الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دع يوما آخر يأتي ( قصة قصيرة )

لمياء الآلوسي

2023 / 6 / 11
الادب والفن


دع يوما آخر يأتي ..

اعتاد سكان الحي كل صباح على الصياح والسباب وخبط الأبواب في بيت السيد رجب قبل أن يخرج مربدا مزبدا يغذو الخطى باتجاه بناية المدرسة الابتدائية التي لا تبعد سوى أمتار قليلة عن بيته، فهو منذ أن منحه الحزب شرف ادرة المدرسة وهو يحمل مفاتيح أبوابها ويتحمل مسؤولية كل شيء فيها ولا يخرج منها إلا بعد غروب الشمس، هذا ديدنه اليومي الذي اعتاد عليه، لكنه بعد التغيير الكبير في الشارع والحي والمدينة والبلد كله، ازدادت حدة الصياح في بيته عنفا وغدت لا تحدها حدود الوقت، ولم يعد يخرج من بيته إلا قليلا، وإذا خرج فإنه يذرع شوارع المدينة القديمة التي تعرف طفولته وبيت العائلة القديم جيئة وذهابا متحاشيا المرور من أمام باب المدرسة .
رغم مرور الكثير من الوقت إلا إنه لم يستمرئ فكرة أن لا يتمكن من المرور من أمام مدرسته التي لا تبعد كثيرا عن بيته، بل ولا يتمكن من دخولها، ( لقد أجبر ) يجب أن يعترف بذلك لقد ( أجتث ) هكذا ابلغوه اجتث وكأنه عشبة ضارة ستلوث ما حولها وأجبر على ترك المدرسة وهو الذي يعرف كل شاردة وواردة فيها، والتي كان يؤمن إلى وقت قريب إنها ملك صرف له بكامل طلابها وكادرها التعليمي، لم يتخيل يوما أن يتم الاستغناء عنه بهذه السهولة، يا للقسوة، وهم يعرفون جيدا مدى استقامته وحرصه، المعلمون زملائه ولا يقول أصدقائه، ينعتونه بالمعلم القاس والمتجبر وقسوته في بعض الأحيان أكثر مما تتطلبه المهنة، متسقطا عثرات المعلمين، وأخطاء الطلاب متفننا في معاقبتهم لو تسنى له ذلك، في داخل المدرسة، أو بطرق اخرى أباحها له الحزب .
حسنا القسوة هي الحجر الأساس لبناء الرجال، هكذا كان يدافع عن الخيزرانة التي لا تفارق يده في داخل الصف الدراسي، وخارجه، كان يسمعهم يقولونها همسا، لكنهم الآن وبعد أن أعفي من كل شيء يقولونها جهرا وكأنهم يبصقونها في وجهه .
سابقا عندما تتناوشه سورة الغضب في بيته كانت زوجته وكعادتها تتحاشاه مؤثرة الصمت تاركة لعصبيته، وصراخه النفاذ إلى آخر الزقاق ولا يعنيها في ذلك الجو الخانق، والضجيج سوى أطفالها الثلاثة الذين يتملكهم الفزع، والخوف، وليس أمامها سوى أن تضمهم إلى صدرها مشفقة عليهم من قسوته التي غالبا ما تتضخم فيوسع اجسادهم الصغيرة ضربا بدون مبرر، وهذا ما يجعلها تتلقف بجسدها المنهك معظم الضربات، سنوات طويلة وهي تحاول معرفة دخيلة زوجها وسبب قسوته وغضبه الذي لا ينتهي ولم تفلح .
أما الآن وقد أضحى وحيدا معها، وصار غضبه لا يحده سوى الحزن، وهي ترى حالة الانكسار على قسماته القاسية بدأت تتعاطف معه قليلا وتكيل له مزيدا من الأعذار.
قبل أن يخرج هذا اليوم وضعت على كتفيه معطفه المطري، وعلقت على ذراعه مظلته القديمة وقد تهرأت جوانبها لكنها تحتفظ بها دائما نظيفة من أجله بهدوئها الذي يثير غضبه، ونقمته على من وضع هذه المرأة في طريقه، تغلق الباب وراءه بهدوء عندها تتهاوى قامتها وكأن خروجه من الدار أزال عن كاهلها حملا ثقيلا، فسابقا كانت تتأسى ببناتها وهن يحطنها بالعناق وبعض العتب واللوم لأنها تدلل والدهم كثيرا، ويطالبنها بالتحلي ببعض القوة كي تتمكن من التصدي لقسوته، فتجهش عند ذلك بالبكاء كي تبعد عنها الاتهام وعنه أيضا فهو زوجها رغم كل شيء، بناتها اللائي تزوجن وتركنها وحيدة تتجرع عصبية زوجها ولعناته لا تنتهي، تعلم إنهن أكثر صلابة منها الآن ربما بسبب ما قاسينه من ضعفها أمام أبيهن، ولأنهن تمكن من أتمام تعليمهن وهذه حسنة تحسب له.

تردد طويلا قبل الوقوف تحت المظلة الخشبية لمقهى الجسر القديم هذا المقهى الذي يأن تحت صفعات الزمن والذي لم يراوده التفكير يوما في دخوله، أو الوقوف أمام بابه، لكن زخات المطر هي التي اضطرته لذلك، كان المطر طلا خفيفا قبل قليل، تحول بمرور الوقت إلى وابل مدرار، وإن استمر في هطوله هكذا لن يتمكن من إكمال جولته اليومية والتي تستغرقه طوال فترة ما بعد الظهر، والمغرب، ، وقف متحفزا لمعاودة التجوال في أية لحظة، لكنه وجد شقوق المظلة الطولية تسرب المطر، وتسلطه عليه، ولم يكفها عدم حجب رشقات الرذاذ الذي أغرق بنطاله، شعر إنه سيصاب بنزلة صدرية إن لم يحمِ صدره من هذا البرد والبلل، لذلك لم يطل تردده وقرر دخول المقهى، ولكن قبل ذلك صالب بين كتفيه، وتلمس أزرار معطفه المطري، واحكم إغلاقها، هي التي أصرت على أن يرتديه قبل خروجه هذا اليوم رغم صفاء السماء عندما غادر البيت، أصرت وهي تزرر معطفه المطري الذي بهت لونه مقارنة بلون طياته وتجاعيده وقد تجاوز زمانه الافتراضي في البقاء، فالاعتناء بهندامه ما عاد يعنيه كثيرا منذ ..... ، هو لا يحب ذكر - حتى بينه وبين نفسه - تلك الكلمة الملعونة التي صُفع بها، ( لا تكن متلهفا لمحاولة تغيير مجرى الأحداث كي لا تهان، فهناك اختلاف كبير بين التوقع والواقع، كن حذرا لا تنخرط كثيرا فلم يبق من العمر بقية، اغتنم فرصتك ولا تلتفت إلى الوراء فلست ملزما بتحقيق كل التوقعات، ولك الحق بالإيمان باختياراتك حتى ولو كانت خاطئة، أو باءت بالفشل )
ولكنها تصر على تذكيره بها قائلة لن يراك أحد، وهو لا يعرف ماذا تعني بالأحد وكأن الشوارع التي يقطعها خالية من البشر، أو إن البشر كما يدور في خلدها لا يتواجدون إلا في المدرسة، هي هكذا امرأة لا تفكر كثيرا، بل اعتادت على ألا تفكر بالمطلق، فالراديو الذي يحتل مكانه القديم منذ سنوات لا يتغير بجانب خزان المؤن الخشبي في المطبخ ولا يعني لها شيئا سوى إنه ينبؤها بحالة الطقس، أما غير ذلك فلا شيء مهم، والنشرة الجوية اليوم تتنبأ بأمطار كثيفة ستهطل خلال ساعات النهار، وهذا الخبر الوحيد القادر على اشاعة الفرح فيها فيتهلل وجهها بالبهجة وكأنها ربحت ملايين الدنانير .
فيتمتم سرا : وكأن حقولنا من الزراعة الديمية ستتضرر كثيرا، ولن نجني الكمية المتفق عليها مع التجار من الحنطة والشعير،
غالبا ما كان يقولها بصوت عال، لكنه هذه المرة تمتم بها سرا كي لا تثيرها السخرية الواضحة في كلامه والتهكم، وهو لا يطيق نزقها، ورغبتها بالشكوى التي تنتهي دائما بنوبة من البكاء الذي تزداد حدته كلما تقدم بهما العمر، وقد ضاق ذرعا من تماديها في ذلك، فبعد خمسين سنة ونيف صار يعرف مما تشكو وكيف تفكر كما يعرف لون ثوبها الذي كانت ترتديه في اليوم الاول لزفافهما، ليست غلطتها بل هو السبب لأنه لم يتمكن من الرفض، وإلا فكيف له تحمل العيش مع امرأة تشعره طوال الوقت بالوحدة والحزن، فمنذ اليوم الأول رفض الاقتران بها لكنه خضع بعد ذلك بكل بساطة أمام إصرار الأهل، وكأن الزواج عقد اجتماعي مقدس لإرضاء الأهل والأقارب ولتذهب رغباتك إلى الجحيم، هي بلهاء وحمقاء حقا لكنها ابنة خاله على أي حال، وكلنا يقلد ما نقش في دماغه منذ الصغر نرجسية الاختلافات الصغيرة تقود إلى الانصياع الأكثر مللا.
ليتني استطعت الرفض، ليتني لكنت جنبتها ونفسي الكثير من هذا التفاوت المبطن في فهم كل شيء .
نفض عن ملابسه البلل، ثم اسبل ذراعيه، مكورا قبضتيه وكأنه يستجمع شجاعته، ثم وقف بعض الوقت أمام باب المقهى وهو يعب الهواء الثقيل عبا أجهده، فهو لا يني يصارع رغباته المتشابكة بين دخول المقهى، أو مواصلة التجوال، لكنه مضى إلى الداخل عندها لفحته رائحة العطن الممزوج بدخان الأراكيل بنكهاتها الغريبة، وأنفاس الرجال، ببطونهم المتخمة المندلقة تحت ملابس الشتاء الثقيلة، إضافة إلى نظرات زملائه من المعلمين والموظفين، والبعض الآخر الذين لا يتذكر وجوههم جيدا، لكنهم - وبما لا يقبل الشك - كانوا طلابه في زمن ما، ألقى تحية باردة ، سمع الرد من البعض وانشغل البعض الآخر بما كانوا فيه، انتحى مقعدا بعيدا بعض الشيء عن الجميع، ثم خلع معطفه المبتل ووضعه إلى جانبه على الأريكة الخشبية قبل أن يجلس، غير آبه بنظرات رواد المقهى المتسائلة، وهمسات بعضهم التي لم يسمعها، لكنه عرف مضمونها جيدا، فتمتم بحزن ( ليت الزمان يعود يوما لألقنكم جميعا درسا لن تنسوه )
شعر ببعض الارتياح إذ لم يعد أي من الجالسين يعيره اهتماما، وهو ما عاد مهتما بهم جميعا على أي حال، عندها تهدلت كتفاه، وزال عنه القلق، والتوتر، لحق به صبي المقهى مبتسما، ومسح الطاولة الخشبية المستديرة الصغيرة أمامه بخرقة مبتلة، فبانت نظيفة بعض الشيء، من الطبيعي الآن أن يطلب قدحا من الشاي، لكنه جاء فقط للهرب من المطر بعض الوقت ثم ينتهي كل شيء، لكن الصبي بقى واقفا، فاضطر لطلب قدح الشاي،
اختلس النظر بقلق، شاملا المكان الضاج حوله بنظرات عجلى، حيث تكاثفت أنفاس الرواد مشكلة ضبابا ثقيلا، كسى زجاج النوافذ الضيقة الثلاثة، حاجبا الضوء الخافت القادم من الشارع، لاحظ تهالك الزمن على جدران المقهى، إذ كشط كلسها في أكثر من موضع، مبّرزا الطابوق القديم الذي يعود إلى بداية الستينات، لو تسأل كيف لهذا البناء القديم البقاء كل هذا الزمن، ستجد إن البناء بمادة الطابوق أصلب وأبقى كثيرا من البناء بالبلوك الإسمنتي، فبناية المقهى بطابق واحد وتكاد تميل على جانبها الأيسر قليلا باتجاه النهر بفعل انحناءة الشارع، وهذا ما جعلها تبدو كفتاة بلا مقومات للجمال والأناقة وسط مجموعة من الحسان، هكذا يشبهها في كل مرة يمر بها، وبين الفينة والأخرى يجد بناية جديدة شاهقة، تكتم أنفاس المقهى، وتبرز تشوهها وفقرها، ولكنها كأي شيء من الماضي يستقطب الكثير من المتعطشين للقديم، وعلى الغالب من أهل المدينة الذين مازالوا يرون في بيوت الطين تحفة هندسية تحجب الحرارة في الصيف، وتحتفظ بالحرارة في الشتاء، أو هكذا يدعون ولكنه لا يصدق هذه الحكاية رغم إنه سمعها من الكثيرين الذين توقف عندهم الزمن في حقبة واحدة لا تتغير،
عاش عمره كله في هذه المدينة، ودخل هذا الحي بالذات كثيرا ، ولكنه لم يفكر يوما في ارتياد هذا المقهى، أو غيره، ليس إلا تلك المرة المنفردة، عندما أقنعه زملاءه في المدرسة الثانوية على دخول هذه المقهى بالذات، وهل هناك وسيلة أخرى لإثبات الرجولة غيرها في هذه المدينة الصغيرة، هي المرة الوحيدة التي دخل بها المقهى وكان يعرف إن أبيه لا يرتادها فهو كتاجر كما يحب أن يصف بها نفسه، وهو لا يعدو أن يكون بائعا جوالا يتنقل بين القرى على قدميه إلا إذا صادفه أحد من عملائه فيركب معه على مطيته أيا كانت، وكان نادرا ما يحدث ذلك، وعندما يعود مساءً منهوك القوى متربا يأن من ألم قدميه، وظهره المثقل بالأحمال،
كان واثقا من ذهابه اليوم بالذات إلى القرى القريبة، لقد ساعده بحمل بضاعته وأوصله إلى العبارة الخشبية التي تقله عادة إلى الضفة الأخرى للنهر، وقد لا يأتي هذا اليوم، فلقد اشترى بالآجل كمية لا بأس بها من الأدوات الزراعة، والمبيدات الحشرية، إضافة إلى ما تحتاج إليه النساء من أدوات الزينة بخسة الثمن، والصابون، وبعض العطور الرخيصة، وقطع قماش زاهية تثير القرويات
ولكنه تسمر بين الأرائك الخشبية وثمة عينان يتطاير شررها تحدق به وشفتان مفتوحتان يعرف انهما لا تنفتحان هكذا إلا لتكون بداية لعاصفة ستقتلعه من الأرض لو استطاعت وهكذا اكتملت مأساته، إذ لا يتم الاحتفاء بالرجولة المزعومة إلا بحضور الأب الذي أوصله بنفسه إلى العبارة, وقبل أن يفكر بالهرب سمع الصوت المرعد من الزاوية البعيدة والذي أكد نهاية مغامرته القصيرة أكثر مما توقع، ناداه مزمجرا:
- توقف يا ابن الكلب .
وهنا اقتلعته العاصفة رغم محاولته التشبث بالأرض ولكن كيف له ذلك الحاج محمود الذي لم ير الحج يوما لا يتورع عن معاقبته أمام الجميع، ولا يتم الردع بالشتائم والضرب إلا في داخل المقهى وعلى مرأى من الجميع أما اصدقائه فلقد تطايروا هربا وتركوه يتلقى الصفعات والركلات وحده .
اكتنفته مشاعر لطالما أبقاها مخبأة في أعماقه، وعليه أن يتجاهل سقطات حياته وهفوات من يشكلون عائلته لأنه لا يجن من ذلك كله سوى الضيق، ولا بأس من تجاوز كل تلك الذكريات البغيضة، وعليه فقط تقبل الواقع وما آل عليه حاله كما هو، لكن هذه المقهى بجوه المقبض جعله يستعيد تلك الذكريات البغيضة، فهمهم ( يا لها من حياة مضيعة وسخيفة تلك التي قضيتها في هذه الدنيا، بين تسلط الوالد، والأخرين عندما يتعامل أولي الأمر بقذارة معنا، غالبا ما تشرنق ذواتنا، ويتمكنوا من تلويث ارواحنا ولا نتمكن من الخلاص منها، فنصبح عند ذلك أكثر قذارة مما نتوقع، ونحمل آثامهم فنصبح الذبيحة الأكثر براءة من المسيح نفسه .
ابتسم بمرارة لذكرى أبيه الذي لا يظهر طيبته إلا عندما يكون مع اصدقائه، أو زبائنه، ولكنه عندما يعود إلى البيت منهكا وقد أتعبته المجاملات، والابتسامات الجوفاء طوال نهاره المنهك، يتجهم وجهه، ويمتعض من كل شيء في البيت ، عندها يصب جام غضبه على الجميع .
جفل للضوضاء التي أحدثها مجموعة من طلاب المدرسة القريبة بملابسهم المهندمة وحقائبهم المدرسية دخلوا بفوضى عارمة، للبحث عن ملجيء يقيهم البلل، كما هو الحال معه، في ذات اللحظة التي دخل بها رجل يبدو في منتهى الكياسة، فما كان من الصبيان رغم انزعاج البعض منهم، إلا أن تنحوا جانبا مفسحين له المجال للدخول باحترام واضح أغاض رجب كثيرا، فعلى مدى الأيام الماضية، كان يرى هذا الرجل بالذات في معظم الأماكن التي يرتادها، في السوق وفي مواكب ومجالس العزاء، تميزه تلك الندبة الطولية التي تشق نصف وجهه الأيمن، مرورا بعينه وربما اقتلعتها لأنه لم يكن يقوى على إطالة النظر في وجهه، عندما يحييه بصوت هادئ رزين، في كثير من الأحيان يتخيل إن هذا الرجل يتصيده أينما ذهب، غالبا ما يصيبه الكثير من الغم عندما يلتقي بمن أعاقتهم أي من الحروب التي مر بها هذا البلد لذلك يحاول تجنبهم بأي شكل من الأشكال، ولكنه لا يتمكن من تجنب هذا الرجل إذ يلتقي به كثيرا، شعر بقشعريرة تسري في جسده، وتستقر في قلبه، فقد يكون أحد اولئك الذين زجهم في أتون الحرب ومازالت ذكراهم تلح عليه وتقظ مضجعه، لذلك أراد المغادرة على وجه السرعة، لكنه تسمر في مكانه مذهولا يزدرد ريقه بصعوبة بالغة وهو يرى الرجل يتجه إلى ذات المكان الذي يجلس فيه، تململ قليلا محاولا المغادرة، لكن الرجل كعادته دائما حياه بصوت هادئ بطيء كأنه يأتي من قعر بئر، ففي كل مرة يتجنبه كان الرجل مشطور الوجه هو الذي يبادره بالسلام،
جلس الرجل قبالته وكأنه ينصب له فخا، أو هكذا شعر، ثم رفع يده اليمنى، بيده اليسرى ووضعها على المنضدة محدثة قرقعة صماء، رشحت أصابعها بلونها الغريب بضعة قطرات من الماء أمام الأستاذ رجب الذي روع قليلا محاولا تفادي الدهشة التي تملكته فلقد اثارت اليد البلاستيكية بلونها الشاحب نفوره، مما جعله يتراجع في مقعده إلى الخلف، مرتبكا، خائفا إذ تسربت برودة مؤلمة إلى بدنه، أخرج الرجل المشطور بيده اليسرى من جيب جاكته علبة السجائر والقداحة، أشعل سيجارته بتأن غير مبالي بحالة الاستغراب ومشاعر الإشفاق والألم التي لاحت على وجه الاستاذ الذي حاول مغالبتها، فلم يكن يشفق في تلك اللحظة على الرجل بقدر إشفاقه على ذاته المتشظية حد الوجع، رغم إنه لم يبد أية إمارة تشي بامتعاضه من تصرف الرجل الذي أبدى بوضوح استفزازا لا مبرر له، بصوت مسموع ارتشف الشاي الساخن وقد لحق به صبي المقهى قبل أن يطلبه، أذ يبدو إنه من رواد المقهى الدائمين، استرق النظر إليه مستغلا استغراقه في ارتشاف الشاي الساخن، كان الرجل رغم إعاقته الواضحة أنيقا، نظيفا، بوجه حليق تماما، وشعره الرمادي قصير ومقصوص بعناية،
نقل نظره بين اليد المستقرة على المنضدة ونصف الوجه السليم متحاشيا النظر إلى النصف الآخر المشطور، الذي تتلاشى تفاصيله فلم يبق منه سوى غشاء هلامي يكاد لا يخفي تجويف الفم من الأسفل، .
رمشت عين الرجل السليمة بحركة مضطربة، ثم أحنى ظهره على المائدة ليكون رأسه قريبا من وجه الأستاذ الذي تراجع إلى الوراء جافلا رغما عنه :
- حدث ذلك في الأيام الأخيرة لغزو الكويت عندما تراجع الجيش منهزما، كنا نهرب من الموت، نركض عرايا إلا من الرغبة في الحياة والنجاة من جحيم القنابل التي تستهدف هلعنا بلا رحمة، لم أكن جنديا، لم أكن سوى رقم زج به عنوة يحاول الهرب كحيوان مذعور، ضائع لا يعرف الطريق، ورغم ذلك يبحث عن طريق للنجاة، لا يستسلم للموت رغم جحيم القنابل التي تلقيها الطائرات والكل يحوك الموت حوله، وكذلك حال الجميع، هل تعرف كيف يكون الجحيم ؟ لا تعرف بالتأكيد سوى ما كتب في الكتب السماوية، لكن في تلك اللحظات يكون الجحيم قد فصّل من أجلك وحدك لتكون في قمة الأنانية فتسمع من يستنجد بشهامتك وتتجاهله، لقد علقوا بين الطين والدمار وجراحهم لا تسعفهم في مواصلة الهرب فتسمع الإستغاثات ولا تريد أن تنجو إلا بنفسك، الأشلاء البشرية الممزقة في كل مكان حولك وأنت تقفز فوقها، وتتعثر بها، ثم تغوص قدميك حتى الركبة ببقايا أجساد لا تعرف هل ما زال فيها رمق للحياة أم هي بقايا أجساد بشرية لا غير ؟ الظلام يحكم قبضته حولك فما تعود تتبين الأشياء، الانفجارات الآثمة والمنتقاة بحقد لا مبرر له وحده ينير لك الطريق رغم إنه يغرقك بطين لزب ثقيل، وانت تدرك تماما في تلك اللحظة المتفردة في قسوتها إنك تغرق بهريس من اللحم والعظام والدم، ولكن ولكي يستمر تشبثك بالبقاء عليك أن تنسى الأسئلة، فلا جواب يشفي حالة الانحدار، والسقوط الإنساني الذي يلاحقك، لتصبح كومة من بقايا إنسان يحاول اللحاق بالحياة كيفما كانت، لم يكن احد يسأل من كان حيا ومن مات لأنهم اعلنوا عن موتنا مسبقا بلد بكامله يجب ان يموت ، ما الذي يعنيه الفرد ؟ احمل حطامك على كتفيك إذا وأمضي لا احد سيلتفت اليك .
تنفس الرجلان بصعوبة بالغة وكأنهما يتلقفان آخر شهقة هواء يتنفسانها وينتهي كل شيء :
- أنا واثق الآن إن الله لم يصور الجحيم كما ينبغي، وهو يرى قدرة الأنسان وإعجازه في إبداع الجحيم الحقيقي على الأرض، والتفنن بإلحاق العذاب بالآخر الذي لا يعرفه .
مد الأستاذ رجب ساقيه تحت الطاولة رغبة منه في التخلص قليلا من خفقات قلبه المتزايدة عندما ادرك إن هذا الرجل جاء ليقاضيه هو بالذات، ولذلك مازال قادرا على جلده بقسوة :
- قد نتخطى آثار الحروب في بعض الأحيان لكن كيف وهي تكتنفنا من كل جانب والماضي موشوم فينا وعلى أجسادنا ويبقى شاخصا فينا ولا يمكن نسيانه، لكن قد نتخطاه في بعض الأحيان، غرور الإنسان يجعله يرتكب الأخطاء دون أي واعز من ضمير او رادع وهو لا يدرك إنه من الممكن أن يُحاسب مهما طال الزمن، ففي المكان الذي سمي تجاوزا مستشفى وأنا تحت الأربطة أستنجد بالموت كي ينقذني، رغم إن الموت ككل شيء في الحياة يصير عصيا إذا لاحقته محاولا استقدامه، صار بعيد المنال، وحولك الجثث في كل مكان وأصوات الاستغاثة تحاصرني تماما كما في ذلك الطريق إذ تسمع طلب النجدة ولا تلتفت، المهم أنت وما بعدك الطوفان، هناك أعلن عن وفاتي فالموت قد لا يكون في كثير من الأحيان موت الجسد ، فموت القلب والروح أشد قسوة من موت الجسد وأكاد اجزم إنه حال كل من عاد من الحرب في كل وقت وحين، وهكذا صرت نصف رجل كما تراني الآن، وقد عافني الزمن.
قالها وهو ينظر في عيني الأستاذ رجب بعينه السليمة مباشرة، ويميل برأسه قليلا باتجاه اليمين، ثم واصل، وهو يبقي على سيجارته موقدة بين أصابع يده اليسرى التي تحمل قدح الشاي الفارغ أيضا:
- استاذ رجب .. هل تشعر بالاطمئنان منذ ذلك الحين ؟
- ولما لا ؟ ما هذا السؤال ؟ قالها وهو يحاول لملمة شتاته .
- إسمي حسين عبد الله الصالحي ألا يثير هذا الاسم أي ذكرى لديك ؟
- لماذا ؟ هل سبق لي أن عرفتك ؟ هل أعرفك قبل الآن ؟
- ولا كوني احد تلاميذك الصغار ذات يوم ؟!
تململ قليلا مرتبكا ثم رفع قدح الشاي الذي لم يمسه من قبل، وليس في نيته فعل ذلك الآن وقد غدا الشاي باردا كأعصاب هذا الرجل المعاق الذي يحاول جلده كل دقيقة، وضعه في مكانه من جديد قبل أن يجيب وقد علا وجهه النحيف صفرة زادت من شحوبه، ونظرات عينيه لا تستقران على شيء:
- ربما .. فالطالب يتذكر معلمه ولكن ليس بالضرورة أن يتذكره المعلم .
قهقه الرجل ساخرا :
- حقا ! كل شيء يمضي ولا يتوقف، والزمن يؤرجحنا عابثا بنا غير آبه بشيء، فأنا لا يمكنني مغادرة الموت البطيء الذي أعيشه كل يوم، ولكن أنت كيف تتذكر ما حدث وقد مر على ذلك أكثر من خمسة عشرة سنة ؟
لم تصل كلماته إلى الأستاذ رجب واضحة، بل مقطعة، مفككة، لم يفهمها جيدا، كأن هناك حالة مصمتة بينهما كلاهما يريد اجتيازها لكن عائقا ما يحول بين الاثنين .
لست المقصود بقهقهة هذا الرجل الساخرة قالها لنفسه المتأرجحة بين الشك واليقين، تلك القهقهات ذاتها التي سمعها منذ خمسين سنة وكأنها لم تبل ولم تمر عليها كل هذه السنين، هي ذاتها التي ضجت بها قاعة المقابلة عندما دخل إلى اللجنة الخاصة بقبول الطلبة المتقدمين للدراسة في دار المعلمين في بغداد متلجلجا خائفا بملابسه البالية وقامته النحيلة، أجفل عندما سمع أحد أعضاء اللجنة يسأله بصوت جاد أرعبه :
- لماذا تريد أن تكون معلما ؟
كان السؤال متوقعا ولذلك كان مستعدا له فرفع رأسه عاليا وقال بصوت حاد لا يتناسب وقامته الضئيلة :
- أريد أن أكون معلما كي أخدم وطني، وأنشر العلم بين عامة الناس .
عندها ضجت القاعة بقهقهات اعضاء اللجنة الثلاثة، قهقهات جعلته يفغر فاهه تعجبا ويغادر القاعة مهرولا، ولكن ما الذي يجعله مسمرا أمام هذا الرجل .
أفاق على صوت الرجل الذي أحنى جذعه أكثر مما يجب إلى الأمام، وعينه السليمة ترمق الأستاذ رجب الذي يبحث عن مخرج للخلاص من هذا المأزق الذي وضع فيه :
- هل عرفتني الآن ؟ أم إن هذا الاسم لا يشكل في ذاكرتك شيئا ؟
- قد تكون أحد طلابي .. ربما .. ولكن الزمن يغير الكثير من السمات فيتعذر علي عندها معرفتهم جميعا .
- حقا ؟ إذا سأروي لك قصة لطيفة قد تعيد اليك بعض الذكريات .
تحفز الاستاذ رجب للمغادرة :
- لا املك المزيد من الوقت لسماع قصصك التي لا تعني لي شيئا .
- بل تعني لك الكثير وتعني لي كل شيء، أسمعها لتنشط ذاكرتك .
وضع الرجل قدح الشاي الفارغ على المنضدة أمامه، وأبقى على السيجارة بدخانها الذي ضايق الأستاذ رجب كثيرا إضافة إلى القلق الذي تضخم حتى كاد يسد منافذ الهواء حوله، هناك أشياء كثيرة لا يتسنى له تذكرها جيدا، فذاكرته المزحومة بعشرات الأشياء المقلقة لا تسعفه في كثير من الأحيان، وكأن جدارا ضبابيا يحجبها، هذا العالم الغريب يحيطه من كل جانب لكنه غير ملزم بالتفكير به، أو الولوج فيه، معتبرا مرور حوادث الماضي مجرد صدف رغم إنه لا يؤمن كثيرا بالصدف فهناك تدبير محكم لكل شيء، سواء من الله، أو القدر ، أو الحزب الذي آمن به منذ ....
سمع الرجل ذي الوجه المشطور يقول بصوت هادئ النبرات :

- كنت أستغل أيام العطل أنا وبعض الأصدقاء ممن يشاطروني حالة العوز والفقر التي نعيشها للحصول على عمل يسد بعض نفقات دراستنا في الجامعة، فكنت أقف في المكان الذي يسمى ( مصدر العمال ) ننتظر أية فرصة للعمل، وكان ذلك في فجر شتوي ماطر قاسي البرودة، بعد مرور الوقت وقد تملكنا اليأس، وقفت حافلة صغيرة وكالعادة هرع الجميع إليها، لكني لمحت معلم مدرستنا الابتدائية يترجل منها، وكنت أخشاه كثيرا بسبب الخيزرانة التي كان يحملها دائما لذلك أدرت له ظهري، لكنه اختارني واصدقائي لنكمل الرقم في القائمة التي كان يحملها، وكان ذلك قبل أيام قليلة من شن الحرب على العراق وكأن لعنة الله على العراق لا تكتمل إلا لو تدخل ذلك المعلم وزج بأولئك الشباب الذين كانوا يوما تلاميذه في ذلك الجحيم .
ارتشف الشاي وعينه الوحيدة تتصيد انفعالات السيد رجب الذي تهيأ للمغادرة وكل خلجة في وجهه تنتفض هلعا :
- أنا اسألك فقط، ما الذي يحملك على الاعتقاد بأن قصتك هذه تستحق مني الإصغاء ؟ لا شيء فيها يمسني وما عانيته عاناه كل العراقيين لست الوحيد والمتفرد فيها .
- حقا .. لكن لماذا لم امت كما مات من أرسلتهم إلى الحرب معي ؟لماذا بقيت حيا ؟ ما المغزى من ذلك ؟
- اسمع جيدا .. أنا غير مسؤول عن ما حدث لك أو لغيرك، كنت مأمورا بإرسال عدد من الرجال إلى الحرب لست وحدي المسؤول .
- حقا ؟ ولكن هل تعلم إن تلك الحادثة شكلت لي نقطة سوداء تجذرت في حياتي، قد لا تدين لأي شخص في اختياره لموتك الخاص، ولكن معلمي القديم اختار انهاء حياة عشرين شخصا ولقد ساعده الفقر وسوء الطالع على إنجاز مهمته بإحكام، عندها رسول العلم يتحول إلى رجل يشبه الكثير ممن يغامرون بالآخرين من أجل السلام الشخصي ولا يهمهم حياة الآخرين وسلامهم، وفي كثير من الأحيان المطمئنون يصيبهم الغرور إلى الحد الذي يرتكبون معه الأخطاء دون أن يحاسبوا انفسهم.

- هل تتخيل إنني هو ذلك المعلم ؟
- ومن غيرك ؟
- وماذا تريد الآن ؟ كنا نطبق التعليمات والأوامر لو كنت في مكاني لفعلت ما فعلته وربما أكثر، ..
رفع الرجل صوته الأجش قليلا وقد استفزته تبريرات الاستاذ رجب مقاطعا :
- فكرت كثيرا في أن أقاضيك عشرين مرة باسم كل هوية سلبتها مني ومن اصدقائي البائسين، فبيني وبينك ثأر وجراح لا تندمل، وعسى ان يكون انتقامي نوعا من العزاء لكل تلك الارواح التي أزهقت دون مبرر، لكني كنت أراك تحوم حول نفسك تبحث عنها وكأنك ضائع في ملكوت الله، أهذا انت الذي حفرت في داخلي كل هذه القتامة ؟ كنت اتساءل مشفقا تخيل ذلك ؟ وفي كل مرة أرجئ الحديث معك إلى الغد فأقول دع الغد يأتي دع يوما آخر يأتي، لكنني أقسمت أن أقاضيك يوما ما لأنك ولمصلحتك الشخصية تاجرت بحياة العمال الذين لا تعرف عنهم سوى هوياتهم التي سلبتها بحجة أنك وفرت لهم عملا ، قايضت حياتهم بشطيرة فلافل بائسة تسد جوعهم وتملأ بطونهم الخاوية في ذلك البرد، ومبلغ زهيد من المال .
صمت قليلا ثم رفع رأسه وتابع :
- علمتنا ونحن صغار مبادئ الخير لكنك قدمتنا ضحية سهلة وشوهت في داخلنا كل ما علمتنا إياه، جعلت من مبادئ حزب أو شخص مهما كانت جوفاء قيما عالية، لكنني ويا للمفاجئة وجدتك خاويا اكثر مما توقعت، أجل كنت خاويا من كل شيء، انظر حولك وسد كمية الفراغ الذي تعيشه، انظر كيف يتجاهلك الجميع، لكن هذا لا يكفي لأن كمية الصلف الذي في داخلك لا يتيح لك رؤية ذلك، حديثي معك ربما يرمم بعض الجراح، ولكن هل تعلم أنني وفي كل مرة أراك فيها تذرع الشوارع بلا هدف يراودني شعور عجيب بأنك تفتح أمامي صندوق باندورا المليء بشرور البشرية كلها ، وتذكرني بالحقبة البائسة التي تمثلها، لأنك جعلت حياتي موحشة، ومحتشدة بالأوجاع .

نهض بعد أن أنهي جملته الأخيرة ثم اطفأ سيجارته في قدح الشاي الفارغ متهيئا لمغادرة المقهى دون أن يلتفت إلى الأستاذ رجب الذي بقي واجما متهالكا لا يقوى على الوقوف أو البقاء في مكانه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -فيلم يحاكي الأفلام الأجنبية-.. ناقد فني يتحدث عن أهم ما يمي


.. بميزانية حوالي 12 مليون دولار.. الناقد الفني عمرو صحصاح يتحد




.. ما رأيك في فيلم ولاد رزق 3؟.. الجمهور المصري يجيب


.. على ارتفاع 120 متراً.. الفنان المصري تامر حسني يطير في الهوا




.. فيلم -ولاد رزق 3- يحقق أعلى إيراد يومي في تاريخ السينما المص