الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان كوخ في أعلى الجبل

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 6 / 12
الادب والفن


رواية للفتيان







كوخ في أعلى الجبل






طلال حسن





شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الزوج : كاسباشواوك

2 ـ الزوجة : نيرفيك

3 ـ الابنة "1 ": نيبنسار

4 ـ الأبنة " 2 " : كيدلوغساك

5 ـ الشاب : اتدلارنك









" 1 "
ـــــــــــــــــــــ
ما حدث ، في أواخر الشتاء القطبي الطويل ذاك ، أكثر بكثير مما خشيه كاسباشواوك وزوجته ، التي لم تعد شابة ، نيرافيك .
لقد حملت نيرافيك ، بعد سنين عديدة من زواجهما ، ومرت شهور الحمل طويلة وصعبة ، حتى حان الموعد المنتظر ، موعد الولادة .
ووقف كاسباشواوك خارج الكوخ ، ينتظر بفارغ الصبر ، وقلق شديد ، اللحظة الموعودة ، وأخيراً جاءه الخبر ، الذي نزل عليه نزول الصاعقة .
لم تضع نيرافك الطفل الذي أراده كاسباشواوك ، بل وضعت بدله طفلتين اثتتين ، صحيح إنهما في صحة تامة ، وجميلتان ، لكنهما فتاتان .
ودخل كاسباشواوك الكوخ ، مقطباً عابساً ، ونظرت إليه نيرافك ، وكأنها تعتذر عن الجريمة ، التي ارتكبتها ، لكنها ، وربما لتخفف عنه صدمته ، قالت : انظر إليهما ، إنهما قمران .
وأشاح كاسباشواوك عنهما ، وعن أمهما ، وقال : مهما يكن ، فإنهما بنتان .
ولشدة حزنه وتأثره ، لم يقم بتسميتهما ، وإنما ترك ذلك لزوجته نيرافيك ، فأسمت الطفلة الأولى نيبسار ، والثانية أسمتها كيدلوغساك .
وكما ينمو أطفال الحكايات ، نمت نيبنسار وكيدلوغساك ، وقد أحبتهما أمهما حباً جماً ، ورعتهما رعاية شديدة ، على العكس من أبيهما كاسباشواوك ، الذي لم يستطع أن يحبهما ، كما لم يعرف حتى النهاية ، من هي نيبسار ، ومن هي كيدلوغساك .
وطالما تمنتا ، وقد تجاوزتا الثانية عشرة من العمر ، أن تذهبا مع أبيهما إلى الغابة ، حين يخرج إلى الصيد ، وقد طلبتا من أمهما ، ذات مرة ، أن تفاتح أباهما برغبتهما تلك ، فصاحت مذهولة : ماذا ! أجننتما ؟ لن أفاتحه بذلك ، مهما كان السبب .
وقالت نيبنسار : سنفاتحه نحن .
واتسعت عينا الأم خوفاً ، وقالت : حذار .
فردت كيدلوغساك : سنفاتحه ، وليكن ما يكون .
واختلتا بوالدهما كاسباشواوك ، حين عاد مساء إلى الكوخ ، وعرفت الأم بما قررته ابنتاها ، فتحججت بقضية ما ، وخرجت من الكوخ .
واقتربتا منه نيبنسار ، وقالت : بابا .
ونظر كاسباشواوك إليها حائراً متسائلاً ، ، فقالت : أنا نيبسنار .
ونظر إلى كيدلوغساك ، فقالت : وأنا كيدلوغساك .
وقال الأب مقطباً : خيراً .
فقالت نيبسنار على الفور : علمنا أنك ستخرج غداً للصيد في الغابة .
وقبل أن يردّ كاسباشواوك بشيء ، قالت كيدلوغساك : ليتنا نأتي معك .
ورد كاسباشواوك محنقاً : يبدو أنكما نسيتما أنكما مجرد بنتين .
وقالت كيدلوغساك : هناك بنات ، من قريتنا نفسها ، يخرجن إلى الغابة ، ويتعلمن الصيد ، بل ويصطدن أيضا
وحدق كاسباشواوك فيهما لحظة ، ثم قال بنبرة حاسمة : امكما في الخارج ، اذهبا الآن ، وساعداها في اعداد طعام العشاء .
واستدارت نيبسنار وكيدلوغساك على الفور ، وغادرتا الكوخ ، وإذا أمهما تقف بالباب ، فنظرت إليهما ، وقالت : لقد حذرتكما ، لكنكما لم تصغيا .

" 2 "
ـــــــــــــــــــ
عدا الأم نيرفيك ، لم يستطع أحد ، وحتى أبوهما كاسباشواوك نفسه ، أن يفرق بينهما ، أما كيف تستطيع الأم ذلك ، وهما كحبة باقلاء قسمت قسمين ، فلا أحد يعرف ، ولو سئلت لربما أجابت : قلب الأم .
وبقدر ما كانت الأختان التوأم ، متباعدتين عن أبيهما ، وهذا ما أراده هو نفسه ، فهما في رأيه مجرد " بنتان " ، فإنهما كانتا قريبتين من أمهما نيرفيك ، وقلما كان يشاهدهما أحد خارج الكوخ ، بدون أمهما ، إنهما بحق ثلاثي لا يفترق .
ورغم راحتهن داخل الكوخ ، وفي محيطه ، كانت الفتاتان تحنان إلى الغابة ، وأجوائها الصحية المنفتحة ، وكانت الأم تستجيب لهما على مضض ، فيتجولن في الغابة ، بل وتقدم الفتاتان أحيانا، على مطاردة الأرانب وطيور التلمجان ، على سبيل التسلية .
ومرضت الأم نيرفيك ذات يوم ، ورقدت في فراشها عدة أيام ، حتى جاءتها ابنتاها يوماً ، وقالت نيبنسار : ماما ، كفى دلالاً .
وابتسمت الأم ، رغم ضعفها ، فقالت كيدلوغساك : لقد أعجبك التمدد في الفراش الوثير .
وهمت الأم بالنهوض ، وقالت مازحة : لا عليكما ، سأنهض ، وأعد الطعام اليوم .
ووضعت نيبنسار يدها على كتف أمها ، وأبقتها في الفراش ، وقالت : نحن أعددن الطعام .
ونظرت الأم إليهما ، وقالت : أعرف ماذا تريدان .
فقالت كيدلوغساك : حسن .
ومالت عليها نيبنسار ، وقالت : غداً ، يا ماما ، وليس بعد غد ، نذهب معاً إلى الغابة .
وقالت الأم محتجة : لكني مازلت مريضة .
فقالت نيبنسار : سنذهب ، يا ماما ، حتى لو حملناكِ على ظهرنا .
وفي اليوم التالي ، وبعد خروج الأب من الكوخ ، وذهب لزيارة أحد أصدقائه ، في طرف القرية ، تحاملت نيفيك على نفسها ، وخرجت مع ابنتيها نيبنسار وكيدلوغساك ، واتجهوا جميعاً إلى الغابة .
وخلال سيرهما في الطريق ، تبادلت الأختان النظر حول أمهما ، التي كانت تسير ببطء ، متحاملة على نفسها ، حتى توقفت ، وهي تتنفس بعمق ، فقالت نيبنسار : يبدو أنكِ تعبت ، يا ماما .
وحدقت كيدلوغساك فيها ، وقالت : لنقف هنا قليلاً ، حتى نرتاح .
لكن الأم تحاملت على نفسها ، وسارت متعثرة ، وهي تقول : يبدو أنكما ستحملاني ، إن لم يكن في الذهاب ، ففي الإياب .
وفي أول الغابة ، جلست الأم على أصل شجرة مقطوعة ، وقالت لابنتيها : أنا سأجلس هنا ، اذهبا أنتما ، وتجولا ولكن لا تبتعدا .
وذهبت الفتاتان تتجولان في الجوار ، وقالت نيبنسار : إذا رأيت أرنباً ، سأطارده حتى أمسكه .
وقالت كيلوغساك : وأنا سأصطاد طائر تلمجان ، فلا أطيب عندي من التلمجان .
ولكن بدل الأرنب أو طائر التلمجان ، لمحتا أباهما من بعيد ، يكمن لطيور تلمجان ، كانت تسير على الثلوج ، فشدت نيبنسار كمّ أختها كيدلوغساك ، وهمست لها خائفة : توقفي ، ذاك بابا .
وتوقفت كيدلوغساك ، وانحنت حتى كادت تلامس الأرض ، وقالت : يا ويلنا ، أخشى أن يرانا .
وسحبتها نيبنسار من كمها ، وقالت : تعالي نعد بسرعة ، قبل أن يرانا .
وأسرعتا عائدتين ، وما إن وصلتا حيث تجلس الأم ، حتى قالت نيبنسار : ماما ، انهضي ، لقد رأينا بابا يصطاد ، في مكان قريب .
وتحاملت الأم على نفسها مضطربة ، خائفة ، وهي تقول بصوت مرتعش : يا ويلنا ..
وقاطعتها كيدلوغساك قائلة : لا تخافي ، يا ماما ، لم يرنا ، كان منهمكاً في الصيد .
وقالت الأم مرعوبة ، وهي تسير بخطى متعثرة : لنعد إلى البيت ، والويل لنا إذا رآنا ، أو وصل إلى البيت ، قبل أن نصل نحن .

" 3 "
ــــــــــــــــــــ
صحيح إن كاسباشواوك ، لم يصل الكوخ قبل نيفيك وابنتيه نيبنسار وكيدلوغساك ، لكن مع هذا ، دفعت نيرفيك الثمن غالياً .
لقد بذلت أقصى جهدها ، في السير حثيثاً عبر الطريق ، لكنها وصلت إلى الكوخ منهارة ، وألقت نفسها على الفراش ، وهي تلهث ، وتكاد تلفظ أنفاسها .
وعاد كاسباشواوك ، بعد ساعات ، يحمل طائري تلمجان ، وما إن دخل الكوخ ، حتى ألقى الطائرين على المائدة ، وقال : نظفن هذين الطائرين ، أريدهما مطبوخين على العشاء .
ووقفت الفتاتان جامدتين ، وظلت نيرفيك منطرحة في فراشها ، ووجهها النحيل بادي الارهاق والشحوب ، وحدق كاسباشواوك فيها ، ثم نظر إلى ابنتيه ، فقالت نيبنسار : تعبت في اعداد الطعام ، لقد أصرت أن تعده لك بنفسها .
ورمقته كيدلوغساك بنظرة خاطفة ، وقالت : إنها مازالت مريضة ، وتحتاج إلى الراحة .
والقى كاسباشواوك نظرة على نيرفك ، وقال : تبدين كما لو عدوتِ مسافة طويلة .
ونظرت الأم إلى ابنتيها محرجة ، فأخذت نيبنسار طائري التلمجان عن المائدة ، وقالت وكأنها تخاطب كيدلوغساك : سأنظفهما في الخارج .
ولحقت كيدلوغساك بها ، وهي تقول بصوت خافت : نظفي واحداً ، وسأنظف الآخر .
وتنهدت نيفيك متوجعة ، وقالت : إنني متعبة ، ونعسانة ، ليتني أنام ، لعلي أرتاح .
وبدل أن ترتاح وتشفى ، اشتد المرض على نيفيك ، في الأيام التالية ، وراح مرضها يشتد ، مع كلّ يوم جديد ، حتى كاد يقعدها تماماً في فراشها .
وذات ساعة ، وقد عاد كاسباشواوك من الخرج ، اقتربت نيبنسار منه ، وقالت : أبي ..
ورفع كاسباشواوك عينيه الباردتين إليها ، فقالت : أمي مريضة ، ولابد أن نفعل شيئاً .
والتفت كاسباشووك إلى نيرفيك ، وحدق فيها ملياً ، ثم قال : نحن نقدم لها الدواء .
وقالت كيدلوغساك : لا فائدة منه ، لم يصفه شخص مختص .
ولاذ كاسباشواوك بالصمت ، فقالت نيبنسار : علينا أن نستدعي الحكيمة العجوز .
وقال الأب : حسن ، لتذهب إحداكما بعد ساعة ، وتستدعها .
وقالت نيبنسار : ولماذا بعد ساعة ؟ سأذهب أنا الآن ، وأستدعيها في الحال .
وفي الحال ، ذهبت نيبنسار إلى الحكيمة العجوز ، وظلت كيلوغساك إلى جانب أمها ، ووقف كاسباشواوك في طرف الكوخ ، وهو يقول : لن تتأخر الحكيمة العجوز ، بيتها ليس بعيداً .
وتطلعت كيدلوغسك إليه ، وتمتمت بصوت لا يكاد يسمع : كاسباشواوك .
ويبدو أنه لم يسمعها ، أو ينتبه إليها ، فهمست له كيدلوغساك : بابا .
ونظر كيدلوغساك إليها ، فأشارت إلى أمها ، وقالت : ماما تكلمك ، يا بابا .
واقترب كاسباشواوك من نيرفيك ، وقال : الأفضل أن تنامي ، حتى تأتي الحكيمة العجوز .
لم تصغ نيرفيك إلى كاسباشواوك ، بل قالت له بصوت خافت مرتعش : أوصيك بنيبنسار وكيدلوغساك ، لن يكون لهما بعدي أحد في هذه الدنيا .
ولاذ كاسباشواوك بالصمت ، فقالت نيرفيك : مهما يكن ، يا كاسباشواوك ، فإنهما ابنتاك .
واستدار كاسباشواوك نحو الباب ، وقال : يبدو أن الحكيمة العجوز قد حضرت .
وبالفعل فتح باب الكوخ ، ودخلت نيبنسار ، ومن ورائها دخلت الحكيمة العجوز ، التي اقتربت على الفور من نيرفيك ، المنطرحة في فراشها ، وانحنت عليها ، وجست نبضها ، ثم اعتدلت ، ونظرت إلى كاسباشواوك ، وقالت : لقد تأخرتم في استدعائي .
وتمتمت كيدلوغساك من بين دموعها ، وقالت : لا .. لا .. لا تقولي هذا .
فقالت الحكيمة العجوز : يا للأسف ، فات الأوان .

" 4 "
ـــــــــــــــــــ
رحلت نيرفيك ، وتركت ابنتاها للأب كاسباشواوك ، أم أنها تركت كاسباشواوك ، الذي تعود على رعايتها له ، لنيبنسار وأختها كيدلوغساك ، اللتين لم تعودا طفلتين ، وتجاوزتا الخامسة عشرة من العمر ؟
وطوال ساعات عديدة من النهار ، كانت الأختان تجدّان في خدمة أبيهما ، وتحاولان أن تملآ الفراغ ، الذي تركته أمهما نيرفيك برحيلها المبكر ، وهذا ما أحسه الأب ، وكذلك الأختان .
ويستيقظ كاسباشواوك كلّ يوم ، بعد نوم طويل ، ليجد فطوره الذي يفضله جاهزاً ، وهذا ما كان تفعله أمهما أيضاً ، فيجلس عابساً ، وعابساً يتناول طعامه ، ويغادر الكوخ عابساً ، دون أن يتفوه بكلمة .
وعند العشاء ، يأتي عابساً ، بعد أن قضّى ساعات طويلة في الخارج ، ويتناول عشاءه عابساً ، وعابساً يأوى إلى فراشه ، لكنه لا يستغرق في النوم ، كما تعود ، عندما كانت زوجته على قيد الحياة .
وأكثر من مرة ، تساءلت نيبنسار : ما العمل ؟
فتجيبها كيدلوغساك : لتعد أمنا .
وتتمتم نيبنسار : نعم ، لكن كيف ؟
وذات مرة ، وهما تناقشان الأمر ، التمعت عينا كيدلوغساك ، وقالت : لعله يفكر في ..
وتساءلت نيبنسار : الزواج !
فردت كيدلوغساك : نعم ، الزواج .
وتمتمت نيبنسار : وماذا لو يتزوج ، يا كيدلوغساك ؟
وتمتمت كيدلوغساك : حقاً ، ماذا لو يتزوج ؟
وذات يوم ، بعد الفطور ، فوجئت الأختان بأبيهما يعدّ زلاجته ، وقبل أن ينطلق بها ، قال لهما : سأسافر إلى قرية الجدة ، وقد أغيب يومين أو ثلاثة أيام .
وحدقت الأختان الواحدة في الأخرى ، وقالت نيبنسار : لعله سيأتينا بضيفة دائمة .
وتساءلت كيدلوغساك : زوجة !
وهزت نيبنسار رأسها ، فقالت كيدلوغساك : نعم زوجة ، زوجة شابة ، ستحل محل أمنا .
وعلقت نيبنسار قائلة : هذا ما لا أستطيع أن أتصوره ، يا كيدلوغساك .
وبعد العشاء ، أوت الأختان إلى فراشيهما ، وتمددتا تحت الأغطية الدافئة ، وقبل أن تغمض نيبنسار عينيها ، قالت وكأنها تحدث نفسها : ماذا لو جاء بابا ، بعد رحلته هذه ، بزوجة ؟
ونظرت كيلوغساك إليها ، وقالت : سنكون ضيفتين ، يا نيبنسار .
ولاذت نيبنسار بالصمت ، فتابعت كيدلوغساك قائلة : ضيفتين ثقيلتين .
وعاد كاسباشواوك عابساً ، بعد أيام ، عاد وحده على زلاجته ، ولم تكن معه ضيفة ، وغمزت نيبنسار لأختها كيدلوغساك ، وهمست قائلة : لم نصبح ضيفتين .
وردت كيدلوغسان بصوت خافت : لا تستعجلي ، سنصبح ضيفتين ، إن عاجلاً أو آجلاً .

" 5 "
ــــــــــــــــــــ
جاء الربيع ، وأشرق النهار ، بعد ليل قطبي طويل ، وشاع دفء لذيذ ، ونمت أنواع مختلفة ، ومبهجة ، من الأزهار ، في أطراف الغابة .
وعادت الطيور التي هاجرت بعيداً مع غياب الشمس ، وبدأت الثلوج بالذوبان ، إلا أن الثلوج ، المتراكمة بين نيبنسار وكيدلوغساك من جهة ، وأبيهما كاسباشواوك من جهة أخرى ، لم تذب ، بل تحولت مع الزمن ، إلى جليد صلد ، يصعب أذابته أو اختراقه .
وذات مرة ، بعد العشاء ، أوى كاسباشواوك إلى فراشه ، وقال دون أن ينظر إلى ابنتيه : سأذهب غداً إلى قرية الجدة ، وقد أغيب عشرة أيام أو أكثر .
وتمددت الأختان ، كلّ منهما في فراشها ، دون أن تحيرا جواباً ، فتمدد كاسباشواوك في فراشه أيضاً ، وقال : جهزا الكوخ ، لقد اخترت زوجة لي ، وسآتي بها إلى هنا ، في نهاية رحلتي .
وفي اليوم التالي ، بعد الفطور ، استقل كاسباشواوك زلاجته ، وقبل أن ينطلق بها ، قال حتى دون أن ينظر إلى ابنتيه : أعدا الكوخ جيداً ، فالزوجة التي اخترتها شابة ، أكبر منكما بقليل .
ولاذت نيبنسار بالصمت ، فقالت كيدلوغساك : اطمئن ، يا أبي ، سترى الكوخ جاهزاً ، حين تعود .
وطوال ساعات ، لم تتفوه الأختان بكلمة واحدة ، وظلتا صامتتين ، حتى وهما تتناولان طعام العشاء ، وحين أوتا إلى فراشيهما ، قالت كيدلوغساك : من الأفضل أن نبدأ بإعداد الكوخ منذ الغد .
وتمددت نيبنسار في فراشها ، وأغمضت عينيها ، وقالت : لنفكر في إعداد نفسينا أيضاً .
وتطلعت كيدلوغساك إليها صامتة ، فأضافت نيبنسار قائلة : نامي الآن ، يا كيدلوغساك .
وأغمضت كيدلوغساك عينيها ، وقالت : نامي أنت أيضاً ، فأنت مثلي متعبة .
لم تنم نيبنسار وكيدلوغساك حتى ساعة متأخرة ، تفكران في ما يمكن أن تفعلاه ، عند مجيء زوجة أبيهما الشابة ، ويبدو أن أيّاً منهما لم تصل إلى نتيجة مرضية ، حتى استغرقتا في النوم .
وخلال عملهما في إعداد الكوخ ، راحتا تفكران بصوت مرتفع ، وتتبادلان الحديث ، فقالت كيدلوغساك مرة : لن يكون لنا مكان هنا ، إذا جاء أبي بزوجة .
وتوقفت نيبنسار عن العمل ، وتلفتت حولها ، وقالت : نعم ، الكوخ أن يتسع لنا معاً .
ثم عادت إلى العمل ، وهي تقول : من الأفضل أن نبحث منذ الآن ، عن مكان نعيش فيه .
ولابد أنهما ، وخلال تلك الساعات ، انهمكتا في العمل ، وكذلك في التفكير ، وعندما جلستا لتناول طعام العشاء ، قالت كيدلوغساك : ما رأيك أن نذهب إلى جدتي ، ونعيش معها ، إنها وحيدة في كوخها ؟
وألقت نيبنسار اللقمة التي كانت في يدها ، وقالت : إنها لا تطيقك ، وأنت نفسك لا تطيقينها .
وقالت كيدلوغساك : اجلسي ، أنت لم تأكلي شيئاً بعد ، يا نيبنسار .
فردت نيبنسار قائلة : لم أعد أشتهي أن آكل .
ورقدتا في فراشيهما صامتتين ، حتى تنهدت نيبنسار ، وقالت : كيدلوغساك .
وردت كيدلوغساك : نعم .
فقالت نيبنسار : ما رأيك لو غادرنا هذه القرية ، وعشنا في أعلى الجبل ؟
والتفتت كيدلوغساك إليها ، وقالت : أعرف أنك مجنونة أكثر مني ، لكنها فكرة جيدة .
فتابعت نيبنسار قائلة : يمكننا أن نعيش في كهف من الكهوف ..
وعلقت كيلوغساك : مثل الدببة .
ومرة أخرى تابعت نيبنسار قائلة : أو نبني كوخاً صغيراً ، كما يفعل صيادو الرنة .
واعتدلت كيدلوغساك ، وقالت : لا داعي لأن نبني كوخاً ، هناك كوخ صغير جاهز .
وبدورها اعتدلت نيبنسار ، وقالت : أنا أيضاً سمعت بوجود هذا الكوخ .
وتابعت كيدلوغسان قائلة : بناه صياد رنة ، وعاش فيه عدة سنوات مع طفله .
وتمددت نيبنسار في فراشها ، وقالت : لا أفضل من هذا الكوخ ، فلنرحل حالما ننتهي من إعداد هذا الكوخ لأبي وزوجته الشابة .

" 6 "
ـــــــــــــــــــــ
عاد كاسباشواوك إلى الكوخ ، بعد حوالي خمسة عشر يوماً ، وعلى زلاجته امرأة شابة ، ليست أكبر من ابنتيه إلا بسنوات قليلة .
ونزل من الزلاجة ، أمام باب الكوخ ، وأشار بيده إلى الكوخ ، وقال لزوجته الشابة : هذا هو كوخنا ، وهنا ستعيشين منذ الآن .
ثم أضاف بصوت رقيق : انزلي .
ونزلت الزوجة الشابة من الزلاجة ، وقد بدا عليها التعب ، وتلفت كاسباشواوك حوله ، لابد أنه يبحث عن ابنتيه ، ولمح جارتهم العجوز ، تطل من باب كوخها ، وتتطلع إليه وإلى زوجته الشابة صامتة .
ودفع كاسباشواوك باب الكوخ ، وهو يقول لزوجته الشابة : تعالي ، ادخلي .
ودخل كاسباشواوك ، وخلفه دخلت زوجته الشابة ، وتلفتا مندهشين ، حقاً إنه كوخ أعدّ لاستقبال زوجة شابة ، في مقتبل حياتها الزوجية ، وقالت الزوجة الشابة : ابنتاك بارعتان جداً .
وعلق كاسباشواوك قائلاً : أمهما كانت هي البارعة .
وقالت الزوجة الشابة : لابد أنهما تعلمتا منها ، فالفتاة تتعلم من أمها أولاً .
وتلفتت حولها ، وقالت : سنتعاون في كلّ شيء ، وسأتعلم منهما وأعلمهما .
وهنا أطلت الجارة العجوز من الباب ، وهتفت بصوت خافت : كاسباشواوك .
والتفتا إليها ، وقال كاسباشواوك : أهلاً بالجدة ، تعالي أعرفك بزوجتي .
لكن الجارة العجوز ظلت بالباب ، ونظرت إلى الزوجة الشابة ، وقالت : مبروك زواجكما ، أتمنى لكما كل الخير ، كما أتمنى أن ترزقا بولد .
وانحت الزوجة الشابة لها قليلاً ، وردت قائلة : أشكرك ، أيتها الجدة الطيبة .
ونظرت الجارة العجوز إلى كاسباشواوك ، وقالت : لحظة من فضلك ، لدي ما أقوله لك .
وأسرع كاسباشواوك إليها ، وأخذها جانباً ، تفضلي ، ما الأمر ؟
وقالت الجارة العجوز : الأمر يتعلق بابنتيك نيبنسار وكيدلوغساك .
وحدق كاسباشواوك فيها ، وقال : إنني لا أراهما في الكوخ ..
وقاطعته الجارة العجوز قائلة : ولن تراهما في القرية كلها ، لا الآن ولا في الأيام القادمة .
وصمتت الجارة العجوز ، أمام صمت كاسباشواوك ودهشته ، ثم قالت : لا تقلق ، يا كاسباشواوك ، إنهما تعيشان وحدهما في كوخ ، في أعلى الجبل .
ولاذ كاسباشواوك بالصمت ، فقالت الجارة العجوز : هذا ما طلبتا أن أخبرك به ، لقد رحلتا منذ بضعة أيام ، بعد أن أعدتا الكوخ لكما .
ورغم علاقته المتجلدة مع ابنتيه ، وشعوره ببعض الراحة من ابتعادهما ، وخاصة عن حياته الجديدة ، إلا أنه لم يرتح لحياتهما وحيدتين في أعلى الجبل ، فمهما كان الأمر ، فإنهما ابنتاه .
وطالما تساءل ، بينه وبين نفسه ، كيف تدبران حياتهما اليومية ، فوق ذلك الجبل الموحش ، وخمن أنهما لن تتحملا وضعهما طويلاً ، وأنهما ستضطران للعودة نادمتين ، فالحياة فوق الجبل لا تناسب فتاتين في عمرهما .
ومرت أيام ، أيام طويلة ، لكن الفتاتين لم تعودا ، وعندها فكر كاسباشواوك ، أنه ربما عليه أن يذهب إليهما بنفسه ، ويطلع على حقيقة الأمر .

" 7 "
ـــــــــــــــــــ
مع مرور الوقت ، تعودت نيبنسار وكيدلوغساك ، على الحياة في الكوخ الصغير ، المختبىء بين الأشجار الضخمة المتطاولة ، في أعلى الجبل ، الذي لا يبعد كثيراً عن القرية .
صحيح أن حياتهما هنا ، وسط طبيعة قاسية ، أكثر صعوبة من حياتهما في القرية ، مع أبيهما ، ووسط أهلهما وأقاربهما وجيرانهما ، لكنهما استطاعتا بشيء من الصعوبة ، التكيف مع طبيعة هذه المنطقة الجبلية ، ، بل وشعرتا بمميزاتها العديدة .
وحين عثرتا على الكوخ ، المختبىء بين الأشجار ، فوجئتا بالحال الذي هو عليه ، فقد كان أشبه بخربة متربة قذرة ، لكنهما ، وبعد جهود شاقة ، حولاه إلى جنينة صغيرة ، يفيض بالدفء والحياة .
وفي البداية ، وجدتا صعوبة في توفير الطعام ، بعد أن نفد ما جلبتاه معهما من لحم الفقمة ، لكن سرعان ما نجحت نيبنسار في اصطياد أرنب ، وفي ذلك اليوم ، أقامتا وليمة لا تنُنسى .
وعلقت كيدلوغساك ، وهي تأكل : لابد أن أعترف ، أنه ألذّ أرنب عجوز أكلته في حياتي .
وردت عليها نيبنسار ضاحكة : سنرى الأرنب ، الذي ستصطادينه ، هذا إذا اصطدت أرنباً .
فقالت كيدلوغساك : سترين الأرنب ، الذي سأصطاده ، وفي فرصة قريبة جداً .
وبعد وقت قريب ، اصطادت نيبنسار ، بدل الأرنب طائر تلمجان ، وفوجئت نيبنسار ، حين عادت من الصيد ، دون أن تصطاد شيئاً ، بطائر تلمجان ضخم مشويّ ، ينتظرها على مائدة الطعام .
وجلستا إلى مائدة الطعام ، تأكلان بنهم ، وقالت نيبنسار : طائر التلمجان هذا ، أشفق عليك ، وسمح لك أن تصطاديه .
وضحكت كيدلوغساك ، وقالت : مهما يكن ، فهو أفضل من أرنبك العجوز .
ومع مرور الوقت ، صار صيد الأرانب والطيور المختلفة ، أمراً ليس صعباً عليهما ، خاصة وأنهما عثرتا على مجموعة من الفخاخ ، في طرف الكوخ ، وتذكرتا طريقة استعمالها ، عندما كانتا تراقبان شباب قريتهما ، وهم يصطادون في الغابة .
وتجلس الأختان أحياناً بباب الكوخ ، تحت أشعة الشمس الدافئة ، أو أمام نار الموقد داخل الكوخ ، فتقول إحداهما للأخرى ، وكأنها تحدث نفسها : ها ، يبدو أنك تحنين إلى القرية .
فتقول الأخرى : ليس كثيراً .
لكنهما كانتا متفقتين ، على أن الحياة ، فوق هذا الجبل ، هو ما تريدانه ، وستكونان أكثر سعادة فيه ، مما لو عاشتا في القرية ، مع أبيهما وزوجته الشابة .
وذات مرة ، تساءلت كيدلوغساك : ترى ماذا يفعل أبي الآن ؟
فردت نيبنسار : لابد أنه مشغول بزوجته الجديدة .
وتساءلت كيدلوغساك ثانية : ليتني أعرف ، كيف واجه اختفاءنا ؟
ولاذت نيبنسار بالصمت ، فتابعت كيدلوغساك قائلة : كنا معه ، ولم يكن يهتم بوجودنا ، ولا أظنه سيهتم لغيابنا ، إن لم يكن سيريحه ذلك .

" 8 "
ـــــــــــــــــــــ
جلست نيبنسار وكيدلوغساك إلى المائدة في الكوخ ، ذات ساعة ، تعدان للغداء طائر تلمجان ، فتناهى إليهما من الخارج ، نباح كلبهما " صقر " ، وانتبهتا إلى أن نباحه ، لم يكن نباحاً عدوانياً غاضباً .
وتساءلت نيبنسار : ترى من يكون ؟
وردت كيدلوغساك قائلة : لعله صياد من صيادي الرنة ، مرّ عن قرب .
وعادتا إلى العمل ، لكنهما توقفتا مندهشتين ، حين طرق الباب ، ونظرت إحداهما إلى الأخرى متسائلتين ، فنهضت نيبنسار ، وقالت : سأرى من بالباب .
وفتحت نيبنسار الباب ، وتوقفت جامدة ، وقد اتسعت عيناها ، فرفعت كيدلوغساك رأسها ، وقالت : من بالباب ، يا نيبنسار .
لم تجبها نيبنسار ، وخفق قلبها بشدة ، حين رأت أباها يمدّ يده ، وينحي نيبنسار عن طريقه ، ويدخل إلى الكوخ ، فتمتمت مذهولة : بابا !
والتفت كاسباشواوك إلى نيبنسار ، وقال : تعالي ، اجلسي قرب أختكِ .
وجلست نيبنسار إلى جانب كيدلوغساك ، فقال كاسباشواوك : حين عدت إلى القرية ، ومعي زوجتي ، فوجئت بعدم وجودكما في الكوخ .
فقالت نيبنسار : لقد أعددنا لكما الكوخ .
وتابع كاسباشواوك قائلاً : وأخبرتني الجارة العجوز ، بأنكما هنا ، في هذا الكوخ ، أعلى الجبل .
ولاذت الأختان بالصمت ، فقال كاسباشواوك : توقعت أن تريا خطأ خياركما ، وتعودان إلى القرية .
وصمت كاسباشواوك ، وظلت الأختان صامتتين ، ونظرت كيدلوغساك إلى نيبنسار ، ثم قالت : الكوخ صغير ، ولا يتسع لنا جميعاً ، خاصة وقد أصبح لك زوجة جديدة .
وردّ كاسباشواوك قائلاً : بل يتسع .
وبشيء من الانفعال ، والغضب ، قالت نيبنسار : ثم إنك لم تكن لنا أباً حقيقياً ، في يوم من الأيام ، حتى وأمنا على قيد الحياة .
وهمّ كاسباشواوك أن يردّ ، فتابعت نيبنسار قائلة : كنت تريد ولداً ، فما ذنبنا إذا لم نكن الولد الذي أردته ، وإنما كنا مجرد بنتين .
وصاح كاسباشواوك : هذا لا يبرر أن تتركا القرية ، وتعيشا هنا ، في هذا الكوخ أعلى الجبل ، إن فعلتكما هذه تحرجني أمام أهل القرية .
وهمت نيبنسار أن تردّ ، فقاطعتها كيدلوغساك قائلة : نيبنسار ..
وصمتت نيبنسار ، فقالت كيدلوغساك : الطعام سيجهز بعد قليل ، يمكننا أن نتحدث ، في كلّ شيء ، ونحن نتناول الطعام .
وراحتا تتمان تجهيز الطعام صامتتين ، وخرج كاسباشواوك ، ووقف على مقربة من الكوخ ، يتطلع إلى ما حوله ، ويفكر في وضع ابنتيه .
وجلسوا حول المائدة ، بعد حين ، يتناولون طعام الغداء ، وقد ران فوقهم صمت ثقيل ، ولكي تخفف كدلوغساك من وطأة هذا الصمت ، نظرت إلى أبيها ، وقالت : لم تحدثنا عن زوجتك الجديدة .
ولاذ كاسباشواوك بالصمت لحظة ، ثم قال بصوت هادىء : إنها حامل .
وابتسمت كيدلوغسك ، وقالت : أرجو أن تأتيك بولد .
لم يتفوه كاسباشواوك بشيء ، فقالت نيبنسار : وإلا عانت ما عانيناه نحن .
ونظر كاسباشواوك إليها ، ثم قال : لا تظنا أنني لم أحس بكما ، لكن الأمر كان فوق طاقتي .
وصمت لحظة ، ثم قال : عودا إلى القرية ، متى تشاءا ، وعيشا عند جدتكا العجوز ، ريثما ابني لكما كوخاً خاصاً بكما .
وارتفع نباح الكلب " صقر " في الخارج ، فقالت نيبنسار : لم نأخذه ، نحن نعرف أنه عزيز عليك ، لكنه لحق بنا ، وعجزنا عن إعادته .
فقال كاسباشواوك : ليبقَ " صقر " عندكما ، فأنتما أحوج إليه مني .



" 9 "
ــــــــــــــــــــ
عادت نيبنسار وكدلوغساك إلى الكوخ ، بعد ساعات ، وقد اصطادتا بطة ، وجمعتا من أعشاش الطيور عدداً من البيض ، وكلبهما الضخم " صقر " يهرول وراءهما لاهثاً .
وعند باب الكوخ ، وقفت نيبنسار ، وتلفتت حولها ، فقالت كدلوغساك : ما الأمر ، يا نيبنسار ؟
ودفعت نيبنسار باب الكوخ ، وهي تقول : خيل إليّ أنني لمحت شخصاً يمرق بين الأشجار .
ودخلت كدلوغساك وراءها ، وألقت بالبطة على المنضدة ، وقالت : لعله صياد عابر ، وهو ليس أول صياد يتوغل إلى هنا .
ووضعت نيبنسار البيض في إناء على المنضدة ، وقالت : من يدري ، لعله كما قلت صياد .
وقالت كدلوغساك : إنني جائعة جداً ، سأولم لنفسي اليوم ، بطة مشوية ، وبيض مقلي .
وضحكت نيبنسار قائلة : انتبهي إلى نفسك ، يا كدلوغساك ، وإلا صرت بطة برية .
وبدورها ضحكت كدلوغساك ، وقالت : يبدو أن هذه النصيحة ، لا توجهينها لي فقط .
وهمهمت نيبنسار ، وقالت : هممم .. أخشى حقيقة ، إننا ننسى أنفسنا أحياناً ، ونفرط في تناول الطعام .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : نظفي أنت البطة ، وسأذهب أنا لأجلب بعض الحطب .
فردت كدلوغساك : ستجدين البطة نظيفة ، حين تعودين من الخارج .
وذهبت نيبنسار لتجلب الحطب ، وأخذت معها الكلب " صقر " ، وانهمكت كدلوغساك في تنظيف البطة ، وإعدادها للشي في الموقد ، وهي تدندن بصوت خافت ، لا يكاد يُسمع .
وتوقفت فجأة عن الدندنة ، حين سمعت باب الكوخ يدفع في هدوء ، فقالت دون أن ترفع رأسها : أراك عدت بسرعة ، يا نيبنسار .
وانتظرت لحظة ، لكن لم يأتها الرد ، فرفعت رأسها نحو الباب ، وإذا شاب أكبر منها بقليل ، يقف محدقاً فيها ، فتوقفت عن تنظيف البطة ، وقالت : كان عليك أن تطرق الباب على الأقل .
وتململ اتدلارنك محرجاً ، وقال : عفواً ، لم أعرف أن أحداً في الكوخ .
فقالت كدلوغساك : ها أنت قد عرفت .
وابتسم اتدلارنك ، وقال : طاب يومكِ ، يا ..
فقالت كدلوغساك : كدلوغساك .
وابتسم اتدلارنك ثانية ، وقال : طاب يومك ، يا كدلوغساك .
وأطرقت رأسها ، وقالت : طاب يومك .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : يبدو أنك صياد .
فردّ اتدلارنك قائلاً : نحن جميعاً صيادون ..
وصمت لحظة ، ثم قال : اسمي اتدلارنك .
فقالت كدلوغساك : أهلاً بك .
وابتسمت له ، وقالت : لدينا بطة على العشاء ، ابقَ ، وتعشَ معنا اليوم .
وابتسم اتدلارنك ، وقال : يبدو أنه سيكون عشاء شهياً ، أشكرك ، سأبقى .
وتناولت كدلوغساك سطلاً فارغاً ، وقالت : سأذهب إلى النبع ، وأجلب بعض الماء .
وهز الشاب رأسه ، فخرجت كدلوغساك بسرعة ، وهي تقول : لن أتأخر ، ابقَ هنا .
وذهبت كدلوغساك ، وبقي اتدلارنك ينتظر وحده في الكوخ ، الذي عاش فيه طفولته ، وراح يتلفت حوله ، وكأنه يقرأ صفحات أيامه الخالية .
وتوقف عن تصفح ماضيه ، عندما سمع الباب يفتح ، والتفت بهدوء ، وإذا عيناه تلتقي بعيني فتاة تحمل حطباً ، يا للعجب ، لقد خرجت قبل قليل ، تحمل سطلاً لتجلب ماء من النبع ، وتمتم : كدلوغساك ..
وألقت نيبنسار الحطب قرب الموقد ، وقالت : آه يبدو أنك التقيت بأختي .
وفغر الشاب فاه متمتماً أختك !
وهنا أقبلت كدلوغساك ، حاملة سطل الماء ، فوقف اتدلارنك مذهولاً ، يقلب النظر بين الأختين التوأم ، فابتسمت كدلوغساك ، وقالت لاتدلارنك : أعرفك بأختي التوأم نيبنسار .
والتفتت نيبنسار إليها ، فأضافت قائلة : إنه الصياد الذي لمحته ، وسيكون ضيفنا على العشاء .




" 10 "
ـــــــــــــــــــــــ
جلسوا حول المائدة ، التي وضعت عليها الأختان ، البطة المشوية ، والبيض المقلي ، وقالت كيدلوغساك لاتدلارنك : تفضل .
فمدّ اتدلارنك يده إلى الطعام ، وقال : أشكرك .
وراحوا يأكلون ، فقالت كيدلوغساك : أرجو أن يعجبك طعامنا المتواضع .
فوضع اتدلارنك قطعة من لحم البطة في فمه ، ثم قال : لذيذ جداً ، أنتِ طباخة ماهرة .
ورمقت كيدلوغساك أختها نيبنسار بنظرة خاطفة ، وابتسمت قائلة : أختي نيبنسار أمهر مني .
وعلق اتدلارنك مبتسماً : محظوظ الرجل ، الذي ستعدين له الطعام .
وابتسمت كيدلوغسك ، وقد احمرت وجنتاها ، فقال اتدلارنك : لا أظن أنكما هنا ، منذ فترة طويلة .
وردت نيبنسار بشيء من الجفاء : منذ بداية الربيع .
وقال اتدلارنك ، وهو يدفع قطعة أخرى من البطة في فمه : ها هو الصيف يكاد ينتهي .
وقالت كيدلوغساك ، وهي تأكل : جئنا من قرية ليست بعيدة عن هذا الجبل .
وقال اتدلارنك : أما أنا فقد ولدت في قرية بعيدة ، تقع قريباً من ساحل البحر .
وبعد أن انتهوا من تناول الطعام ، جلسوا قرب الموقد ، الذي كانت النار ماتزال مشتعلة فيه ، وقال اتدلارنك : الجو بدأ يبرد .
وقالت كيدلوغساك : الصيف يكاد ينتهي .
ونظر اتدلارنك إليها ، وقال : الشتاء في هذا المكان من الجبل شديد القسوة .
وبدل كيدلوغساك ، ردت نيبنسار قائلة : نحن متعودتان على البرد ، وكوخنا صغير ودافىء .
وتمتم الشاب بصوت لا يكاد يسمع : كوخكم .
وتبادلت الأختان نظرات متسائلة ، فقال اتدلارنك : الحقيقة إنني صياد ، وجئت لأقضي طرفاً من الشتاء ، في هذا الكوخ .
وقالت نيبنسار مستنكرة : ماذا تقول !
ولاذت كيدلوغساك بالصمت متكدرة ، فقال اتدلارنك : ربما لا تعرفان ، أنني عشت في هذا الكوخ سنين عديدة ، مع أبي ، وكان صياداً معروفاً .
وصمت لحظة ، وقد وجمت الأختان ، ثم تابع قائلاً بصوت هادىء : أبي بنى هذا الكوخ ، وقد عشت فيه طفولتي ، وسنين عديدة من صباي .
وحدقت نيبنسار فيه ، وقالت بشيء من الحدة : هذا ما تقوله أنت .
ونهرتها كيدلوغساك قائلة : نيبنسار .
فقال اتدلارنك بصوت هادىء : صدقي أو لا تصدقي ، لكن هذه هي الحقيقة .
وهبت نيبنسار واقفة ، وقالت : لعلك ستطلب منا ، أن نغادر الكوخ ، ونتركه لك ، بعد أن نظفناه ، ورممناه ، وجعلناه صالحاً للسكن .
ونهض اتدلارنك ، وقال : لا طبعاً ، الكوخ سيبقى ملكاً لكما ، وستبقيان فيه ، مادمتما هنا .
وأطرقت كيدلوغساك رأسها ، وقالت نيبنسار بصوت متردد : حان وقت النوم .
ولاذ اتدلارنك بالصمت ، ثم اتجه إلى الخارج ، فنظرت إليه كيدلوغساك ، وخاطبته قائلة : الجو بارد الآن في الخارج ، أين ستنام ؟
وحدقة نيبنسار فيها غاضبة ، فقال الشاب بصوت هادىء : هناك كهف قريب ، طالما لجأ إليه الصيادون ، سأذهب وأنام فيه .
وخرج اتدلارنك من الكوخ ، وأغلق الباب ، ووقفت الأختان ، الواحدة في مواجهة الأخرى ، تتبادلان نظرات قلقة حائرة .

" 11 "
ـــــــــــــــــــــــ
ارتفع صوت ذئب ، تردد صداه في الوديان العميقة : عوووو .
واعتدلت كيدلوغساك في فراشها ، وتمتمت : ذئب !
وردت نيبنسار : إنه بعيد .
وقالت كيدلوغساك : يبدو أنه قريب من الكهف .
وسحبت نيبنسار الغطاء على رأسها ، دون أن ترد بكلمة واحدة .
ومرة ثانية ، ارتفع صوت الذئب ، وتردد صداه في الوديان العميقة : عوووو .
وخرج اتدلارنك من الكهف ، وحربته في يده ، وتراءت له كيدلوغساك ونيبنسار ، وفكر أن كلاهما أو إحداهما ، وربما تكون كيلدوغساك ، خارج الكوخ ، وقد تتعرضان للخطر .
ونهضت كيلدلوغساك ، وأخذت السطل ، وقالت : سأذهب إلى النبع ، وأجلب بعض الماء .
ورفعت نيبنسار الغطاء عن رأسها ، وقالت بنبرة مزاح : خذي " صقر " معكِ ، وإلا أكلك الذئب ، وخلصني منك .
وضحكت كيدلوغساك ، وهي تفتح الباب ، وقالت : لن تتخلصي مني ، فنحن روح واحدة .
وحين وصلت كيدلوغساك إلى النبع ، والسطل في يدها ، و" صقر " يركض وراءها ، فوجئت بوجود اتدلارنك ، وكان يقف تحت شجرة قريبة .
فلوحت كيدلوغساك له مبتسمة ، فقال ملوحاً : تمنيت أن أراك هنا ، عند النبع .
فقالت كيدلوغسك : ها أنت تراني .
واقترب اتدلارنك منها ، وقال : طاب يومكِ .
فردت كيدلوغساك بصوت فرح : طاب يومكَ .
وقال اتدلارنك : سمعت عواء الذئب ، فخرجت من الكهف ، وحربتي معي ، لقد خفت عليكما .
وقالت كيدلوغساك : أنا أيضاً خفت عليك ، حين سمعت عواء الذئب .
فقال اتدلارنك : مهما يكن ، لا تخافا ، فأنا قريب منكما ، وسترياني قربكما عند الحاجة .
وصمت اتدلارنك لحظة ، ثم تساءل : كيف حال أختك العصبية ؟
وابتسمت كيدلوغساك ، وقالت : إنها بخير .
وتأهب اتدلارنك للابتعاد ، وهو يقول : سأذهب إلى الصيد ، أنتما اليوم ضيفتاي ، والطعام طبعاً سيكون من إعداد أيديكم الماهرة .
وابتسمت كيدلوغساك ، وقالت : حسن ، سأنتظر صيدك ، في الكوخ .
مضى اتدلارنك ملوحاً : إلى اللقاء .
ولوحت كيلدوغساك له ، وقالت : إلى اللقاء ، انتظرك ، لا تتأخر ، أرني صيدك .
وعادت كيدلوغساك إلى الكوخ ، تحمل سطلاً مملوء بالماء ، والكلب " صقر " يهرول وراءها ، وحين دخلت الكوخ ، اعتدلت نيبنسار في فراشها ، ونظرت إليها صامتة ، ووضعت كيدلوغساك سطل الماء جانباً ، وقالت : جئت بالماء .
ونهضت نيبنسار ، وقالت : تأخرتِ ، حتى ظننت أن الذئب قد أكلك .
وغالبت كيدلوغساك ابتسامتها ، وهي تقول : سأعد طعام الفطور .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : رأيت اتدلارنك قريباً من النبع .
وهمهمت نيبنسار : هم م م م ، هذا يفسر حمرة تفاحتي خديك .
وقالت كيدلوغساك : البرد شديد في الخارج .
وضحكت نيبنسار ، وقالت : لنفطر ، ونذهب إلى الصيد .
ونظرت إلى كيدلوغساك ، وأضافت : لعلنا نرى ، صدفة ، ذلك الاتدلارنك ، في مكان ما من الغابة .
وردت كيلوغساك قائلة : لا داعي لأن نذهب اليوم إلى الصيد ، فاتدلارنك قد دعانا إلى العشاء ، مما سيصطاده من الغابة بنفسه .
وابتسمت نيبنسار ، وقالت : يبدو أنه اصطاد غزالاً .




" 12 "
ــــــــــــــــــــــ
على مائدة العشاء ، كان للشواء أرنباً وبطة وطائر تلمجان ، وجلسوا ثلاثتهم ، يتناولون الطعام صامتين ، وقلما كان أحدهم يرفع نظره إلى الآخر .
وبعد العشاء ، نهضت نيبنسار ، وقالت : سأتمشى إلى النبع ، وسأبقى قليلاً هناك .
ونظرت كيدلوغساك إليها ، وقالت : نيبنسار ..
وقاطعتها نيبنسار قائلة : ابقي أنتِ هنا مع ضيفنا اتدلارنك ، لن أتأخر كثيراً .
واتجهت نيبنسار إلى الخارج ، فقالت كيدلوغساك : خذي صقر معكِ .
وخرجت نيبنسار ، وأغلقت الباب ، دون أن تردّ بكلمة ، ونهض اتدلارنك ، وقال : أخشى أن تكون نيبنسار ، منزعجة مني لسبب من الأسباب .
وردت كيدلوغساك قائلة : لا ، بالعكس ، إنها تقدرك ، وتكن لك كلّ الاحترام .
ونظر اتدلارنك إليها ، وقال : على غير عادتها ، كانت صامتة على العشاء .
وبادلته كيدلوغساك النظر ، وقالت : في الحقيقة ، كلنا كنا صامتين .
وران فوقهما صمت ثقيل ، قطعه اتدلارنك قائلاً : الجو طيب في الخارج ، لنتمشَ قليلاً .
وخرجا من الكوخ ، وراحا يتمشيان بين الأشجار ، وقالت كيدلوغساك : كانت وليمة فخمة ، وطيبة ، نشكرك عليها .
وابتسم اتدلارنك ، وقال : كانت وليمة مشتركة ، أنا اصطدت ، وأنتما أعددتما الطعام .
ورمقته كيدلوغسان بنظرة خاطفة ، وقالت : أنت صياد ماهر ، يا اتدلارنك .
وابتسم اتدلارنك ، وقال : وأنتما ماهرتان في إعداد الطعام .
وتوقف ، والتفت إلى كيدلوغساك ، وأضاف قائلاً : ليتنا نتفق على توزيع العمل بيننا ، أنا أصطاد ما نحتاجه ، وأنتما تعدان الطعام .
وأطرقت كيدلوغساك رأسها ، وقالت : فكرة جيدة .
ثم نظرت إليه ، وقالت : تسمح لي الآن ، عليّ أن أعود إلى الكوخ ، وأعيد تنظيفه وترتيبه .
فقال الشاب : تفضلي .
ومضت كيدلوغساك ، وهي تقول : نلتقي .
فقال اتدلارنك : إلى اللقاء .
ومشى اتدلارنك مبتعداً أيضاً ، لكنه بدل أن يعود إلى الكهف ، اتجه إلى النبع ، وهناك رأى نيبنسار ، تجلس على حافة الماء ، وصقر يربض إلى جانبها .
وما إن اقترب منها ، حتى وقف صقر نابحاً ، والتفتت نيبنسار ، ورأت اتدلارنك يتجه إليها ، فنهرت الكلب قائلة : كفى ، يا صقر .
وكفّ صقر عن النباح ، وربض جانباً ، فاقترب اتدلارنك منها ، وقال : نيبنسار .
وأحست نيبنسار ، أن لديه ما يريد أن يقوله لها ، فقالت : المنظر جميل هنا ، تفضل اجلس .
وجلس اتدلارنك إلى جانبها ، وصمت لحظة ، ثم قال : نيبنسار ، أنت تعرفين كم أقدرك .
ولاذت نيبنسار بالصمت ، فتابع اتدلارنك قائلاً : لكن لكيدلوغساك مكانة خاصة عندي .
فقالت نيبنسار : أعرف .
ولاذ الشاب بالصمت ، فنظرت نيبنسار إليه ، وقالت : وكذلك كيدلوغساك ، وهي فرحة بذلك .
ونهضت نيبنسار ، ومضت متجهة إلى الكوخ ، وهتفت بالكلب : هيا يا صقر .

" 13 "
ــــــــــــــــــــــ
تمدد اتدلارنك في فراشه ، داخل الكهف ، في أعلى الجبل ، وتراءت له نيبنسار ، وما دار بينهما من حديث ، قرب النبع .
وتمددت نيبنسار في فراشها ، داخل الكوخ ، وتراءى لها اتدلارنك ، وحديثها معه ، لكن أختها كيلدوغساك قطعت عليها شريط تفكيرها ، حين خاطبتها قائلة : يبدو أنك متعبة ، يا نيبنسار .
وردت نيبنسار باقتضاب : نعم .
وفكر اتدلارنك أن نيبنسار ، ربما لم ترتح للأمر ، فهي متعلقة بأختها كيدلوغساك ، ولا تستطيع الابتعاد عنها لحظة واحدة ، وهي كما قالت ، أكثر من مرة ، نحن روح واحدة في جسدين .
وقالت كيدلوغساك : لقد تأخرت عند النبع .
فقالت نيبنسار : التقيت اتدلارنك هناك .
وهمهمت كيدلوغساك : هم م م م .
وقالت نيبنسار : وحدثني عنكِ .
ونهض اتدلارنك من فراشهه ، عندما تناهى إليه وقع أقدام خارج الكهف ، ثم سمع كيدلوغساك ، أم هي نيبنسار ؟ تناديه : اتدلارنك .
وأسرع اتلارنك مجيباً : نعم .
وخرج من الكهف ، وإذا كيدلوغساك ، أم هي نيبنيار ؟ تبتسم له ، فقال مرحباً : أهلاً كيدلوغساك .
وضحكت الفتاة ، وقالت : لستُ كيدلوغساك ، بل نيبنسار .
وحدق اتدلارنك فيها ، وهي تضحك ، وقال : أنت تعبثين بي .
وقطبت الفتاة ، وقالت : انظر .
فقال اتدلارنك : آه ، عرفتك الآن ، أنت لست كيدلوغساك .
وقالت الفتاة : أنت محق ، لنتمشَ قليلاً .
ومشت نيبنسار ، ومشى اتدلارنك إلى جانبها صامتاً ، فقالت نيبنسار بصوت هادىء : جئت أتحدث إليك صراحة بشأن أختي كيدلوغساك .
فقال اتدلارنك : عفواً إذا كنت قد أخطأت في الحديث معك عند النبع .
فقالت نيبنسار : لا ، أنت لم تخطىء ، وأريد الآن أن أستكمل الحديث حول كيدلوغساك .
وصمت اتدلارنك لحظة ، ثم قال : إنني أعرف عمق علاقتك بكيدلوغساك ، وأتفهمها ، وسأرضى بكل ما ترينه مناسباً لك ولأختك كيدلوغساك .
فقالت نيبنسار : لا يرضيني غير سعادة كيدلوغساك ، وكذلك سعادتك أنت .
ونظر اتدلارنك إليها ، وقال : حسن ، يا نيبنسار ، قولي ، إنني أصغي إليكِ .
وبعد حين ، عادت نيبنسار إلى الكوخ ، وحدقت كيدلوغساك فيها ، وقالت : أين كنتِ ؟
فردت نيبنسار : كنتُ أتجول .
ولاذت كيدلوغساك بالصمت ، وهي مازالت تحدق فيها ، فاقتربت نيبنسار منها ، وأخذتها بين ذراعيها ، وضمتها إلى صدرها ، وتساءلت كيدلوغساك : ما الأمر ، يا نيبنسار ؟ أخبريني .
فقالت نيبنسار : إنني جائعة ، ومتعبة ، وفرحة ، أريد أن آكل من طبخ يديك ، وأنام .

" 14 "
ــــــــــــــــــــ
أفاقت كيدلوغساك متأخرة بعض الشيء ، وأرادت أن تنهض من فراشها ، لتعد طعام الفطور ، وتأكل هي وأختها نيبنسار ، ثم تذهبان إلى الغابة .
لكنها حين اعتدلت متثائبة ، لم تجد نيبنسار في فراشها، وتلفتت حولها ، لعل نيبنسار ذهبت إلى النبع ، لتجلب بعض الماء ، لكن السطل كان في مكانه من الكوخ ، ترى أين نيبنسار إذن ؟
ربما ، وعلى غير عادتها ، خرجت من الكوخ تتمشى ، وإن كان البرد شديداً ، والشمس بدت وكأنها تميل إلى الغروب ، مهما يكن ، فنيبنسار هي نيبنسار .
ونهضت كيدلوغساك ، وأعدت طعام الفطور ، حتى إذا عادت نيبنسار من جولتها ، وستعود إن عاجلاً أو آجلاً ، ستجد طعام الفطور جاهزاً ، فتتناولاه معاً ، ثم تخرجان للتجول في الغابة .
وانجزت كيدلوغساك إعداد الطعام ، ووضعته فوق المائدة ، على أمل أن تعود نيبنسار ، فتفطران معاً ، ومرّ الوقت ، ومرّ ، لكن نيبنسار ، ويا للعجب ، لم تعد ، ترى أين ذهبت هذه المجنونة ؟
وفتحت كيدلوغساك الباب ، وخرجت من الكوخ ، فنهض الكلب " صقر " من مربضه ، وأسرع أليها يتشممها ، ويلحس وجهها بلسانه اللزج الدافىء ، عجباً ، إن نيبنسار لا تذهب إلى أي مكان ، إلا ومعها الكلب "صقر " ، وتلفتت حولها ، دون جدوى ، لا أثر لنيبنسار في أي مكان .
وتوقفت كيدلوغساك ، ورفعت رأسها ، وهتفت بأعلى صوتها : نيبنسار .
وتردد هتاف كيدلوغساك فيما حولها ، من قمم عالية ، ووديان عميقة ، نيبنسار .. نيبنسار .
واتنتظرت كيدلوغساك أن ترد نيبنسار عليها ، لكن دون جدوى ، فرفعت رأسها ثانية ، وهتفت بصوت أعلى : نيبنسار .. نيبنسار .
ومرة ثانية ، تردد الهتاف فيما حولها ، من قمم عالية ، ووديان عميقة ، نيبنسار .. نيبنسار .
وانتظرت كيدلوغساك ثانية ، أن تردّ نيبنسار عليها ، وبدلها ردّ اتدلارنك ، بصوت يشوبه الحزن والتأثر : مهلاً ، يا كيدلوغساك .
وحدقت كيدلوغساك فيه ، فتوقف على مقربة منها ، وقال : نيبنسار لن ترد عليكِ .
وتمتمت كيدلوغساك مذهولة : ماذا !
وتابع اتدلارنك قائلاً : لقد رحلت ، يا كيدلوغساك .
وبذهول أشد ، قالت كيدلوغساك : رحلت !
فقال اتدلارنك : لقد جاءت البارحة عندي إلى الكهف ، وحدثتني .
وقالت كيدلوغساك : أنت تقلقني .
وأخذ اتدلارنك يديها بين يديه ، وقال : لا تقلقي ، يا كيدلوغساك ، إنما فعلت ذلك من أجلنا .
وبدت دهشة حدّ الذهول ، في عيني كيدلوغساك ، فتابع اتدلارنك قائلاً بصوت متأثر : قالت أريد لكما الراحة والسعادة ، أنت وأختي كيدلوغساك .
وصمت اتدلارنك لحظة ، ثم قال : لقد عرفت ما بيننا من عاطفة ، وأرادت لها أن تكمل ، فتركت لنا الكوخ ، وعادت إلى القرية .
وسحبت كيدلوغساك يديها من بين يدي اتدلارنك ، ثم استدارت ببطء ، ودخلت إلى الكوخ ، دون أن تنطق بكلمة ، وأغلقت عليها الباب .
لبثت كيدلوغساك ، داخل الكوخ ، ساعات وساعات ، وخلال تلك الساعات الطويلة ، لبث ادلارنك ينتظر في مكانه ، على أحرّ من الجمر .
لم يفكر أن يطرق عليها الباب ، وكذلك لم يفكر أن يمضي مبتعداً ، أو يأوي إلى الكهف ، ولم يفكر إلا أن ينتظر ، وإن كان لا يعرف ماذا ينتظره .
وأخيراً فتح باب الكوخ ، وخرجت كيدلوغساك ، وخطت بضعة خطوات ، ثم توقفت ، وتمتمت بصوت متحشرج : اتدلارنك .
وعلى الفور ، أسرع اتدلارنك إليها ، وأخذها بين ذراعيه ، وضمها إلى صدره ، فقالت كيدلوغساك بصوت تبلله الدموع : اتدلارنك ، عزيزي ، أرجوك أن تفهمني .. وتسامحني .
وصمتت لحظات ، ثم تابعت قائلة : أنت تعرف كم أقدرك ، وأعزك ، وأحبك ، لكنني في الحقيقة ، لا أستطيع الحياة بدون أختي نيبنسار ، نحن كما قالت ، وأقول ، جسدان في روح واحدة .
وصمتت ثانية ، وانسلت من بين ذراعيه ، ثم قالت : عندما تظهر الشمس ، من أقصى الشرق غداً ، سأغادر الكوخ ، وأذهب إلى أختي .. نيبنسار .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من


.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري




.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب


.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس




.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد