الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مولاي عبد العزيز: الفاتح بأمر الابداع

علي مفتاح

2023 / 6 / 15
الادب والفن


أطرق عمق هذه الذاكرة باحثا عن كلمة عن نغمة ،عن موقف انساني يوقظ بداخلي لوعة السؤال : من كان و لمن كان ؟ كيف لهذه اللغة المتراقصة حروفها أن تكتب عن مبدع ينحدر من سلالة بدأت تعلن انقراضها ، عن شاعر ينتمي لجيل أتعب المسافات و لم يتعب ، عن فنان ينتسب لعمالقة كوكبنا الفني التراثي ، عن انسان يعي جيدا معنى الانتماء للإنسان في كل تفاصيله الغامضة المعقدة و الشفافة . فالتاريخ تاريخه لن يعيد نفسه اطلاقا ، هو المتفرد بصيغة الجمع ، أو ذلك الفرد الجماعي ،أو تلك الجماعة المنفردة و المتفردة ،المتعدد الأوجه الفنية ، الخصب المعطاء ،و كما الشمس التي تمنح الدفء و لا تنتظر من يتبرع لها بحضن دافء ساعة ارتطامها بالبحر وقت الغروب ، ظل يمشي مع قلة من المشائين ، يلتقط و منذ نعومة وعيه الشقي الباحث عن التفرد ، كلمة لقصيدة أو نغمة لبوح غنائي ، و قد يلتقط مع كل هذا و ذاك تقاسيم وجوه أتعبتها الحياة ، يستعيرها، ينصهر بتفاصيلها ،فيحولها إلى مشهد فني إبداعي، و قد يعلمنا المشهد كيف هو الإنسان و كيف ينبغي أن يكون .
مولاي عبد العزيز الطاهري، من " ساحة بن صالح " خرج إلينا، حاملا في قلبه لوعة من عاشوا " الدَقّة " في الحياة و " الدِقّة " في اختيار تفاصيل الحياة ، مشى مسافات طويلة رفقة أترابه، يسمع ،يلتقط و يصور أجمل ما في الحياة ، فصار رهين محبس جميل يدعى مجازا بجمالية التراث ، لم يكن مولده في " عاشوراء " صدفة ، بل قدرا سيلازمه طيلة مساره الحافل بالنجاح من جهة و بالتأثير على كل الفنون التي ستأتي إليه عارية فيكسوها من سحر فنه و يغدق عليها العطاء العميم ، كان بحق يعرف كيفية الإنصات لنفسه الأمّارة بالسحر الحلال ، ينزوي اليها ،يكلمها ، يجادلها في ذلك الطفل الذي يسكنه ، طفل بألف روح و العمر واحد لا يقبل الانتظار أو التردد ، قلبه مشرع لاسقبال كل هذا الجمال الذي يحيط به ، دروب و أزقة مراكش ،المدينة السمراء الجميلة التي تصدح بالحياة و إيقاعاتها المتنوعة تنوع و خصوبة تراثها الغني حد التفرد ،كان طفلا و لا يزال، يمشي إليه، كلما استطاع للمشي الروحي سبيلا ، و الأسئلة الحارقة توقظ بداخله الرغبة في أن يعلم و يتعلم و يُعَلِّم نفسه قبل غيره معنى أن يلبس عباءة التميز ، لا جلباب التبعية و الاجترار ، ارتوى و تشبع بكل ما لذ و طاب من أطباق تراثية أعلنت التنوع هويةً ، و نصبت نفسها منهلا محددا يشع بالغنى ،و يعطي مجالات أوسع و أرحب للتحليق و الاستثمار الفني و الإبداعي.
كان الطاهري سيد نفسه ، يتأبط حلمه تارة، و تارة أخرى يمشي خلفه ،و هو الحالم حد الشعر و الواقعي حد النقطة الأخيرة في خاتمة قصيدة ، في " شبيبة الحمراء " كان الاحتراق الأول في الموعد ، كان المخاض في بدايته يتربص به ، ينحت على خشبة المسرح تماثيل من عبروا و من سيعبرون ، يكتب يغني و يمثل ، بركان من الابداع ينفجر جمالا ، و التجسيد سيد المواجهة ، و الأسئلة الحارقة تلاحقه في كل كلمة في كل خطوة فوق الركح، إنه في حضرة سيد الفنون : من أنا و من أكون ؟ و اللغة حبلى بالتأويلات و المتاهات ، أ كان لزاما أن أمشي خلفي ؟ و أن أطاوع هذه النار البركانية المشتعلة بداخلي و من حولي ؟ أ كان لزاما أن أعيد ترتيب دقات قلبي على إيقاعات " المازنية " " الدقة " " الهواريات " " اللعابات " " كناوة " ....؟ أن أهب نفسي و كل حياتي لطقوس تلامس الروح قبل الأذن، و تستولي على كل مساحاتي النفسية و الفكرية ؟ إنه المصير الذي لا مفر منه، إنه قدر الصرخة الأولى في يوم " عاشوراء " ، سيكون الرفيق في الطريق و سيلاحقني أينما ذهبت و أينما تواجدت ، كلا إننا نموت كل يوم بألف عاهة ، و البقية مشدوهة بفضاءات الحمق و الجنون ،و أنا اخترت أن اعانق جنونا غير الجنون ، قررت أن أتبعني في جنوني الآسر هذا ، أن أحملني على كتفيا و أن أمضي بي حيث أجدني هناك ، أجلس بجانبي ، قد أعاتبني على سطر في قصيدة ، أو أنتقدني في اختياري لإيقاع دون غيره ، إنه صلح مع الذات لابد منه ، لكي أضمن لنفسي التعايش مع نفسي ، فالقادم من الاحتراقات يقتضي ذلك .
المرحوم " المسرح البلدي " " الحي المحمدي " ، " السنتير " ،و الشَّعرُ الطويل الذي يأبى الانصياع للرتابة ،و قد أعلن العصيان في وجه كل أنواع المشط ، الرافض للحال و المآل ، كانوا خمسة و حب الشعب سادسهم ، يرتلون الجرح ترتيلا، جرحنا و جرحهم ، و جرح كل من سقط سهوا أو عن قصد في مستنقعات التجاهل و الحرمان . كان الطاهري هنا يؤسس رفقة خلانه، ليس فقط لظاهرة غنائية أو موجة فنية شبابية ، لكن كان يعيد هيكلة العقل المغربي ، و زعزعة فهمه الساذج لتصور الوطن و مفهوم المواطنة ، لقد أدرك الشباب الخمسة أن الطريق شاق و الدرب طويل ، و أن التغيير الحقيقي يمكن أن يبتدئ من تهذيب الذوق و عقد تصالح لا مشروط مع التراث ، فالمغربي البسيط مسكون بإيقاعاته التراثية القديمة ، يجد فيها متنفسه الروحي ، فقبل هذا التأسيس المنفرد و المتميز في شكله و رسالته الفنية و الإنسانية ، كان المغربي البسيط ، الفلاح و العامل يعيش المنفى الفني و الاغتراب الجمالي ، فجاءت " ناس الغيوان " و معها مجموعات أخرى لكي تعيد للمغربي هويته الغنائية ، لتمتزج الإيقاعات التراثية القديمة بالكلمات الهادفة التي تحمل خطابات، أقل ما يقال عنها أنها خطابات توقظ الحجر من سباته، توقظ في الإنسان هويته و إنسانيته كذلك ، فأين الطاهري من كل هذا ؟ لقد كان بحق أنشودة ندية منحت بسخاء حاتمي قطرات الغيث الأولى، كان اشراقة صبح ،منحت الضوء و الدفء للخطوة الأولى، كان المحور الدينامي الذي أدار العجلة و معها المقود صوب الدهشة و الجمال ، لقد كان رفقة " بوجمعة أحكور " و " العربي باطمة " السواعد التي حملت و تحملت عبء الظهور الأول ،كتابة و لحنا و تصورا لفلسفة فنية و غنائية ،ستكتسح العالم، تغنت بالسلم و السلام ،تنبذ الظلم و استعباد الإنسان، و كان الطاهري في مرحلة مشواره هذا ،يحفر عميقا فيما اختزنته ذاكرته من نوادر تراثية ، يجعلها تطفو على السطح ،يضيف إليها من سحره ،فتتحول بقدرة من زرع فيه الروح بعاشوراء ،الى تحفة غنائية سيكتب لها أن تعمر بيننا طويلا ، و أنها ستصبح دستورا انسانيا ،يقصده كل مظلوم و منبوذ ،كل عاشق للحياة و للإنسان في مفهومه الكوني ، و يا لغرابة المشهد و سكوت الشهود و حياد المشاهدين ،كيف لرجل بكل هذه الملامح ، الكتابة اللحن و التأسيس ، و يقصى من المنحة أو الهبة الملكية التي تمنح لكل الأعضاء المؤسسين للمجموعة ، فمن كان وراء هذا الإقصاء الممنهج فليتحمل مسئوليته التاريخية أمام الله و أمام التاريخ و أمام الضمير الجماعي .
و بدون سابق إنذار، أبى الطائر الحر إلا أن يحمل وكره بين جناحيه ،و يمضي حيث يجد نفسه هناك ، يرسم كوكبا آخر ، يحلق في سماء أخرى غير السماء ،يغني و ينشر البهجة من فوق أقفاص أتعبتها القضبان ، من فوق رؤوس أطفال يمدون أيديهم للأمل عله يتبرع لهم بجرعة ابتسامة توقظ بداخلهم إشراقة الحياة ، فوق سماء مدينة علمته في الحب و الجمال ما لم يكن يعلم ، و مضى الطاهري في كتابة تاريخ آخر، أعاد للملحون هيبته و حضوره المتوهجين، أعاد رسم خارطة طريق للفن في صورته الحديثة و الحداثية ،حيث تتداخل و تنصهر كل الفنون في مشهد واحد بديع ، و هو المؤمن بالعرض الفني الشمولي ، حيث لأبي الفنون " المسرح " حضوره ، و الصوت الغنائي و الكلمة المزجالة حضورهما، لقد كان بحق مشروعا يغري بالانطلاق و التحليق ، إنه الرافض للصورة النمطية التي تجتر الأشكال و تراها غير قابلة للتحوير و التطوير و التجديد ، و هو الفنان المبدع الذي لا حدود و لا متاريس لفنه ، يركب صهوة الكلمة و يمضي حيث الفكر المجدد ، حيث الإبداع هو المحدد ، و هو الضمانة الوحيدة على الاستمرار، فما أعظم الرجال عندما تبني بالكلمة، و لا شيء غير الكلمة ،قصورا بأعمدة من جمال ، و ما أعظم الرجال عندما تهمس في أذن المحال أن القلم على أهبة الاستعداد ،محشو رصاصه لقصف البشاعة و الميوعة و رداءة البصيرة و عتمة الأبصار .
كان الطاهري، و لا يزال، يمشي خلف حلمه ،يتعقبه في كل فتوحاته الإبداعية في كل غزواته الفنية ، يحرر رقعة فنية من سطوة محتل فني لا يؤمن بالحرية و التحرر الإبداعيين ، شيد قلعة غيوانية هناك و حرر مدينة فنية لأهل جيلالة هنا ، هو الفاتح بأمر الإبداع ، له الحق أن يفخر بكل هاته البطولات ،و لنا الحق أن نفخر أننا عشنا في عصره، و أنه كان بالنسبة لجيلي و الأجيال الأخرى التي تلت ، مدرسة للفن الإنساني النبيل ، و مدرسة للتراث و الفن الأصيل ، لقد كان بحق فاتحا بأمر الابداع .
و لايزال الطاهري إلى يومنا هذا يمشي متكئا على حلمه القديم الجديد ، وفيا لعينه الثالثة التي تترصد المشاهد ، فتحولها إلى تحف جمالية ، مازال يحرض القلم على أن يكسر رتابة بياض الأوراق، يكتب بسخاء قلما تصادفه ، يمارس عشقه الأزلي للكتابة بنفس الحب و بنفس الرغبة و العزيمة ، فالكتابة عنده حياة ، و حياة الطاهري كتاب يعشق و يتغنى بالحياة .
ما كتبته هنا ، ليس قراءة في مسار مبدع كبير يدعى مولاي عبد العزيز الطاهري، و إنما هو انبهار بالقيمة الفنية و الإبداعية لشاعر فنان أعطى و لم يأخذ في المقابل سوى حب شعب بأكمله ،و هذا لعمري أعظم من كل المكافآت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة أسطورة الموسيقى والحائز على الأوسكار مرتين ريتشارد شيرم


.. نحتاج نهضة في التعليم تشارك فيها وزارات التعليم والثقافة وال




.. -الصحة لا تعدي ولكن المرض معدي-..كيف يرى الكاتب محمد سلماوي


.. كلمة أخيرة - في عيد ميلاده.. حوار مع الكاتب محمد سلماوي حول




.. لماذا تستمر وسائل الإعلام الغربية في تبني الرواية الإسرائيلي