الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيت الفن في عمان

رشيد عبد الرحمن النجاب
كاتب وباحث

(Rasheed Alnajjab)

2023 / 6 / 14
الادب والفن


أنبأني نظام التموضع العالمي (GPS) أنني وصلت لوجهتي، وأن المكان المقصود يقع إلى اليسار، ترجلت من السيارة، ولم أكد أفعل حتى كانت السيدة الفنانة نهلة السلطي قد خفَّت إلى استقبالي عند السيارة مرحبة بأجمل عبارات الترحيب، وقد ارتدت زيا أنيقا يفصح عن اعتزازها بالتراث الفلسطيني برغم ما يبدو عليه من مظاهر الحداثة.
التقيتها ذات صدفة في نشاط ثقافي في عمان تناول موضوع الجذور بطريقة ما، وما أن انتهت الكلمة الرئيسة والمداخلات، حتى اقتربت إحدى الحاضرات وعرفتني باسمها "نهلة السلطي"، وأخبرتني برغبتها في اطلاعي على مجموعة أخرى من الجذور في بيتها بعد أن أدخلت عليها من روحها وفكرها ما جعلها تشكل رموزا وطنية، تحمل رسائل عميقة المعنى ومتنوعة الأساليب.
قالت: "لدي في البيت نماذج أخرى للتعامل مع الجذور، وتفاصيل كثيرة عن الوطن، والعائلة، والأمومة..... والحياة "
تم التواصل، وتم الترتيب، وها هو اللقاء في خطواته الأولى التي أعود إلى تفاصيلها. تلك التفاصيل التي ترافق الزائر مع أولى خطواته نحو بيت غارق في خضرة بهية نضرة، ينبئ الداخل إليه بأنه معتنى به في كل مساحة ممكنة خارج البيت وفي داخله، ولن أتحدث عن تفاصيل النباتات، بخضرتها، وأزهارها، وبهائها، فتلك تفاصيل ربما تتطلب مقالا خاصا للوفاء بحقها.
ولعله من المدهش للقارئ أن يعلم أن مضيفتنا الفنانة نهلة هي التي صممت هذا البيت والحديقة المحيطة به، وفقا لنظرة فنية راعت فيها الكثير من التفاصيل الصغيرة رغم بعدها عن الهندسة المعمارية سواء في الدراسة أو في العمل، من هذه التفاصيل على سبيل المثال مرايا توزعت في أرجاء البيت بطريقة توفر إمكانية كشف الداخل للبيت من زوايا مختلفة. وغيرها مظاهر وتفاصيل عديدة تدهش الزائر إزاء هذا الاهتمام المتناهي بأدق التفاصيل.
تضم الحديقة بين خضرتها جذورا، وجذوع أشجار تم تنسيقها بروح فنية مبنية على نظرة فلسفية عميقة، تقدم للزائر رسائل متعددة في معانيها الوطنية، والقومية، والروحانية، رسائل ترتكز إلى مبادئ فكرية وأخلاقية راسخة الجذور، يعززها ويربط بين معانيها شغف فني راق حفز صاحبة هذا البيت على سعي دؤوب للعناية بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة، ويجسد هذا الشغف معبدها ومحرابها، وفلسفتها التي تمدها بهذا القدر من القوة والعزم على المثابرة وابتكار ما هو جديد، وما يشكل إثراء للرسائل التي تبثها هذه المقتنيات التراثية للزائر، ولأهل البيت على حد سواء.
"هذه هي القدس" قالت وهي تشير إلى زاوية من الحديقة كأنها تدعوني لزيارتها، حيث استقر فيها جذع شجرة هائل، وجدته في إحدى البراري بالقرب من عمان، وتطلب نقله إلى البيت ثم إعداده، ليصبح على هيئته الحالية عملا دؤوبا ومثابرة عز مثيله، وهي برغم ذلك لا تمل من وصف هذا العمل بقدر عال من الفخر والاعتزاز ؛ وفي تفاصيل هذا المجسم تتحدث الفنانة نهلة السلطي عنه فتشير إلى ما يشبه المسيح المصلوب في إشارة إلى كنيسة القيامة، وفي موقع غير بعيد على نفس المجسم، ثمة حجر تتوسطه خرزة زرقاء أشارت إليه على أنه يمثل قبة الصخرة المشرفة، وتناثرت ثلاث وثلاثون أيقونة تحمل اسم "الله" على مواقع مختلفة من المجسم، رأت في العدد ما يشير إلى عدد سنوات عمر السيد المسيح بينما دلت الألوان المستخدمة في صناعة الأيقونات، على الألوان المستخدمة في زخرفة قبة الصخرة المشرفة، وهكذا دأبت الفنانة السلطي على الجمع بين رموز الديانتين الإسلامية والمسيحية في غير موقع من هذا البيت كما سيتضح لاحقا.
ضمت الحديقة مجسما آخر يتحدث عن فلسطين، يتكون من جذع شجرة ثبتت عليه قضبانا حديدية صدئة من بقايا الأبنية يشير إلى البيوت المهدمة في جنين ورفح، وجاءت هذه القضبان في مجموعتين؛ تتكون الأولى من أربعة قضبان في إشارة إلى اسم مدينة جنين المكون من أربعة حروف، في حين ضمت المجموعة الأخرى ثلاثة قضبان في إشارة إلى مدينة رفح، وقد ثبت إلى كل واحد من هذه القضبان عدد من الأشكال المعدنية على هيئة ورق الشجر، وأعطت لهذا المجسم عنوانا يقول: "من جنين إلى رفح، حديد حطامنا يورق، ونحن لن نموت".
وفي موقع آخر من الحديقة كان مجسم ذا دلالة يشير إلى انتفاضة الشعب الفلسطيني في جذع شجرة على هيئة "المقليعة “التي استخدمها أطفال فلسطين في الانتفاضة الأولى، لرشق جنود الاحتلال ومركباتهم، وقد ثبت طرفاها بسلاسل حديدية استقر في وسطها حجر شبيه بالحجارة المستخدمة في منجنيق صلاح الدين كأنها تقول: “نحن نبحث عن صلاح الدين"
وكما اهتمت بمدينتها القدس، لم تنس أن تعبر عن اهتمامها بالعراق، فثمة في مكان قريب من مجسم القدس يقف مجسم يتكون من جذع شجرة تم تثبيته مقلوبا، بحيث تكون الجذور إلى أعلى والساق إلى الأسفل في محاكاة لمنطق مقلوب في سيرورة الأشياء في الزمن الراهن، وقد قيدت هذا المجسم بالسلاسل، وأشارت إليه ممثلا لحصار العراق والعقوبات المفروضة عليه.
ولم تكن الجولة في الحديقة لتكتمل دون المرور بمجسمين يمثلان العائلة والأمومة وهما أيضا من جذوع الشجر، أما عن العائلة فهو جذع شجرة وضعته نهلة الفنانة على نحو رأت فيه الأب، والأم والطفل، ورأت فيه من منظور آخر يمثل سيدة حبلى تقف إلى جانب رَجُلِها.
يمثل المجسم الآخر الأمومة، وهو أيضا من جذوع الشجر استدعى كثيرا من العمل المقترن بفكر عميق عن الأمومة والحياة، فقد أبرزت من خلاله شكل الخلية ونواتها فيه التي ترمز إلى الولادة والحياة وارتباط هذا كله ارتباطا وثيقا بالأم، وثمة تمثال لأم تحتضن ولدها وقد قام فوق "خرزة البئر" في إضاءة على معان مشتركة تربط الأمومة ببئر الماء يتربع على قمة هذه المعاني ارتباط الماء بالحياة ومعان أخرى عميقة.
وقبل أن ندلف البيت أشارت السيدة الفنانة نهلة إلى مئات من الصخور الطبيعية بأشكال وألوان متعددة من الأردن، جباله، غاباته، سفوحه، وِدْيانه والصحارى وتضم أحافير تعود إلى ملايين السنين، وهناك إلى ذلك عينات من الحجارة والأحافير من البلدان التي زارتها في قارات العالم. وتعددت اهتمامات هذه الفنانة، وباتت جزءا من تفاصيل حياتها اليومية، تطالعها بشغف، تستدعي قصصها والأماكن التي أحضرتها منها من حول العالم، وإضافة إلى الحجارة والأحافير والمجسمات التي سبقت الإشارة إليها، تقوم بجمع أشكال من المفاتيح، لعل أبرزها ذلك الذي يخص بيت والد زوجها في منطقة الدهيشة قرب بيت لحم، إضافة إلى مفاتيح أخرى من دول عربية وأجنبية متعددة ليس عجبا أن تكون فلسطين في مقدمتها، وللمفاتيح ما لها من معان في الوجدان الفلسطيني.
وما أن يدخل الزائر البيت من بابه الرئيس حتى يجد إلى يمينه حوضا أرضيا من النباتات الداخلية، وإلى جانبها نافذة يعتليها قوس وقد تزينت النافذة والقوس بزجاج ملون جميل، ويلفت نظر الزائر حائط إلى جانب النافذة انتظمت فوقه صلبان بألوان، وأشكال متعددة من القدس وبيت لحم ولا يملك الزائر أن يتخطى الدهشة التي تتشكل وهو يطالع لوحتين جاورتا مجموعة الصلبان تحملان آيات وسور من القرآن الكريم (آية الكرسي وسورة الإخلاص)، وكما في مجسم القدس حرصت السيدة الفنانة نهلة بفكرها العميق على التعبير عن تجاور الديانتين المسيحية والإسلامية في محاكاة للتركيبة الديموغرافية للقدس، مدينتها التي نشأت فيها وتنسمت هواء عابقا بالتآخي بين أبناء الديانتين.
وتطالعك في مدخل البيت لوحة زيتية بديعة بألوانها ومضامينها رسمتها الفنانة نهلة السلطي عام 1975 متأثرة بخبر قرأته في إحدى الصحف بعنوان "بيروت تحترق" فتحركت العاطفة وتشكل الشعور الفني لوحة تصور امرأة جاثية مكبلة بالقيود، محاطة بدائرة من اللهب واسمت اللوحة "حرقا حتى الموت"، فمن القدس إلى العراق وبيروت تعكس هذه الروح الفنانة هموما وطنية وعربية حيثما تجسدت المعاناة.
وفي زاوية أخرى من قاعة الجلوس في الطابق الأرضي ثمة قارورتان كبيرتان من الزجاج، وقد زخرفتا بخط عربي جميل، وألوان بديعة، أما الأولى فقد تزينت بسورة الفاتحة بينما تزينت الأخرى بأية الكرسي، ولهما إضافة إلى موقعهما في صدارة البيت مكانة لا تقل أهمية في روح هذه الفنانة وقلبها.
ثم أقبلنا على ممر طويل لا تكاد تشك وأنت تعبره بأنك في إحدى صالات المتاحف، لوحات تنتشر على الجانبين بعناية، منها ما هو شخصي، يمثل صاحبة البيت، زوجها، بناتها، والديها، وآخرين، ومنها ما رسمته بريشتها، مضيئة أفكارا وتصورات تستقر فلسطين في الصدارة منها، ومن أبرزها. صورة لرجل يعتمر الكوفية الفلسطينية البيضاء وأخرى لرسام عراقي تعكس الهجرة الفلسطينية وأثرها سيما في عيون الصغار. ويصل هذا الممر إلى المطبخ الذي لم يخل بدوره من أدوات تشير إلى التراث تحيط بدرج لولبي معدني صاعد إلى الجزء العلوي من البيت.
أما الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي فلم يكن كأي درج آخر، فقد تزينت جدرانه بقطع من التطريز من التراث الفلسطيني التي انتظمت بتشكيل بديع نابع من نظرة فلسفية وفنية عميقة، رافقها أيقونات للسيدة مريم العذراء من بلاد متعددة ذات دلالات تراثية وفنية متنوعة. وثمة في زاوية أخرى من الجدار المرافق للدرج صلبان جمعتها من عدة أماكن دينية من دول متعددة. إضافة إلى صورة لجامع هنا أيضا.
نحن الآن في الطابق الثاني من البيت المتحف، مكان يتسم بالسعة، والإنارة الطبيعية وتفاصيل يؤخذ الزائر بجمالها وحسن تنسيقها، ويحتار من أين يبدأ،
وكما كان للجذور أمكنة خارج البيت، فثمة جذع شجرة مهيأ للاستخدام كطاولة. يجاوره على الحائط لوحان من ألواح الدراس يمثلان تشارك المرأة والرجل في العمل في الأرض وفي كل ما يتصل بتفاصيل الحياة اليومية وأسمت هذا الاقتران "حبايب الأرض"
على بعد خطوات قليلة إلى اليمين، يرقد جزء من مطحنة الحبوب التقليدية التي كانت تديرها النساء في البيوت، وقد ثبتت إلى حامل معدني أكسبه بعدا جماليا متميزا، ثم هذا المكان الذي تتربع فيه حقيبة بنية اللون تعود إلى أربعينيات القرن العشرين، وقد كانت هذه إحدى الحقائب الأربعة التي رافقت العائلة في رحيلها يوم النكبة عام 1948، وأما ما بداخلها فصور ورموز تذكارية تعود إلى ما قبل رحيل العائلة من بيتهم في "البقعة الفوقا " في الجنوب الغربي من القدس، وقد تمكنت إحدى الجارات من لملمته من الشارع بعد ان تعرض بيتهم في القدس للنهب من قبل المحتلين الغزاة. ثم أرسلته للعائلة لاحقا.
في زاوية متسعة من هذه الصالة ثمة مجلس يحتل ركنا فسيحا منها، ويميل في تصميمه إلى الطابع التراثي التقليدي، وقد تميز بألوانه الزاهية المستوحاة من الألوان المستخدمة في التطريز الفلسطيني، وبعد أن تبادلنا بعض الأحاديث ذات العلاقة بالمكان والمقتنيات، تابعنا إلى الزاوية الأخرى من الغرفة. وكان هذا الجزء حافلا بالمقتنيات المهمة بحيث يمكن القول أنها ربما تحتاج إلى مقال، بل ربما تحتاج كتابا خاصا، كغيرها من أجزاء هذا المتحف الفلسطيني ولن أكون مبالغا، فقد انتظمت في هذه الزوايا مجموعات من المقتنيات منها؛ أباريق قهوة وشاي بأشكال وأحجام متعددة، ماكنات خياطة قديمة، آلة الطباعة اليدوية التي تعتمد صف الحروف، آلات حاسبة متعددة الأشكال، ونماذج لمكوى الملابس الذي يعمل على الفحم بأشكاله التقليدية، وتلك التي تزينت ببعض الأشكال الزخرفية الجميلة.
إلى جانب ما تقدم انتشرت في زوايا متعددة من البيت أماكن لعرض أجزاء من الأثاث القديم المطعم بالصدف في تشكيلات جميلة عرضت على شكل مرايا وخزائن وغير ذلك، وضمت المجموعات كذلك تشكيلات من العملات القديمة من فلسطين وغيرها.
وبعد فهذه محاولة لتوثيق هذه الزيارة الجميلة في تعبير عن شدة إعجابي بما رأيت، قد تتضمن هذه المقالة إسهابا في بعض الأماكن، وإيجازا في أخرى، وتفاصيل في بعض المحلات وفقا لما رسخ في الذاكرة من معلومات ولا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر والتقدير للسيدة نهلة السلطي على ما بذلته من مجهود في جمع هذه المقتنيات وتنسيقها، وإثرائها بما تتركه من أثر في نفس الزائر. وقبل ذلك وبعده تلك الدعوة الكريمة لي لزيارة بيت الفن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل