية الضحية في نظر هذين المراقبين؟ هل لامسهما، وهما يراقبان مهرجان "التنفس"، خجلٌ ما بسبب ما يفعلانه من أذى بحكم الوظيفة؟ هل اعتصر قلبهما ظل من الحسد بسبب افتقادهما لصداقة بهذه الحميمية التي يبديها هؤلاء الشباب فيما بينهم، وهذه المودة التي تزهر أمامهما في ممر الزنازين؟
ليس غريباً أن يكون البائسون أحياناً محط حسد، أي أن يمنحهم بؤسهم ذاته ما يمكن أن يُحسدون عليه، ولاسيما من قبل من يبغون حيازة كل شيء. ذات يوم، بعد سنوات طويلة من السجن، وأثناء تحقيق عارض في مشكلة حصلت في السجن، قال لي الضابط المسؤول عن قسم التحقيق: "أنتم على الأقل تأملون بالإفراج الذي سيأتي يوماً، وهذا الأمل يضيء حياتكم. أما نحن فحياتنا بليدة، من أين لنا مثل هذا الأمل". هكذا ستجد "حراً" يحسد السجين على أمله بأن يصبح حراً. في هذا نوع من التوازن الأساسي الذي لا يمكن كسره. كيف لمن هو خارج السجن أن يجمع بين تمتعه بحريته وبين حيازة أمل السجين بالحرية؟ ينطبق ذلك على الغني إزاء الفقير، وعلى المشهور إزاء المغمور. هناك دائماً ما يفلت من اليد. مع كل كسب، هناك خسارة غير ملحوظة. هنا يكمن توازن عميق وأصيل وعصي على الكسر، فيما يبدو أنه من أسرار الحياة الكبرى.
نعود إلى الزنازين كما كنا قبل أقل من نصف ساعة، لكننا نعود كأننا كنا في رحلة. طاقة جديدة تملأ نفوسنا. يبدأ النقاش وتبادل الرأي والتقييم عن معنى هذه الخطوة. هل هي مجرد مؤشر على انتهاء التحقيق بصورة نهائية؟ أم هي إجراء روتيني لمن يبقى هذه المدة في الزنازين؟ أم أنها مقدمة للإفراج؟ مهما يكن التحليل، فقد كان ذلك يوماً تاريخياً لا يدانيه في تاريخيته سوى اليوم الذي تلاه بعد أسبوعين.
اضطراب في حركة الصباح، أصوات غير مألوفة تصل إلى أسماعنا. كان آخر يوم لنا في الزنازين يرسم ملامحه المميزة. يخرجوننا جميعاً من الزنازين ليس إلى الممر، بل إلى بهو التحقيق هذه المرة. يشيعنا جمعة بعينين دامعتين. دماؤنا تلهث تحت وطأة السؤال الصامت الثقيل: إلى أين؟ الترقب القلق يشل أجنحة أمانينا كأنه سائل لزج. لم نتبادل الكلام فيما بيننا، حتى عيوننا كانت تهرب من التلاقي. كلنا نبحث فيما يقع تحت أعيننا أو يصل إلى أسماعنا، عن دليل أو مؤشر يفيد في الإجابة عن السؤال: إلى أين؟
الفارق الهائل بين الاحتمالين (الحرية أو السجن) يجعل السؤال حاداً مثل نصل السكين، يجعله، على خلاف الأسئلة، أداة لشل الدماغ عن التفكير وليس لتحريض الفكر. يدفعك الفارق الهائل بين الاحتمالين إلى تمني الاستنكاف عن التفكير، والانتظار في حالة نباتية إلى أن يجيب الواقع عما يعجز عنه العقل. أطرقتُ وأغمضتُ عيني كي أخفف من خوف دمي واضطرابه. بعد وقت لا أدري مقداره، وجدنا أنفسنا في السيارة المخصصة لنقل السجناء، متجهين إلى سجن قديم لا يزال يحتفظ باسمه العثماني "الكراكون". تختلف السلطات والعهود والدول وتبقى السجون قاسما مشتركاً لها جميعاً.
هكذا إذن، قررت جهة ما ، أو شخص ما، أن المكان المناسب لنا هو السجن، وأننا لا نستحق الحرية حتى لو كانت تحت عيون مراقبة لا عدد لها. وهكذا تبدأ رحلة سجن هؤلاء الشباب الذين كانوا بعدد حواريي المسيح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا