الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيولُ ربيع الشمال: 24

دلور ميقري

2023 / 6 / 11
الادب والفن


جوليا تقيمُ في شقةٍ من حجرتين، ثمة في هضبة " غرينبي "، ليسَ بعيداً كثيراً عن مسكنٍ عرفنا أن دارين سبقَ وعاشَ فيه لنحو عام. قبل ذلك، أمضت حياةً رتيبة مع والديها، الممتلكين فيلا تقع على طرف حي " غوتسوندا " من جهة الغابات، المُتصلة بمنطقة البحيرات. شقتها في بناءٍ من دورين، موجودة في ذلك الأعلى، وقد دُهش الضيفُ من أناقتها ونظافتها، بالنظر إلى أن المُفترض بصاحبتها ـ المُدمنة الكسولة ـ أن تكونَ حياتها اليومية على خلاف ذلك. كانت ما أنفكّت تبحثُ عن دراسةٍ جامعية مناسبة، وهيَ في سنّ التخرّج تقريباً. لكنها، شأن أمثالها من الشابات الضائعات، عملت في مهنٍ مختلفة ولفتراتٍ قصيرة. رائحة غريبة كانت تفوحُ من الشقة، هيَ مزيجٌ من عطرٍ رجاليّ مع البودرة: إنها، ولا غرو، رائحة تاجر المخدرات، المَهجور والمَنفيّ.
وصلا إلى الشقة في منتصف الليل، وعندما بانَ الضوءُ القرمزيّ في الأفق، كانا ما زالا يُمارسان الحب فوق ملاءات السرير النظيفة، التي تلطخت بعدئذٍ بلون الكريما والصرف الصحي. كونهما بلا عمل، وذلك اليوم أصلاً عطلة، بقيا نائمين حتى الظهر. لحُسن حظه، كانت جوليا قليلة الكلام عموماً؛ وهذا مفيدٌ لعلاقتهما من جهة، ومن جهة أخرى لجهوده الأدبية العاثرة حتى الآنَ. كانَ يأملُ أن تدعه يعيشُ معها في الشقة، بعيداً عن الجو الكابوسيّ للكُريدور. لذلك أوهمها في الليلة السابقة، أنّ شبحَ حسين ما فتأ يجولُ في ذلك المكان. في المقابل، أدركَ سلفاً طغيان هذه الفتاة على حياته وأنها قلبتها رأساً على عقب. لكن هل ستستمرُ علاقتهما مطوّلاً؟ هكذا سؤال، كانَ يُنحّيه جانباً كيلا يُسبب له الكآبة، وهوَ بعدُ " عريسٌ "؛ وهوَ المُنتظَرُ ثمة في منزل آخر، علناً كخطيبٍ للخالة وسرّاً كخطيب لإبنة أختها!
شهرُ يونيو، يُنبئ بطقسٍ رائع. المقاهي والمطاعم، بدأ كلّ منها بنصب الترّاس مع كثير من أصص الزهور وشجيرات البحر المتوسط. يتجوّلُ دارين وجوليا في مركز المدينة التجاريّ، يمران بلا هدف على محلات الألبسة، ثم يسيران بتمهل عبرَ كورنيش النهر بإتجاه المطعم اليوناني. كانَ المكانُ مكتظاً، تكاد أصوات روّاده تطغى على موسيقى كازانتزاكيس. أنتظرا لنحو نصف ساعة بصُحبة المناظر الخلّابة للشلال ومسيل الماء المنسرب من أسفل القنطرة، لحين أن خلت إحدى الطاولات، المنتظمة على ضفة النهر. طلبَ كلاهما طبقاً من شريحة سمك السلمون مع البطاطس والبروكلي والجزر، مغمّسة بالطرطور. ثم جاءت السلطة اليونانية أولاً مع قدَحيّ نبيذ ساموس. شربا نخبَ الحب الخالد، وكانا في غاية السعادة حتى تمنيا لو كانَ المطعمُ يسمح بالرقص كي يرقصا بانتشاء.
مرّ أسبوعٌ فردوسيّ آخر. وفي الأثناء، كانَ دارين يكبتُ في أعماقه شعورَ تأنيب الضمير. كانَ يُبرر قطيعته مع ميديا، بالتساؤل المُستهتر: ماذا سيحل بها بعد كل شيء؟ إنها ما زالت صغيرة على الزواج، وستمضي أيامها سعيدة مع أسرتها. من ناحية أخرى، قد تكون مرتاحة نفسياً لأن إمتناعه عن زيارة الأسرة قد أحبط خطة الإقتران بالخالة الصغيرة. ما لم يكن يدورُ في خلده، أن تقع عينها عليه فيما كانت جوليا تتأبط ذراعه: هذه الأخيرة، كانت قد أقترحت عليه زيارة فيلا والديها بغية التعريف به. أخذا ذات يومٍ مُشمس الحافلةَ الكبيرة إلى " غوتسوندا "، ونزلا بعدئذٍ في أقرب موقف. سارا عبرَ تجمعات الدور السكنية، ثم أنحدرا إلى الوهدة الأشبه بالوادي. ثمة تمشيا على طول الطريق الترابي، المحدقة به الأشجار الكثيفة من الجهة اليمنى، وكانَ يؤدي باستقامة إلى الفيلا المقصودة. وكانت الملاعب الخضراء الفسيحة، تقع إلى جهة اليسار، يُمارس فيها الفتية والأطفال لعبة كرة القدم. الحماسة كانت واضحة على اللاعبين، كما لو أنهم سيشاركون في بطولة العالم بإيطاليا بعد نحو شهر. من الطرف الآخر للطريق، ظهرت كوكبة من النساء، ليُميّز دارين على الأثر وجوهَ ميديا وشقيقتيها ووالدتهن. ليسَ في الوسع وصفُ ما أعتراه من خجل وحَرَج وخزي، لدرجة محاولة إخفاء وجهه بالكتف العالي لصديقته. مررن به وقد أنقطعن عن الثرثرة، ولم يتطلع إليه سوى ميديا: نظرتها المَليّة، كانت تُنبي عن مدى صدمتها وألمها وحزنها وغضبها وتعاستها.
" كأنما تلك النساء على معرفة بك، خصوصاً البنت الشقراء، التي حدجتك بنظرةٍ مؤسية؟ "، تساءلت جوليا وكانت ما تنفكّ تلتفتُ برأسها إلى الخلف. أجاب دارين باقتضاب، وبصوتٍ كامد: " إنها عائلة أحد معارفي ". بقيت تحّدق فيه لحظات، قبل أن تنفجر بالضحك: " تلوحُ موشكاً على البكاء "
" دعكِ من السخف "، رد بنزق. أستمرت بالضحك، هازة رأسها: " من غير المعقول أنك كنتَ تعشقُ طفلةً كتلك الشقراء، مع أنك تقريباً بعُمر أمها "
" ألم أقل، أنكِ أصبحتِ سخيفة "
" لا عليك، أنا أحببتُ ممازحتك حَسْب "، قالتها وهي تعتنقه بساعدها العاري. لما أضحت الفيلا في مجال الرؤيا، عادت تقول له: " أزلْ هذه التكشيرة كيلا يظنوا أننا تشاجرنا في خلال الطريق ". ولقد ظهرَ أولاً للعيان ربُ العائلة، وكانَ يعملُ تحت الشمس في الحديقة الأمامية وجسمه الأعلى عارٍ. كانت الفيلا ذات القرميد الفضيّ من دور واحد، مستطيل الشكل، وتحظى بقبو فسيح يضم أيضاً عدة حجرات وصالة للبلياردو. وكانت الحديقة تحيط بالمسكن من جهاته الأربع، مزروعة بالأشجار المثمرة والكثير من الأزهار والورود والعرائش. ثمة شجيرة موز، كانت قد أخرجت من البيت الزجاجي لكي تزيّن أحد الأحواض المُستديرة؛ وهيَ مجلوبة من إيطاليا بالسيارة، مثلما قالوا لدارين.
رحّبَ الأبُ بصديق ابنته مع ابتسامة ساخرة على طرف فمه، وقدّم نفسه: " إسمي باولو، وأنا بالطبع والدُ هذه المجنونة! ". لاحظ دارين، أن هذا الرجل الأربعيني الأسمر، شبيهٌ للبطل المفضل للمخرج بازوليني؛ وهوَ أيضاً " كالو " في الجزأين الأول والثالث من ملحمة هوليوود السينمائية، " العرّاب ". وقد قال له ذلك، لما أجتمعوا كلهم في الترّاس. ضحكَ السيّد باولو عندئذٍ، وعلّق بالقول: " ألهذه الدرجة تجدني قبيحاً؟ ". الأم، وقدّمت نفسها باسم " أولريكا "، كانت أيضاً أربعينية. إنها ما تني محتفظة بجمالٍ باهر، كانَ قد نضجَ مع فاكهة الصيف. حقّ عليها أن تُدهش حينَ علمت أن صديقَ أبنتها رسامٌ وشاعر، ولا ريب أنها قارنته بذهنها حالاً مع تاجر المخدرات. فبدأت تناقشه في أمور الأدب، وكانت معلوماتها غزيرة في هذا الشأن؛ كالكثير من مواطنيها. أما زوجها، فإنه تكلم كثيراً عن بطولة العالم المقبلة لكرة القدم، وأعلنَ ضاحكاً أنه سيُشجع إيطاليا لو لعبت مع السويد. لاحَ أنه سبقَ وشربَ العديد من أقداح الخمرة حتى قبلَ تقديم الغداء، ما دلّ على أنه مدمنٌ. ولعل حصوله على تقاعد مُبكر، كانَ من واردات هذه الخصلة. امرأة هذا البستاني الطريف، وكانت تتعاملُ معه بحب ولطف، طلبت منه أكثر من مرة أثناء تناولهم الطعام التوقف عن الشرب. هيَ أكتفت بشرب الماء، وكانت غير مُدخّنة.
على العموم، خرجَ دارين من هذه الزيارة، بإنطباعٍ عن عائلة سعيدة نوعاً ما، لا يُنغّصها إلا إدمان الأب وابنته. أما من ناحيته، فإنّ ما نغّصَ عليه الوقت السعيد في كنفهم، هوَ النظرة المُفعمة بالأسى، التي رمقته فيها ميديا. توقّعَ أنها زارت الكُريدور لمراتٍ في خلال الأسبوع المنصرم، وأنها ظلّت حائرةً في تفسير غيابه. ربما شكّت أنه يتهرّب من لقائها، لكي لا تلحّ عليه مجدداً في موضوع زيارة منزلهم بهدف خطبتها من الوالد. ثم قطعت الشكّ باليقين، هذا اليوم، لما شاهدته مع فتاة أخرى؛ وكان واضحاً أنه إتخذها صديقة جديدة. تكهّنَ دارين، من ناحية أخرى، بمدى حنق والدة ميديا بشأن فشل المشروع المعلوم. وأيضاً، لم يُساوره الريبُ بما يمكن أن يكون عليه ردةُ فعل شقيقتيّ ميديا، اللتين سيؤكدان لها رأيهما السابق بأنه شخصٌ غير جدير بها إلا على سبيل المتعة العابرة.
" سأمرّ على الكُريدور كي أجلبَ بعض الأشياء وأتفقد بريدي "، قال لجوليا في طريق العودة. وكانا قد عادا إلى المدينة في الحافلة الكبيرة، بالرغم من أنّ كلّ من والديها لديه سيارة. في حقيقة الحال، أنه ودّ التيقّن مما لو تركت ميديا رسالة له. لكنه فوجئ بردّ صديقته، التي قالت ببساطة: " سنلتقي في فلوستريت، مساءً. وإذا كنت اليومَ مشغولاً بأمر آخر، هاتفني غداً ". كانَ شعورها بالسأم جلياً، ولعلها ستقابل ثمة في الملهى من يُموّنها بالبودرة. طلبَ منها دارين عندئذٍ نسخة عن مفتاح الشقّة، فقالت أنها لا تحمل الآنَ سوى النسخة الأصل. هكذا وصل إلى الكُريدور ممتلئاً بالغم والإحباط، وما عتمَ أن تضاعفَ هذا الشعور لما فتحَ صندوق بريده ووجد رسالة مقتضبة من ميديا، باللغة السويدية: " جئتكَ عدة مرات، عبثاً. لِمَ تتهرّب من مقابلتي؟ ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #كريم_عبدالعزيز فظيع في التمثيل.. #دينا_الشربيني: نفسي أمثل


.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع




.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو


.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع




.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا