الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغربة في رواية -على الجانب الآخر من الشرق- مفيد نحلة

رائد الحواري

2023 / 6 / 14
الادب والفن


الغربة في رواية
"على الجانب الآخر من الشرق"
مفيد نحلة
رواية تتحدث عن حالة الغربة التي يعيشها "زين العسلي" بعد أن ترك حي الأشرفية في عمان إلى أمستردام، حيث يجد عالم مختلف، لا يستطيع التكيف معه، يحاول أن يتعايش مع الوضع الجديد متجاوزا الكثير من الأعمال التي لا تتناسب وأخلاقه ولا ثقافته، فيقرر العودة من حيث أتى إلى حي الأشرفية.
هذا ملخص لموضوع الرواية فكرتها، لكن هناك الطريقة واللغة والأدبية التي قدم بها الأحداث، فهما يتفوقا على الفكرة حيث أن القارئ يتناول الرواية على جلسة واحدة رغم أنها تقترب من المائة والخمسين صفحة، وهذا يشير إلى قدرة السارد على جذب المتلقي، وأيضا، إلى اللغة السلسة والممتعة التي قدمت بها الرواية.

أسباب الهجرة
للهجرة أسباب كثرة تدفع الإنسان للمغادرة وترك الوطن، من هذه الأسباب: "جاء مشروعك منفردا في أنماء الوطن.. وحين أردت الوظيفة رأيت طابورا يصطف لنيلها.. خمسون وأكثر.. مئة وأكثر..
الله..
طارت الوظيفة
أخذوها منك ومن غيرك بالواسطة
غادرت المكان مع غيرك من حملة الشهادات.. بحث عن عمل، في مقهى.. في مزرعة، في منجرة ولو باجر قليل.. وجدته في ملهى ليلي .. رأيت الأثرياء ينثرون أوراقهم النقدية على الفتيات بلا حسب" ص10، إذا "زين"شاب وفي أول عطاءه، يحاول أن يجدله (مكان) في الوطن، متجاوزا شهادته العلمية، ويريد أن يعمل، أن يكون منتجا، لكن هناك من يستحوذ على خيرات وعلى الوطن نفسه، بحيث لا يبقى للآخرين أي شيء يقتات عليه.
وهنا يكون السارد قد طرح موضوع الفساد، (الواسطة) ودورها في سرقة المواطن، وفي الخراب الذي ينتشر في الوطن، فالواسطة تعنى أن صاحبها غير مؤهل لهذا المكان/للمركز/للوظيفة مما يجعله (حجر عثرة) أمام خدمة المواطن بالشكل اللائق، وحجر عثره أمام تطوير الوطن.
ورغم أن الغربة صعبة وصعبة جدا، لما فيها من إذلال للإنسان:
"لا ترحل
تجلس بين أهلك خير من اللهاث وراء الوهم
يشده الرحيل إلى أين.. لا يدري
قالوا له..
فماذا أنت فاعل في الغربة؟!
تخدم في البارات.. تجلي الصحون في المطاعم
تحشر جسدك في "كرفان" ميت يلتصق بقناة مياه آسنة
أومأ برأسه .. لم يتكلم" ص12، نلاحظ أن السارد يجمع أكثر من صيغة في السرد، صيغة السارد العليم، الخارجي، وصيغة تداعي ضمير المخاطب، وهذا التنوع هو ما يثير المتلقي يجعله يشعر وكأنه أمام أحداث تجري أمامه، وحتى أنه يشارك السارد في إقناع "زين" بالتراجع عن الهجرة.
وبعد أن يصل أمستردام ولا يجدها (الفردوس المفقود) الذي يبحث عنه، يعمل مقارنة بين واقعه فيها والواقع في الوطن حيث (يستولي صاحب الواسطة على الوظيفة والمركز): وهل عندي حذاء.. كل الأطفال من عمري بلا أحدية.. يلعبون الكرة حفاة.. الأطفال هنا مدللون، تأخذهم السيارات وتحملهم القطارات إلى المنتجعات، في "الأشرفية" يتكوم الأطفال حول سيارة يتخذون من هيكلها مظلة واقية من الشمس أو المطر حتى يدركهم الجوع"ص139، اللافت في هذا المقطع أن السارد يعري من يقبل أن يستخدم الواسطة ومن يقوم بالواسطة، فهو من خلال الإشارة إلى أحوال الأطفال في الأشرفية وفي أمستردام يوجه نقدا لاذعا ـ لكن بطريقة غير مباشرة ـ لمن يقود/ يقدم على الواسطة، وعندما استخدم "السيارات والقطارات" مقابل "سيارة يتخذون من هيكلها" أكد على الهوة التي تفصل من يعمل لوطنه ممن يعمل لشخصه، فهناك إنتاج وكثرة وخير يعم الناس/المجتمع، وفي المقابل قلة ومشوهة وغير صالحة للعمل.
الغربة
أول خذلان وجده "زين" كان من "حسن الجيزاوي" حيث تركه وحيدا يواجه عالم لا يعرف عنه شيئا: " ألم يقل لي ذات مرة بأن الدنيا أن لم تسعك.. ستكون عيني.. ها قد ضاقت الدنيا على سعتها.. فأين العينان يا (حسن الجيزاوي)..
(عد إلى نفسك يا زين) لن ينفعك أحد في هذه الديار، وأمامك طريقان .. أما أن تكون صابرا مثابرا، أو تنجرف في الشر فتهلك إلى الأبد" ص36 و37، فكرة الغربة واضحة، لكن الأهم من الفكرة الشكل الذي قدمت فيه، حيث نجد صيغة أنا السارد: "ألم يقل لي ذات" وصيغة تداعي ضمير المخاطب: "عد إلى نفسك يا زين" وكأن ثنائية صيغة المخاطب انعكاس لحالة الصراع التي يمر بها "زين" وأيضا تعكس حالة (الصراع) الذي يمر به، فبدا وكأنه (ملخبط) مضطرب لا يقدر حسم أمره.
ومن الصعاب التي واجهة "زين" حصوله على إقامة وعمل قانوني، فكان أمامه هذا الخيار الذي طرحته عليه "كاتيا": " إذ كانت تمتلك المال فالأمر سهل.. تتزوج صوريا بعقد في البلدية لثلاث سنوات.. وإن كنت فقيرا فبإمكانك أن تعشق.. والعشق يحتاج إلى مهارات.. وأقرب الطرق أن تتزوج من امرأة تكبرك سنا.. أو امرأة مومس ملت حياة الاغتراب، هذه هي الخيارات، فأيها يليق بك.." ص62، مثل هذا الموقف يعد من أصعب المواقف التي تواجه المغترب، فكيف له أن يقترن بمومس، وهو الذي لا يقبل الاقتران حتى المطلقة ولا بالأرملة، وكيف له أن يقبل ممن تكبره سنا علما بأن ثقافته تطلب ممن هن أصغر منه؟ كل هذا يجعل حياة المغترب صراعا وجحيما لا يطاق.
يحاول "زين" الهروب إلى الأمام متخطيا أفكاره وثقافته فيقرر الاقتران ممن هن متاحات أمامه: "الأيام تقترب، لم يتحقق له الزواج.. رفضته (لاسي) وترفضه الأخريات، خير له أن يذهب إلى (هارلم) فربما يكون له حظ هناك" ص112، رغم أن هذا يتعارض مع ما يحمله من أفكار، إلا أن الغربة تفرض عليه أن يقوم بهذه الخطوة فلا مجال أمامه إلا أن يقترن بامرأة حتى يحصل على أوراق قانونية تأهله لممارسة حياته بطريق عادية/سوية: "ماذا داهك يا زين.. تربط مصيرك في هذا البلد مع (ليزلي) حتى إذا لم تكن قادرا على تحقيق طموحاتها تطردك كقط أجرب" ص124، نلاحظ أن السارد يستخدم تداعي ضمير المخاطب عندما يكون الصراع على أوجه عند "زين" وهو بهذه الصيغة يقرب القارئ أكثر من معاناته، حيث أن هذه الصيغة تمثل (كشف) المعاناة الداخلية التي تمر بها الشخصية.
الصراع
الغربة تشكل ثقل على الإنسان حيث لا يجد مجتمع ولا بيئة تتناسب وطبيعة تفكيره وإلى المعايير الاجتماعية الأخلاقية التي تربى عليها، من هنا عندما يقدم الإنسان على الاغتراب فهو يقوم بمغامرة صعبة وشاقة. يتزوج "زين" من "ميرا" ويكون له أبنا منها، لكنه يبقى يعاني من فقدان الهوية، هل هو "زين" ابن الأشرفية أم مجرد مهاجر إلى أمستردام؟: "وطن الروح يتجذر في البلاد والنشأة .. أما الجسد فله أن يحل على أي جغرافيا فوق هذه الأرض، لا تدع روحك تغادر وطنك مهما ابتعدت.. فسر السعادة، يكمن في التواصل الروحي عبر الأثيرية الناقلة إلى عروق الأرض وأنهارها وسفوحها..
يود لو يرحل في مواسم الهجرة إلى الأشرفية يعانق روحه هناك، يقبل والده في أزقتها" ص196، نلاحظ أن تعدد صيغة السرد تعكس حالة الصراع الذي يمر به "زين" من هنا يكون السارد قد أوصل فكرة الصراع من خلال فكرة المشهد، ومن خلال تعدد صيغ السرد، وهذه التقنية هي ما ميزت الرواية وجعلتها سهلة التناول وخفيفة على المتلقي.
المعاملة مع المغترب/المهاجر لم تكن حسنة من المقيمين، لهذا تعرض "زين" لمضايقات كثيرة ومعاملة سيئة: "تكررت الإهانات له، ظل يحبس مشاعره القلقة في أعماقه ليظل قريبا من طفله، لكنها حيت تمادت انقلب على ذاته الطيبة، رأى طفله في "دبلن" صورة شاحبة، وطفله الآخر يفتح ذراعيه، يصرخ يناديه..." ص200، هذا المشهد كان بداية النهاية لرحلة "زين" في هولندا، حيث بدأ يصل إلى فكرة استحالة القبول بحياة لا تنسجم مع طبيعته ولا مع ثقافته، وبما أنه تذكر والده في الأشرفية وكيف أن علاقة الأبوة هناك علاقة حميمية/ طبيعية وليست كما هو الحال في هذا المكان الذي يحرم الأب من ابنه: طبعا على هذا الأرض يكون الولد لأمه، فإذا عجزت عن رعايته يكون الولد للدولة" ص201.
طبيعة "زين" وثقافته الشرقية تحول دون استسلامه وترك ابنه للآخرين، لهذا يصمد ويصبر يحاول أن يبقى قريبا من ولده ولكن الأيام تمر بثقلها وواقعها القاسي عليه: " خمس سنوات مرت من عمره كالحلم، شقاء السنين حولته إلى دمية مهملة في شوارع أمستردام يحوم حول نفسه فلا يرى إلا السراب، تركز همه على أن يكون ولده وزوجته في الأشرفية إلى جانبه" ص201، اللافت في هذا المشهد أن السارد يمهد القارئ للتعرف على أسباب عودة "زين" والدوافع التي جعلته يتراجع عن هجرته، فهو لم يجد المكان ولا البيئة ولا الأشخاص الذين يناسبونه، حتى في كونه أب لم يجد نفسه، فكيف له البقاء بهذا المكان وهذا المجتمع؟ وبما أن له بديل زوجة وابنا في الأشرفية فقد كانا هما عامل الجذب له وإعادة التفكير فيما آلت إليه أحواله في هولندا.
ونجد الصراع حتى قبل أن يحسم أمر عودته فكيف سيقابل الناس وأسئلتهم وتساؤلهم حول غيابه والعودة بخفي حنين: "لكن كيف أعود وأنا لا شيء..
ماذا أقول للناس هناك، سنوات الغربة، وزمن الرحيل، وأيام التشرد..
لا ... سأبقى هنا..
وقف يدور حول نفسه، ظل شارد الذهن لساعات.. حتى إذا أقبل الليل حمل حقيبته وغادر الشقة" ض242، أعتقد أن تلازم مشاهد الغربة والصراع الداخلي الذي مر به "زين" أعطى الرواية لمسة إنسانية حية، بحيث أقنعت المتلقي أنه أمام شخصية تتألم وتعاني بصورة حقيقية وليست متخلية، فكان يتعاطف معها رغم ما بدا منها من (استسلام) وقبول بالأمر الواقع، وجاء قرار عودته كتكفير عما بدر منه من خذلان لزوجته ولأبنه ولأسرته.
الرواية من منشورات دار الينابيع للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2004.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان