الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما لن يقولوه عن حيدر الشيخ علي…ويجب أن يقال

آلان م نوري
(Alan M Noory)

2023 / 6 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


مرت، قبل أيام، اربعينية الفقيد حيدر الشيخ علي، القيادي البارز في الحزب الشيوعي الكردستاني، و قبل ذلك في الحزب الشيوعي العراقي.

يصعب في مناسبة كهذه، في مجتمع تتفشى فيه اعراف (اذكروا محاسن موتاكم) و تقاليد تأليه القيادات التاريخية و تنزيهها عن أي هفوة إنسانية، الحديث عن أي شيء، غير أمجاد و بطولات الفقيد، وهي كثيرة. وقد ادى هذا الدور الكهنوتي، "على اكمل وجه"رفاقه في قيادة حشك، الذين مع تقزُّم دورهم المستمر في المجتمع الكردستاني، باتوا لا يجدون سوى التغني بالامجاد و البطولات الشخصية من الماضي السحيق، عند مسح الاموات بالزيت المقدس، وسيلة لإثبات وجود تعس، هم مصدر تعاسته. وربما تمادوا في دورهم الكهنوتي الجنائزي هذه المرة، حين أصروا على دفنه في مقبرة خصصت لشهداء الحركة الانصارية الشيوعية حصرا.

لن ادعى معرفة عميقة بحيدر الشيخ علي. ولا اريد أن اكتب لمجرد محاولة كسر تقاليد تأليه الراحلين، ولكني أدعي أني رأيته في لحظة تاريخية كانت حاسمة. سأحاول شرحها هنا. و أدعي أن فشل الراحل في فهمها من جهة و قدرته على تعميم فشله في وجدان و تفكير من حوله، ساهمت في تدهور الديمقراطية الكردستانية الوليدة، كما لم يساهم أحد، أو حدث، لا لجهد خارق للعادة قام به الفقيد، بل لكونه القشة المجازية التي قصمت ظهر بعير الديمقراطية في كردستان، وهو بعير عانى الويلات من التركيبة الإجتماعية التاريخية لقادة "الوعي السياسي" فيها، قبل ويلات عنف الحكومات العراقية المتتالية الإجرامي بحق الشعب المبتلى بقادته.

سأرجع بك، عزيزي القارئ إلى 19 مايس 1992 حيث شهد إقليم كردستان أول انتخابات حرة لسد فراغ إداري أحدثه نظام صدام حسين الذي سحب كل الإدارات الحكومية ومؤسسات الخدمة العامة من إقليم كردستان بعد انتفاضتين شعبيتين متتاليتين في السليمانية والمناطق المحيطة بها في صيف 1991، افشلت هاتين الانتفاضتين مفاوضات سيئة الصيت بين قوى ما كانت تعرف بـ الجبهة الكردستانية و نظام صدام، أنتجت مشاهد التقبيل بين صدام حسين ومسعود البارزاني وجلال الطالباني، و تصريحات مضحكة في الصحافة العراقية عن صدام "حكما و ليس حاكما"... وأثناء المفاوضات كان القيادي الكردي كلما شعر بألم في رأسه يذهب للعلاج إلى بغداد ويرجع شافيا بحقيبة صغيرة من الدولارات هدية من الحكم وليس الحاكم. غضب صدام من عدم قدرة مفاوضيه الكرد على تكميم أفواه المواطنين الكرد و على منعهم من "الإساءة إلى الأجهزة الأمنية العراقية" أثناء الانتفاضتين، فقطع المفاوضات وخلق فراغا إداريا في كردستان اجبر الأمم المتحدة على تنظيم ما أرادت لها أن تكون أول انتخابات حرة في إقليم كردستان لتنظيم إدارة مدنية في الإقليم.

الحزب الشيوعي العراقي الذي كان طرفا في الجبهة الكردستانية تحفظ منذ البداية على المفاوضات بين أطراف الجبهة والحكومة العراقية، لكنه احتفظ بتنسيقه مع القوى المتحالفة معه في الجبهة. شارك أنصار الحزب إلى جانب المنتفضين في السليمانية و كرميان في التصدي للقوى الأمنية ومدرعاتها و دباباتها في شوارع المدن و القصبات المنتفضة. اتهمت القوى المشاركة في المفاوضات الحزب الشيوعي بما اتهمه به صدام في السبعينات في كراسه (خندق واحد، ام خندقان).

بدأنا يوم 19 مايس 1992، و اقليم كردستان العراق كان يتوق إلى دخول نادي الشعوب المتحضرة، التي تستطيع أن تؤسس لنظام حكم ديمقراطي تداولي سلمي و مستدام. بدأ اليوم كعرس حقيقي تطلع للمشاركة فيه كل فئات الشعب. كنت حينها صحفيا، عضوا في هيئة تحرير جريدة ناطقة بإسم منظمة إقليم كردستان للحزب الشيوعي العراقي و بدأت اليوم مبكرا مع طاقم التغطية الإعلامية في الجريدة لتفقد مراكز الإقتراع في مدينة اربيل و التجمعات السكانية القريبة منها. منذ الساعات الأولى و بسرعة تحول العرس الوطني الكردستاني إلى كابوس مفزع. تبين أن الحبر الذي جٌلب لضمان صوت واحد لكل ناخب، قابل للمسح بسهولة بمحلول القاصر المنزلي. تحولت العملية الإنتخابية إلى سيرك تتنافس فيه منظمات الحزبين الكبيرين خصوصا على نقل المصوتين و أواني القاصر المخفف في حافلات كبيرة بين مراكز التصويت ليدلوا بأصواتهم في كل مركز مرات متعددة، وحُرمت آلاف مؤلفة من المصوتين الذين أبوا المشاركة في السيرك من حق التصويت بسبب تدافع من كانت رائحة القاصر تفوح منهم و من ملابسهم.

بحلول عصر ذلك اليوم، تداولت قيادة الحزب الشيوعي الموقف و قررت أن سكرتير الحزب آنذاك، عزيز محمد، سوف يعقد مؤتمرا صحفيا يدعو له وفود المراقبين الدوليين و الصحافة المحلية و العالمية ليعلن فشل العملية فشلا ذريعا و يطالب المنظمة الدولية بتحمل مسؤولية فشلها و بإعادة الإنتخابات بعد توفير المستلزمات الحقيقية لإنجاحها…. هنا تدخل الراحل حيدرالشيخ علي!

كان حيدر وقتها مشرفا على محلية اربيل للحزب الشيوعي، أكبر منظمات الحزب آنذاك. وكانت هذه المنظمة تعيش صراعا علنيا بين كوادره حول الهوية الكردستانية في قبال العراقية، انتماءا و تنظيما. كان فشل الراحل في إدارة و توجيه هذا الصراع، وصار الإطار المفاهيمي للحوار يدور على قاعدة المنتج الفكري القومي البائس المستورد من أدبيات الحزبين الكرديين الكبيرين البارتي واليكيتي. تدخل حيدر الشيخ علي في قرار عقد المؤتمر الصحفي بدعوى أن الحزب الشيوعي العراقي يمحو شخصية منظمة إقليم كردستان التي يجب أن يكون لها القول الفصل في الشأن الكردستاني، وان هذه العملية الإنتخابية بإشراف دولي هي منجز كبير للشعب الكردي بعض النظر عن ارتباطه من قريب أو بعيد بالديمقراطية. لذلك لا يصح للحزب الشيوعي الإساءة إلى صورة هذا العرس الوطني. وحين جوبه بواقع أن العملية أصبحت مهزلة على عينك يا تاجر بسبب الغش العلني، سمعت شخصيا جوابه في ممرات مبنى قيادة محلية اربيل التي كانت تضم مكتب جريدتنا أيضا، سمعته يصرخ بأن الحبر الفاسد خلق فرصة متساوية للجميع بالغش. "هم غشوا ونحن غشينا و نغش و سوف نحقق نتائج باهرة"!!!

نجح حيدر الشيخ علي ومتنفذو محلية اربيل في فرض التراجع عن المؤتمر الصحفي و الصمت على العرس الوطني المسروق، واكتفى الحزب الشيوعي بتوبيخ الحزبين الكبيرين في اجتماع مغلق، نتج عنه تقاسم البرلمان الكردستاني الناشئ بين الحزبين 50/50 و تكرس التقاسم المناطقي بين حزبين قائدين أوحدين، كل في منطقته، اطارا لنظام حكم الإقليم، مع مناصب حكومية لترضية الأحزاب التي سكتت عن جريمة وأد الديمقراطية الكردستانية في مهدها، وخرجت الأحزاب و التنظيمات الأخرى من مولد أول انتخابات بلا حمص و تحولت من معارضة إلى شاهدة زور وظيفة وجودها هو تجميل نظام سياسي لا ينتمي إلى العالم المتحضر في أدنى مفاصله. أما على الصعيد الداخلي، فقد تشظت منظمة إقليم كردستان، وصارت لاحقا حزبا فاقدا لهوية تميزه عن الأحزاب القومية الصغيرة التي تعتاش على فتات نهب الحزبين الحاكمين، منذ أكثر من ثلاثين عاما، للمال العام و للثروة الوطنية. مدير عام هنا وآخر هناك…ووزير واحد وحيد كان هو حيدر الشيخ علي في إحدى كابينات التقاسم الإقطاعي الوزاري بين الحزبين. ورغم أنه كان يقف على أكتاف تراث مشرف لوزراء شيوعيين في التاريخ العراقي، من امثال ابراهيم كبة و مكرم الطالباني، إلا أنه كان بحق عاطلا عن العمل و الفعالية في مكتب كبير بلا أي إنجاز يمكن أن يشير إليه شيوعيو كردستان دليلا على أداء مخالف لماكنة الفساد التي لا زالت تنهش في مؤسسات الخدمة المدنية العامة في إقليم كردستان منذ أكثر من ثلاثين عاما.

بررت قيادة الحزب الشيوعي و منظمة إقليم كردستان دورها في تزوير تاريخ أول انتخابات"حرة" في إقليم كردستان بأنها ساهمت بنزع فتيل حرب طاحنة كانت على وشك الاندلاع بين الحزبين ليلة إعلان النتائج. ولكن حتى هذا التفاخر البائس لم يستمر سوى سنتين و نشبت الحرب الطاحنة التي "درئتها حكمة الشيوعيين بتضحيتهم بمصالح الحزب من أجل السلم الأهلي" رغما عن الشيوعيين.

التاريخ لا يعود إلى الوراء ولا يتيح اختبار احتمالات غير ما جرى. ولكن يحق لنا أن نتسائل ماذا لو فشل حيدر الشيخ علي و معه متنفذي محلية اربيل في تحريف مسار الأحداث ذلك المساء؟ هل كنا نقدر على الضغط بما يكفي لفرض إعادة الإنتخابات انتصارا للنزاهة، شرطا للديمقراطية، و بدورها شرطا للسلم الأهلي؟ و هل كنا في أقل تقدير نحافظ على وجود وهوية يسارية لمعارضة لا تقبل تزوير التاريخ؟ ماذا كان سيكون عليه حال إقليم كردستان لو بقي فيه يسار معارض وفيّ للحقيقة، لل يعتاش على فتات الفساد و نهب المال العام؟

لم يتسبب حيدر الشيخ علي في كل شرور التجربة الكردستانية، ولكنه سلب منا امكانيات بدائل تليق بماضيه المشرف و تضحياته الجسام و بطولاته أمام الجلادين في سجون إيران. لم يكن الفاعل الوحيد ولا الفاعل الأول في ما سردت، لكنه سيظل يتحمل وزر كونه الفراشة التي هزت جناحاها فأثرت بتوازنات قوى اعاصير في سماء كردستان المتلبدة، ودفعنا جميعا ثمن الإعاصير هذه باهضا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقاله-وثيقه تاريخيه يجب ان تعمم وليكون في العراق ح
الدكتور صادق الكحلاوي- ( 2023 / 6 / 16 - 05:38 )
حزب تنويري توعوي تثقيفي من اجل بناء التنميه على رجلين صالحتين وعقل ليس تابع للاقطاع والعبودية باسم البروليتلرية البائسه-تحياتي واشد على يديد واكثر رجاء من نشر الحقائق بعيدا عن الدماغوجيا التي سادت في العراق منذ 89سنه بعد انتصار الديماغوجيه قبل قبل 106 في بلاد التخلف كله واعتبروه بروليتاريا وبنوا مجازرا للملايين وقالوا انها سوفيتيه اشتراكيه بولشفيه ومعسكرا اشتراكيا في حين فقدان الحريه والكرامه بل الخبزة ايضا ماركة مسجلة للكذب والرياء للضلال والتضليل -تحياتي


2 - شكرا لشجاعتك آلان
عبدالله عطية شناوة ( 2023 / 6 / 17 - 12:38 )
شكرا آلان لأخلاصك للحقيقة أولا، ولشجاعتك في االإجهار بها ثانيا.

اخر الافلام

.. شبح -الحي الميت- السنوار يخيم على قراءة الإعلام الإسرائيلي ل


.. الحركة الطلابية في الجامعات : هل توجد أطراف توظف الاحتجاجات




.. جنود ماكرون أو طائرات ال F16 .. من يصل أولاً إلى أوكرانيا؟؟


.. القناة 12الإسرائيلية: إسرائيل استخدمت قطر لتعمّق الانقسام ال




.. التنين الصيني يفرد جناحيه بوجه أميركا.. وأوروبا تائهة! | #ال