الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إعادة التأسيس لمفهوم الدولة الحديثة في لبنان

حسن خليل غريب

2023 / 6 / 13
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


من أجل تجاوز أزمات الفراغ في مؤسسات الدولة الرأسية

ليس من قبيل التكرار أن نعيد التذكير بغياب مفهوم الدولة في لبنان بسبب من عمق التناقض حوله بين مكوناته الطائفية. وإن أزماته المتلاحقة والمتواصلة، هي نتيجة استحالة الاتفاق حول هذا المفهوم بين تلك المكونات. وكل منها تشدُّ لحافه على مقاييسها.
وإذا تعددت المفاهيم وتشعَّبت بين شتى أطيافه السياسية والطائفية والولائية الخارجية، يبدأ مفهوم الدولة المائعة التي لا استقرار آمن لحدودها، ولا ضوابط سياسية أو قانونية لإدارتها، ويعمُّ الانفلات ويستفحل، وتنتشر الفوضى في مفاصلها وتصبح كالعربة التي تجرها مجموعة من الأحصنة كل منها يجرها باتجاه معاكس للآخر، فلا شك بأن مصيرها، في مثل هذا الواقع، لن يكون أقل من التشظي والتفتيت في نهاية الأمر. وهذا ما يئن فيه لبنان تحت وطأته، ويعاني فيه اللبنانيون أشد المعاناة وأكثر الأمراض خطورة في تاريخه المعاصر.
تبادرت إلى ذهني تلك المقدمة أثناء حضوري لمناقشة سياسية حول الوضع في لبنان، والتي فيها لم تأخذ المناقشات منحى التعميق في البحث عن الحلول، وخِلْتُ وأنا أستمع إلى ما يدور أنني أحضر ندوة مطلبية تركَّز البحث فيها حول أفضل السبل لمعالجة الوضع المتردي والمنهار، والتي كان غياب الدولة فيه المشهد الأبرز. وكأن الحل لتلك المشكلات يأتي فقط من بوابة إيصال الأكفأ والأكثر نزاهة من بين المرشحين لملء الفراغ في مواقع المسؤولية الأولى.
ولكن بالوقوف للبحث عما إذا كان هذا الحل يكفي لمعالجة أزمة لبنان الحالية، تبادر إلى ذاكرتي مرحلة الحكم الشهابي، الذي ملأ فيه فؤاد شهاب موقع رئيس الجمهورية، واعتبر عهده على الرغم من استفحال وسائل القمع التي مارستها أجهزة المخابرات اللبنانية (الشعبة الثانية)، هو العهد الأكثر كفاءة ونزاهة وموضوعية في حل مشاكل اللبنانيين المطلبية. ولكن تعميق الشرخ الوطني لاحقاً، في عهد خلفه سليمان فرنجية، وإنتاج حرب أهلية لم تبق ولم تذر من إنجازات العهد الشهابي شيئاً، أثبت أن عوامل الكفاءة والنزاهة لا تكفي وحدها لبناء الدولة. وفيما لو تمت معالجة العامل الديموقراطي فيه، فسوف يكون عاجزاً عن إنتاج الدولة الوطنية الحديثة. لأن أسباب الحرب الأهلية لم تكن مطلبية، بل كانت للتناقض الحاصل بين مكونات لبنان الطائفية حول مفهوم الدولة.
خلصت إلى نتيجة مفادها أن الانطلاق لمعالجة النواحي المطلبية، في المرحلة الراهنة، لن يتم بوضع برنامج إصلاحي، حتى ولو بلغ القمة في علميته وموضوعيته. لأن من كان السبب في غيابه أو تغييبه، هو غياب مفهوم الدولة عند شتى أحزابه الحاكمة. والذي بغيابه أصبح لكل حزب منها مفهومه الخاص بحيث يتناقض مع مفهومه عند شركائه في الحكم.

هل الإصلاح المطلبي بداية للحل؟
أذكِّر القارئ بداية لألفت نظره إلى أهمية هذا الإصلاح، وملحاحيته عند الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، بأنني لتوي وأنا أكتب المقال، كنت أتصفح آخر أخبار الواتس آب، فمرَّ أمام عينيَّ شريط للأخبار، تضمَّن فيما تضمَّن عنواناً عن رواتب الموظفين، فتركتها كلها وفتحت الرابط الذي ينقل خبراً عن مصير رواتب موظفي القطاع العام، ورحت أقرأه بنهم، لكي أعرف مقدار ما سأقبضه آخر الشهر لأنه ذي علاقة بلقمة عيش العيال.
هذه الطرفة، لم تعد طرفة بل أصبحت واقعاً يعاني منه حتى أكثر اللبنانيين ثقافة ووعياً، وهذا يدل على مدى الخساسة التي انحدرت إليها (الطغمة الحاكمة) في أن يتلهى اللبنانيون بالتفكير في رغيف الخبز، ويعفون تلك الطغمة من النقِّ والنقد، ليهنأوا هم وعيالهم والملتحقين بهم بمباهج الحياة وملذَّاتها.
راجياً أن لا يكون سرد الطرفة قد أعاق سلاسة المقال، لذلك ومن أجل إبداء وجهة نظر حول السؤال الذي طرحته بنفسي على نفسي؛ ووضعت فرضية في تلك الحالة تقول: إذا كان لا بد من الدخول إلى حل أزمة لبنان الاقتصادية والاجتماعية لأن الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني أصبحت مهددة بالمجاعة والموت مرضاً، فهذا لا يبرر أن نهمل، ضرورة الإضاءة على أن أسباب الأزمة الحالية ليست سؤاً في الإدارة الفنية فحسب، ولكنها أيضاً من أسوأ الإدارات السياسية على الإطلاق، لأن القائمين على الدولة ليسوا برجال دولة، وإنما هم شلل من العصابات التي استولت فيها على سفينة الدولة، التي بدلاً من تحصينها وحمايتها من الغرق، أحدثت فيها الكم الهائل من الثقوب لتتسرب إلمياه إلى داخلها، وهم مهما عملوا فلن ينقذوها من الغرق المحتوم.
إن العمل الجاد من أجل رفع سيف الجوع عن أكثر من 85% من الشعب اللبناني يُعتبر حاجة ملحة قبل أي شيء آخر، ولكن هذا الحل لا يعدو كونه مؤقتاً لأن الأزمة ستعود إلى الواجهة بعد زمن يسير، بعد أن تعيد فيها الأحزاب الحاكمة تمركزها على كراسي السلطة. ولأن العمل مرتبط بإكمال سد الفراغ في المؤسسات الدستورية من أعلى الهرم، أصبح انتخاب رئيس للجمهورية أمراً ملحاً، وعلى الرئيس أن يستكمل سد الفراغ بتشكيل حكومة على معايير الحد الأدنى من المواصفات التي تؤهلها لوضع حد للانهيار السريع في البنى الاقتصادية والاجتماعية بما يُبعد اللبنانيين عن شفير الهاوية.
ولكن، لو تذكَّرنا أن من هدم بنية الدولة، وحوَّلها إلى دولة فاشلة مائعة، لن يجيد إعادة بناء ما قام بتهديمه، هذا إذا أراد إعادة البناء؛ فكيف لو كان مصرَّاً على إنتاج السلطة التي تعتبر الدولة بقرة حلوباً تُدِرُّ عليه اللبن والعسل؟
ما بين بناء الدولة الحديثة التي تعمل من أجل سعادة مواطنيها، وبين دولة المحاصصات الطائفية التي تعمل من أجل مصالح النخب الطائفية، بون شاسع لايمكن المقاربة بينهما، وهذا يعني أنهما خطَّان مستقيمان لا يمكنهما أن يلتقيا. وهذا أيضاً يقود إلى الاستنتاج بأن الخيار الصحيح هو العمل من أجل تعزيز الخيار الأول وتثبيته، والعمل على تهديم الخيار الثاني وإسقاطه. وإن محاولات التوفيق بينهما لهو تجهيل لمبدئية الخيار، وتلفيق منطقي للمزاوجة بين ضدين لن يلتقيا.
ولكن.. الوصول إلى إصلاح سياسي واقتصادي يعيد دورة الحياة إلى طبيعتها سوف يستهلك السنوات الطويلة. تلك السنوات لن تعيد إصلاح ما أفسدته الأحزاب الحاكمة، بأقل من معالجة الفتوق والصدوع التي صنعتها أياديها. والمعالجة الجذرية تتم عبر إسقاط الأرضية المائعة للسلطات الحاكمة الآن.

دولة مائعة الأرضية لا يمكنها أن تستمر في الحياة:
وإذا كان من غير المرتجى أن نراهن على تغيير سريع في بنية أحزاب السلطة الحاكمة بسبب أكثر من عامل ثقافي وأخلاقي، ستقع على عاتق النخب الثقافية الوطنية، وكذلك على عاتق حركات القوى المدنية، أي على كل من التزم بمبادئ انتفاضة 17 تشرين، ويأتي في طليعة هؤلاء وأولئك أحزاب التغيير ذات التجارب العريقة في تاريخ لبنان؛ تقع على عاتقهم مسؤولية تعميق ثقافة التغيير ووسائله على أكثر من صعيد. وعليهم جميعاً، وبغض النظر عن اختلافاتهم في التفاصيل والوسائل، تقع مسؤولية حماية أهداف التغيير العابر للطوائف وأحزاب الطائفية السياسية والولاءات للزعامات القديمة والحالية.
وأما عن قوى التغيير، التي نالت ثقة الناخبين في انتخابات العام 2022، والتي خرقت جدار برلين الذي بنته أحزاب السلطة، فيقع على عاتقهم مسؤولية الالتزام بشعاراتهم التي على أساسها محضهم الشعب ثقته.
ولكي لا نحشرهم في زوايا المستحيل، على قاعدة أن لا نقوم بتحميلهم أكثر مما هو واقعي، ولكن على أساس أن لا نعفيهم من مسؤولية ما تسمح به إمكانياتهم ودورهم، وذلك يتم في إدامة الكشف عن جرائم أحزاب السلطة السابقة التي لا يجوز أن تسقط بمرور الزمن، وجرائمهم اللاحقة التي لن يتورعوا عن ارتكابها طالما بقوا على كراسي المسؤولية.
وإذا كنا من المقتنعين باتباع المرونة في تسهيل إملاء الفراغ في المؤسسات الدستورية الرسمية والامتناع عن تعقيد إنجازها بما له علاقة بمنع عرقلة إدارة ملفات شؤون اللبنانيين المعيشية، نرى في المقابل أن المرونة لا تجوز في معرض إصلاح القضايا المصيرية من جهة، وفي الضغط من أجل استعادة وحدة الدولة بشتى مفاصلها على قاعدة الاتفاق على مفهوم موحد لبنائها يلتزم بها كل اللبنانيين.
إننا نركز على هذا الهدف المركزي والثابت، لأننا لا نفهم وجود دولة من دون اتفاق أبنائها على وحدة مفاهيم قيامها. ولعلَّنا نستطيع إيجازها بالعناوين التالية:

1-الطائفية السياسية الوجه الآخر للحركات الدينية السياسية:
مهما تفنَّن الطائفيون السياسيون بتجميل الغلاف الخارجي لحركاتهم، فإنهم يشكلون جسر العبور الآمن للحركات الدينية السياسية العابرة أهدافها للحدود الوطنية. ولأن تلك الحركات متعددة المذاهب التي تزعم أنها تعتقد بدين واحد، فإنها سوف تستغل حركات الطائفية السياسية المنتشرة في الأقطار العربية، ومنها لبنان، من أجل تسويق منتجاتها العقائدية واستثمارها في مشاريعها العابرة للأوطان.

2-إستحالة المقاربة بين الطائفية السياسية ومفهوم الدولة الوطنية الحديثة:
جاءت نظرية بناء الدول الحديثة في الغرب، لتردم الحُفر والمتاريس بين المذاهب المسيحية، وتترك للكنيسة حقلها في الإرشاد الروحي، على أن تتفرَّغ السلطات الزمنية لزرع حقلها في الجانب الدنيوي. ومنعت رجال الكنيسة من التدخل في الشأن الدنيوي لأن تشريعاتها الكنسية تعمل على تعميق الخلاف بين مواطني الدولة الواحدة، لهذا جاءت تشريعات الدولة المدنية لتردم عوامل التفتيت المذهبي، بحيث يتساوى المواطنون بالحقوق والواجبات. وإن أي عمل للمقاربة بين التشريعين لهو تأجيل للأزمة التي ستتحول إلى جمر ملتهب بعد إزالة الرماد الذي كان يغطيها

3-الانتقال من مرحلة اللادولة إلى مرحلة الدولة الحديثة:
أصبح من الثابت أن الطائفية السياسية، المنهج السياسي الذي انبنى عليه النظام اللبناني، يشكل مفهوماً مضاداً ومتناقضاً وطارداً لوحدة الدولة ومؤسساتها الدستورية.
كما أصبح من الواضح أيضاً، أن انهيار السقوفات المطلبية حصل في ظل إمساك أحزاب الطائفية السياسية بكراسي السياسة والاقتصاد والاجتماع.
وأصبح واضحاً أيضاً وأيضاً، أن الاختلاف حول مفهوم الدولة بين مكونات لبنان الطائفية يشكِّل العامل الأهم في استمرار الدولة المفككة والمائعة.
نقول خلاصة، أن لبنان لن يسير على طريق الخلاص من دون أن يعود رجل الدين إلى هيكله، وأن يحتل رجل الدنيا موقعه في حقله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في تل أبيب وسط مطالبات بإسقاط


.. نقاش | كيف تنظر الفصائل الفلسطينية للمقترح الذي عرضه بايدن؟




.. نبيل بنعبد الله: انتخابات 2026 ستكون كارثية إذا لم يتم إصلاح


.. بالركل والسحل.. الشرطة تلاحق متظاهرين مع فلسطين في ألمانيا




.. بنعبد الله يدعو لمواجهة الازدواجية والانفصام في المجتمع المغ