الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متى سيمتلك العرب مشروعهم العربي الخاص؟

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

(Abdul-hamid Fajr Salloum)

2023 / 6 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


كل الأحاديث عن عودة اللُّحمة العربية، والأخوّة العربية، بعد مؤتمر القمة العربية الثاني والثلاثون في جدّة، يبقى كلاما خطابيا إنشائيا عاطفيا ليس إلا، ما لم يكُن هناك مشروعٌ عربيٌ واحدٌ من المُحيط إلى الخليج، بين كافة الدول العربية الأعضاء في الجامعة، وذلك بتطوير مفهوم الجامعة التقليدي الكلاسيكي، الذي لم يعُد قادرا على مواجهة المشاريع الغريبة (سواء من داخل المنطقة أم من خارجها) ولا مواجهة تحدِّيات الزمن الراهن، ولا الأطماع الأجنبية، ولا ضمان الأمن القومي العربي المُشترك، ولا تلبية طموحات الشعوب العربية..
**
مشاريع التنمية الوطنية داخل كل دولة عربية، على أهميتها وضروريتها، ومهما بلغت من تقدُّم، وتطوير، وتحديث، ورفاهية، ومهما بلغ ارتفاع ناطحات السحاب، ومشاريع الجُزر البحرية، ومشاريع قلوب اوروبا وعيونها، وأحلام المعيشة الاستثنائية، وإعادة ابتكار مفهوم الإستدامة، لا يمكن لوحدها، أن تكون بديلا عن المشروع العربي الشامل والمُتكامِل، الذي تطمح له الشعوب العربية.. ولن تقف أو تصمُد في وجه المشاريع الغريبة التي تتطلّع لابتلاع هذه المنطقة..
فتبقى أكبر دولة عربية، ضعيفة أمام جيرانها من الدول الأجنبية الأخرى.. ولا يمكن أن تكون نِدّا لها، والوقوف بوجهِ أطماعها، بِمفردها، ولا حتى بمساعدة دولة عربية أخرى.. الأمر يحتاج إلى مشروع عربي كامل ومُتكامِل..
**
هناك من جادلوا مؤخّرا، بعد مؤتمر القمة الـ 32 في جدّة، والمُصالحة السعودية الإيرانية، أن رياح (ويستفاليا) إسلامية قادمة على المنطقة، مع تصفير كامل لمشاكلها.. وأرى في هذا الكلام مبالغة كبيرة..
فلا توجد أي رياح من هذا القبيل، وتطبيع العلاقات، والتعاون في مجالات التنمية والمواصلات، وسكك الحديد، وغيرها، مع دُول الجِوار الأجنبية، أو غير العربية، لا يمكن أن تكون ويستفاليا إسلامية..
فالأمر مُختلف مائة وثمانون درجة.. لأن ويستفاليا ( أو صلح ويستفاليا، أو اتفاق ويستفاليا بين الدول الأوروبية عام 1648) لم يضع حدّا فقط للحروب والصراعات الدينية التي أنهكت أوروبا (وكتبتُ عنها كثيرا) وإنما وضعَ أولا:
أُسُسا لقيام أنظمة عَلمانية تفصل بين الدين والدولة، والحدّ من هيمنة الدين الذي تجسّد بسلطة الكنيسة في أوروبا وتحالُفها مع الأنظمة الشمولية الملكية والإمبراطورية الحاكمة المُطلَقة..
وثانيا، مهّد لقيام أنظمة حكم جديدة تبنّت نهج الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وتداوُل السُلطة، واحترام حرية التفكير والتعبير، والرأي الآخر، والحق في الإختلاف..
وثالثا، منحَ الشعوب السُلطة الكاملة في اختيار قياداتها على كافة المستويات، الرئاسية والبرلمانية والنقابية والخَدَمية (البلديات) عبر صناديق الاقتراع، ومحاسبتهم، وإزالتهم من السُلطة، عبر الصناديق أيضا، حينما يفشلون بالقيام بواجباتهم إزاء شعوبهم، وعدم تحقيق طموحات هذه الشعوب، أو ينحرفون عن الأهداف المرسومة..
وتطورت هذه الأنظمة عبر التاريخ إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم من أنظمة حُكم ديمقراطية برلمانية ليبرالية..
فأين دول المنطقة من مضامين ومُخرجات اتفاقية ويستفاليا؟
لا يوجدُ وجها للمقارنة.. فالعَلمانية تتمُّ مُحاربتها، ويُتّهمُ المؤيدون لها، والمُطالِبون بها، بمائة تُهمة وتُهمة من أعدائها.. بل يقولون أن حل كل المشاكل يكون بتطبيق الشريعة..
ومفاهيم الحرية وحقوق الإنسان ممنوع الحديث عنها في العديد من الدول، أو النشاط لأجلها، ودون ذلك السجون والإعدامات، واتهامات الخيانة..
والدين يتعمّق في تفكير المُجتمعات بشكلٍ ممنهج ومُخطّط، ويزداد التعصُّب الديني بين الطوائف والمذاهب، والصورة أمامنا، في العالم الإسلامي..
وشيوخ الدِّين يزداد تأثيرهم وسُلطتهم في المجتمعات وداخل مؤسسات الدول، وهؤلاء هُم من يُثيرون الفِتن لأن العقل الديني هو بالضرورة عقل إلغائي وتمييزي، فكل من يختلف معهُ يُنظَر لهُ أنهُ يخالف شرع الله وأوامر الله.. وكل شيخ يتحيّز إلى جانب أبناء طائفتهِ ودينهِ ومذهبهِ، ويعتبرهم الأصح، ولا يمنح الآخرين ذات الحقوق إن كان في السُلطة..
وها هي نماذج الدول الدينية (والإمارات الدينية) أمامنا في العالم الإسلامي، هل هي مُستقرّة وشعوبها متّحدة ومتماسكة، وتعيش باستقرار ورفاهية وحرية، أم هناك صراعات عنيفة داخلها، وإقصاء للرأي الآخر بشتى السبُل: من السجون، للإعدامات، للملاحقات، للتهميش والإقصاء، أو الهروب من هذه الأوطان؟.
**
تحدّثتُ في الماضي بمقالات عديدة عن تجربة أوروبا مع اتفاقية هلسنكي عام 1975 ، أو وثيقة هلسنكي، في زمن الحرب الباردة بين الشرق والغرب، التي دعت إلى المساواة في السيادة واحترم حقوق السيادة الوطنية لكل دولة، وحصانة حدودها ووحدة وسلامة أراضيها، وحل الخلافات بالطرق السلمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما فيها حرية التفكير والمعتقدات، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وتنفيذ الالتزامات والتعهدات الدولية بما ينسجم مع ميثاق الأمم المتحدة، وأحكام القانون الدولي..
بل ومع القانون الدولي الإنساني، ومع قانون حقوق الإنسان..
وأشرتُ أن هذه المنطقة كانت بحاجة منذ زمنٍ إلى وثيقة شبيهة بوثيقة هلسنكي، تُنظِّم العلاقات بين دولها، وتضعُ حدّا لهذه الفوضى، ولا يبقى الأمر خاضعا لشريعة الأقوى.. أو شريعة الغاب..
**
وكتبتُ كثيرا بالماضي عن المشاريع القائمة في المنطقة، التركي، والإيراني، والإسرائيلي، والأمريكي.. ويُمكن اختزال المشروعين الأمريكي والإسرائيلي بمشروع واحد، إن صحّ التعبير، فمصالح إسرائيل هي مصالح أمريكا، وأمن إسرائيل هو أمن أمريكا، ورؤية إسرائيل هي رؤية أمريكا (وإن بدا أنهم اختلفوا قليلا حول الحل في فلسطين) ولكنها مسرحيات وتوزيع أدوار..
وإسرائيل تُعامَل كما تُعامَل أية ولاية أمريكية، لِجهة التزام أمريكا المُطلق بأمنها وتفوقها، وتسليحها، وتمويلها، وحمايتها، والوقوف إلى جانبها، بكل الإمكانات..
لن أُعيد ما كتبتهُ بالماضي عن أهداف هذه المشاريع الناشطة في المنطقة(فهي موجودة على غوغل) وكلها مشاريعا تخدمُ أصحابها، ولا تخدمُ الشعوب العربية، ولا المصالح العربية، بل يمكن القول أنها تطمع كلها بالثروات العربية، والهيمنة على البُلدان العربية، والتوسُّع الجيو سياسي، تحت عناوين عديدة، وجعلها دولا مُلحَقَة، لأنها الأضعف..
للأسف الدول العربية كلها تدورُ في فلك هذه المشاريع، بِما فيها المشروع الإسرائيلي، الذي يهدف بالمرحلة الأولى للتوسع، ثم التطبيع مع كافة الدول العربية ومن ثمّ الهيمنة الاقتصادية والعسكرية، وغيرها، وهذا ما يحصل..
وفي آخر التقارير فإن دولة عربية واحدة، مِمن طبّعت في الموجة الأخيرة، اشترت عام 2022 رُبع مبيعات إسرائيل من الأسلحة، والبالغة بالمُجمل 12 مليار ونصف..
**
لا يُمكن للعرب أن ينهضوا من هذا الوضع المأساوي المُحزن، إلا بمشروع عربي يُواجه كل مشاريع دول المنطقة القوية، وذلك بِمُحاكاة النموذج الأوروبي، في تكوين اتحاد أوروبي (اتحاد كونفدرالي) وتتحول الجامعة العربية، إلى مُفوضية عربية أشبهُ بالمفوضية الأوروبية، أي حكومة تنفيذية، تتمثل فيها كافة الدول الأعضاء.. وتطوير البر لمان العربي بحيث تصبح له صلاحيات شبيهة بصلاحيات البرلمان الأوروبي، ويُنتخَبُ أعضاؤهُ بشكل ديمقراطي ومُباشَر من الشعوب العربية، ويكون عدد ممثلي كل دولة بِحجم عدد شعبها..
والاستفادة من كافة تجربة الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، وهيئاتهِ وهياكلهِ.. كما المجلس الأوروبي، ومجلس الإتحاد الأوروبي، ومحكمة الاتحاد الأوروبي، والبنك المركزي الأوروبي.. والعملة الأوروبية الواحدة.. الخ..
ما الذي يمنع العرب من فِعل ذلك؟.
ماذا يمنع أن يكون هناك اتحاد كونفيدرالي شبيه بالاتحاد الكونفيدرالي الأوروبي بين 27 دولة أوروبية، مع بقاء الدول الوطنية بكامل سيادتها واستقلالها وحدودها وسياساتها الداخلية، وتَمنحُ كل دولة للمفوضية الأوروبية ما تراهُ من صلاحياتها الوطنية، أو القومية؟. أي لا تُنزَع الصلاحيات انتزاعا، وإنما كل دولة هي من تُحدد الصلاحيات التي يمكن أن تتخلى عنها للاتحاد الأوروبي..
وتُحترمُ بداخلهِ (أي الاتحاد الكونفيدرالي العربي) كل العقائد والمذاهب والأديان والأعراق والقوميات، والاختلافات.. وحقوق الجميع..
**
الإتحاد الأوروبي العملاق الذي نراهُ اليوم، بدأ بِفكرةٍ بسيطة عام 1955 بتأسيس جمعية الفحم والفولاذ الأوروبية، ثم تطور وتطور، وكان الأعضاء يزدادون عاما بعد الآخر، إلى أن وصل لهذا الرُقي.. وباتت الجُغرافية الأوروبية هوية وطنية، وينتقل مواطنيه في كافة دوله بلا تأشيرة..
هل توجد روابط بين شعوب أوروبا أكثر من الروابط بين الشعوب العربية؟.
**
الكونفدرالية العربية لن تنتقص من مكانة أية دولة، بل تُقوِّيها وتُعزِّزها.. والكونفدرالية في دولة الإمارات العربية المتحدة، لم تنتقص من مكانة أية إمارة، وإنما قوّتها وعزّزتها، وكاملت بينها.. وإن كانت لا ترقى لمستوى الإتحاد الكونفيدرالي الأوروبي..
وحُلُم كل مواطن عربي من المحيط للخليج أن يرى هكذا مشروع عربي يتحقق، وأن يُصبِح للعرب هيبتهم، وتنتهي هذه الشرذمة وتقوقُع كل دول عربية حول ذاتها، فهذا لن يبقيها إلا ضعيفة وعاجزة عمّا يُحيط بها من تحدّيات خارجية..
العرب يمتلكون مقومات هائلة، اقتصادية، وبشرية، وثروات باطنية، وموارد طبيعية، ومساحات جغرافية شاسعة ومتنوعة، وسواحل طويلة، وتحَكُّم بمضائق بحرية حيوية وهامة جدا.. الخ..
ولكن كل هذا لن يمنحهم القوة والمنَعَة ما لم يتّجهوا حالا لتأسيس مشروعهم العربي المُشترَك ، الذي تحدثتُ آنفا عنه، في مواجهة المشاريع الأخرى في المنطقة.. أي تحويل الجامعة العربية إلى اتحاد كونفيدرالي.. وليس وحدة شاملة، كما كانت الطروحات في الماضي، فهذه أبعد من الأحلام، وفوق الخيال والتصورات..
فهل سيتحقق هذا الحُلم؟.
بداية الألْف ميل تبدأ بخطوة.. فمتى سنرى أول خطوة؟. أم أنّ هذا مستحيل بسبب الاختلاف الجذري بين أنظمة الحُكم الأوروبية، وأنظمة الحُكم العربية، والاختلاف في العقول والثقافات ونمط التفكير؟.
يعني إلى متى سيبقى العرب ضعفاء ومطموع بهم، وأقصى ما يجمعُهم مؤتمر قمّة، يصدرُ عنهُ بيانا ختاميا، ويُعيدون فيه التأكيد على ذات القرارات التي طالما أكّدوا عليها من عشرات السنين؟..
طموحات الشعوب العربية أكبر من ذلك بكثير.. كلها تنظر للتجربة الأوروبية بإعجاب وتحلُم بأن تتكرّر هذه التجربة بين دولها.. وشخصيا عشتُ هذه التجربة من داخلها حينما خدمتُ في سفارة بلادي في بروكسل(عاصمة هذا الاتحاد) وكُنا نحضر الاجتماعات في المفوضية الأوروبية، في إطار الشراكة الأوربية المتوسطية، التي نصَّ عليها إعلان برشلونة، الذي تمّ اعتماده في تشرين ثاني / نوفمبر 1995 .. بين دول ضفّتي المتوسط، شمال المتوسط وجنوبهِ ..
وتحولت صيغة العلاقة بعد هذا الإعلان (وسورية كانت مُشارِكة به) من صيغة تعاوُن إلى صيغة مُشارَكة، وأُبرِمت اتفاقات الشراكة بين كل الدول العربية المتوسطية والاتحاد الأوروبي.. وشملت الشراكة الأمنية والسياسية، والشراكة الاقتصادية والمالية، والشراكة الثقافية والاجتماعية..
سورية توصلت مع الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق شراكة، ولكن تأجّل ولم يتم التوقيع عليه لبعض الأسباب..
**
هل أجمل من أن يتنقّل المواطن العربي من البحرين وقطَر إلى المغرب وموريتانيا بِلا تأشيرة دخول، وإنما على جواز سفرهِ العربي، كما يتنقّل المواطن الأوروبي من فنلندا والسويد في الشمال إلى أسبانيا والبرتغال في الجنوب بِلا تأشيرة؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - إتفقوا
عدلي جندي ( 2023 / 6 / 16 - 19:01 )
ع ألا يتفقوا
ولكن
إذا بطّلنا نحلم نموت

اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون بدء تنفيذ -المرحلة الرابعة- من التصعيد ضد إس


.. مصادرنا: استهداف مسيرة إسرائيلية لسيارة في بنت جبيل جنوبي لب




.. تصاعد حدة الاشتباكات على طول خط الجبهة بين القوات الأوكرانية


.. مصادر عربية متفائلة بمحادثات القاهرة.. وتل أبيب تقول إنها لم




.. بروفايل | وفاة الداعية والمفكر والسياسي السوري عصام العطار